“تطبيقات النبوة شرط في ضبط النسب الشرعي :زواج المتعة نموذجا “
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والحضارة
وجدة ، المملكة المغربية
أولا: النبوة والتأسيس الشرعي للنسب
حينما جاء الاعتراض من طرف فاسدي النظرو قصيري الفكر على مسألة ولادة سيدنا عيسى من أمه مريم عليهما السلام عن غير أب ،بدعوى أن هذا مستحيل وغير معقول أو ليس بواقعي ، ردهم الله تعالى إلى المبدأ الأول في خلق الإنسان من غير أب وهو آدم عليه السلام ،وهذا أصعب من حيث العادة والتوقع من الوجود الثاني،لأنه مخلوق حي من جماد لا تجمعهما سوى جنسية الإمكان في الوجود ،فلا الحيوية ولا النوعية ولا حتى الصورة الهيكلية يمكنها هان أن تقارب بين الشكل الإنساني وأصله الطيني عند النظرة السطحية الأولى،كما نجد هذا القياس البرهاني في القرآن الكريم وهو يفيد خاصية التحويل في الكائنات حيث يقول الله تعالى “إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون”
فالقياس هنا مؤسس على الوجود والواقع ولكنه قياس الأولى أو الجلي ،لأن المقاس عليه أولى بالاستصعاب مع اعتراف الجميع بأصله الجسدي الطيني من المقاس به ؛هذا المخلوق من كائن حي قريب في جنسه ونوعه صورة ووظيفة وإدراكا، وهو ولادة الأم للابن بغير أب استثناء وخصوصية ومعجزة كما هو شأن سيدنا عيسى وأمه مريم عليهما السلام .
ولهذا فالتسليم بالمقاس به واعتباره يقينيا وممكنا عقليا وواقعيا هو عين المطلوب وصلب البرهان.
فلا غرابة إذن أن يكون التولد الإنساني عبر الأزمان الماضية قد عرف تطورات وظيفية -وأركز على هذه الكلمة -لا التطورات الجوهرية والخِلْقية المباينة ذاتيا لما هو عليه الكائن البشري في يومنا هذا .
إذ من ضمن هذا التطور الحاصل هو ولادة حواء لذريتها على شكل دفعات منتظمة كتوائم ينفصل بعضها عن بعض كما عرفها المفسرون ب “بطن واحد” ،وهي غير ذات آثار سلبية على المورثات واختلالاتها الذاتية بسبب ما يعرف بزواج الأقارب في النسب ،وذلك حينما يبقى هذا الزواج محصورا بين أهل نسب أو سلالة واحدة يدورون في فلكه،وربما يؤدي إلى زواج المحارم وهو الأخطر والأكثر ضررا لدى الشعوب وأصحاب الملل والنحل.
ومن خلال هذا الفصل التو أمي في الولادة الأولى لحواء يكون المشرع هو الذي حدد وجه العلاقة والتزاوج فيما بين توأم دون آخر ،فيكون بذلك قد ضمن سلامة العنصر الإنساني من الأمراض والانقراض ،وبالتالي نظم العلاقة الرحمية فيما بين الأقارب بتقسيمها إلى رحمية محرمية ورحمية غير محرمية، ثم بعد ذلك تقرير النسب والصهر كما ذكره الله تعالى امتنانا على الإنسان وخاصيته الأسرية .
فهذا الوضع الخاص للتطور الأولي عند الولادة الأولى لنوع الإنسان حسب ما ذهب إليه المفسرون للقرآن والأحاديث النبوية الشريفة ونقلوه أيضا من كتب سابقة قد يطرد بصورة علمية وبرهانية وشرعية الأوهام التي يثيرها رواد الشبهات والانحرافات والإباحية حول مسألة شرعية النسب الإنساني الأول بعد آدم عليه السلام!وذلك بزعم أن حفدة آدم وحواء عليهما السلام كانوا من خطيئة بمعنى – حسب زعمهم المريض- أن الإنسانية كلها ناتجة عنها ، وهذا توهيم وإضلال شيطاني وأهوائي منحرف لا أساس صحيح له من الناحية الشرعية المحدد الأساسي للنسب،وأيضا لا مبرر و لا مؤيد من الناحية الوظيفية والخلقية كما وسبق وبينا ،إذ مصطلح الخطيئة ليس من تحديد البشر وإنما المشرع هو الذي يقرر هل هذا الأمر حلال أم حرام ،كما يبين لنا القرآن الكريم هذا الجزم والاستفراد في التشريع وخصوصيته الإلهية وتبليغه النبوي بقوله تعالى”ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ،إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون “”ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعزز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ،ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ،أم كننتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم،إن الله لا يهدي القوم الظالمين “.
إذ كما قد يكون التشريع بحسب الزمان والتطور الوظيفي لجسم الإنسان وتحملاته الخلقية فإنه يأتي أيضا بحسب تطوراته السلوكية والأخلاقية والعقدية ،حتى إنه قد يحرم عليه ما هو حلال عند غيره وكذلك العكس؛ ولو في نفس العصر أو الزمان الذي يوجد فيه هذا المجتمع أو ذاك،كما نجد هذا النموذج القطعي في قول الله تعالى “وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوا يا أو ما اختلط بعظم ،ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون “.
من هنا فإنه يوجد في الشرع أيضا خصوصية تتعلق بالمشرع نفسه ،أي النبي صلى الله عليه وسلم ، بحيث قد أباح الله له أن يتزوج بأكثر من أربعة نسوة كما أباح له أن يتزوج المرأة إن وهبت نفسها له “يأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبيء أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين،قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما “.
في حين سيأتي النهي بعد هذا التحليل للنبي نفسه كتشريع خاص به صلى الله عليه وسلم وذلك تأكيدا لعقيدة حرية المشرع واستئثاره بالعلم والحكمة من شريعته التي شرعها للناس من أجل سعادتهم .
يقول الله تعالى:”لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا”.
فالملاحظ على هذه الآيات تكرار مصطلح النبي ثلاث مرات ،أي هناك تركيز على جانب خصوصية التشريع عند الواسطة النبوية التي عنها يتحدد التشريع العام والخاص تبليغا وتطبيقا عمليا كما هو في موضوع التبني وإلغائه عمليا من طرف النبي نفسه،بمعنى أن المحدد لمفهوم الحلال والحرام هو الشرع المبلغ بواسطة النبي ،ومن ثم فما شرعه وأحله فهو الحلال وما حرمه فهو الحرام ،ولا مجال للحكم العقلي هنا إلا من باب سبر الحكمة والسعي إلى إدراك النعمة المنطوية تحت لواء هذا الحكم الشرعي أو ذاك .
مع هذا فيبقى النبي خاضعا للتشريع العام الذي يشمل المكلفين فيما يتعلق بأحكام العلاقات الرحمية والمحرمية التي لا تتطور إلا وظيفيا كما سبق وبينا حول ولادة حواء للتوأم ،كل توأم يضم ذكرا وأنثى لا يجوز التزاوج بينهما ،وإنما الذي يحل هو الذكر من توأم آخر على سبيل الفصل الذي كان قائما بين البطون ومحتوياتها وذلك على سبيل الخصوصية الوظيفية (الفسيولوجية والبيولوجية )في ذلك الزمان وبحسب التشريع الذي حدد حكمها في التزاوج من خلال آدم عليه السلام الذي كان نبيا ووليا وأبا للجميع.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخضع بنفسه للأمر الإلهي من حيث التحليل والتحريم ولا يلتزم إلا ما شرعه له الله تعالى أو أذن له بتشريعه لأمته فإن هذه الأخيرة ،أي الأمة، سيكون من باب الواجب والمفروض عليها الاقتداء به عقديا وتشريعيا مع مراعاة مراحل التشريع وما فيه من أمر ونهي وناسخ ومنسوخ وتقييد وإطلاق وتخصيص وتعميم…
ثانيا : زواج المتعة بين حكم التجويز والمنع النبوي
إذ من باب ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في باب النكاح ما يعرف بزواج المتعة الذي سيعرف جدلا كبيرا بين أهل السنة والشيعة حول مشروعيته،ومن هنا فسيكون من الواجب تحكيم القاعدة السابقة في تخليص الحق من هذا الموضوع الشائك ألا وهي :التحليل والتحريم لا يكون إلا من المشرع!!!.
فزواج المتعة قد ورد النهي عنه تحريما كما هو وارد في الكتب الصحاح الراوية لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من بينها على سبيل الاختصار ما أخرجه البخاري في صحيحه “باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرا”عن”الحسن بن محمد بن علي وأخوه عبد الله عن أبيهما أن عليا قال لابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر”و”عن أبي جمرة قال سمعت ابن عباس سئل عن متعة النساء فرخص فقال له مولى له إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه”و”عن جابر ابن عبد الله و سلمة ابن الأكوع قال كنا في جيش فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا .وقال بابن أبي حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا .فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة ،قال أبو عبد الله:وبينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ! “.
لا أريد أن أدخل في التفاصيل حول الخلاف الوارد في المسألة ولجوء الشيعة إلى تأويل بعض الآيات الظاهر فيها لفظ الاستمتاع وإسقاطها على زواج المتعة بدون مراعاة السياق كقول الله تعالى:”فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة” .إذ الآية واردة في النكاح المعروف لا في نكاح المتعة ،لأن سياق الآية كلها في النكاح،فقد ذكر أول الآيات أجناسا ممن يحرم زواجهن وأباح ما وراء ذلك ،فيصرف قوله”فما استمتعتم به منهن”إلى الاستمتاع بعقد النكاح المعروف،وأما تسمية الواجب أجرا فقد ورد في القرآن تسمية الاستمتاع المهر أجرا،قال تعالى:”فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن”… ويلخص ابن رشد سند هذا التحريم بقوله:”وأما نكاح المتعة ،فإنه تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم…”.
إذن، فقوة التحريم مؤسسة على التواتر والنص القطعي الدلالة كما في رواية البخاري، إضافة إلى المفارقة العجيبة في الرواية وهي: أن الراوي هو علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه -أي المرجعية الرئيسية والأصولية عند الشيعة أنفسهم -مما يجعلنا نضع علامات استفهام وتعجب عريضة حول تشبثهم بالمتعة دون سائر المذاهب الإسلامية ومخالفتهم للأمر النبوي والرواية العلوية وسلسلة آل البيت الواردة فيها والمؤكدة لنسخ حكمها كما سبق ورأينا!!!
بيد أن المسألة التي جرتنا لطرح موضوع زواج المتعة في هذا السياق ليس هو الاختلافات المذهبية بقدر ما هو الموضوع الرئيسي الذي نعالجه بصفة خاصة ألا وهو حق الطفل ومعه المرأة في زواج المتعة ،إذ أن هذا النوع من الزواج ،على فرض أنه جائز عند البعض ممن لم يريدوا التسليم بالنصوص لأسباب مذهبية تقليدية و أهوائية في نفس الوقت،سيكون مهدرا لحق الطفل واستقرار المرأة معا! بحيث حينما سيحدث حمل بزواج المتعة فمن سيقوم بشؤون هذا الطفل تربية ورعاية وتحقيقا نسبيا، إذ ربما قد لا يحضر الشهود في الزواج ويكون الدخول بغير إعلان كما سنرى حكمه لاحقا كما قد يكون نفي للحمل أو الزواج أصلا!،وهذا كله يدخل في حكم السر،لأنه قد تتم المتعة في ظرف ثلاث ليال وهي غير داعية أو كافية لضرب الدفوف وإعلان النكاح!،ومن ثم قد يضيع الولد وتضيع أمه وتضيع الرابطة الحميمية والمودة التي تجمع بين الرجل والمرأة على سبيل التناسل والتواصل والاستمرارية،إضافة إلى أن المرأة ستصبح مادة للتداول الجنسي غير المحدد و عرضة للشبهات والقذف حينما يعمم هذا الإجراء في زمن: النساء فيه أكثر عددا من الرجال!
في حين أن المجتمع قد يصبح عبارة عن مجتمع أيتام وأرامل مفتعلين حينما يتم أجل الاستمتاع ويغادر المستمتع البلد الذي تواصل فيه جنسيا مع المستمتع بها…
من هنا فتحليل المتعة من المشرع في فترة ما لم يكن سوى تمهيد تشريعي لتفادي واجتناب ما هو أخطر وأسوأ كما ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أنكحة الجاهلية، وكما ورد الحكم في تحريم الخمر من البسيط إلى المركب ومن التنبيه على المضار والمنافع مع المقارنة إلى التحريم الصارم والناسخ لكل حكم سابق،وهذا حال حكم زواج المتعة المنسوخ نصا ،ولا نسخ بعد نسخ المشرع!!!