أداء الشعائر بين الشكل والجوهر
المصطفى حميمو
بمناسبة هذا الشهر الفضيل وكالعادة، ينصب الاهتمام على كيفية أداء فريضة الصيام في مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. وهو الأمر الجميل والجيد والصحي والمطمئن للنفوس على دوام وهج ديننا الحنيف في قلوب المسلمين. لكن ما بالنا بمن عاش يؤدي مختلف الشعائر، من صلاة وصوم وزكاة على أحسن وجه، ثم يُكبّ في النار يوم القيامة؟ نــــعـــم، فذاك هو مصير المُفلس وفق منطوق الحديث الشريف الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: “المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته، وصيامه، وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار”.
معنى ذلك أن غياب الحرج من انتهاك حرمات العباد يُبطل في نهاية المطاف صحة أداء الشعائر من صلاة وصوم وزكاة ولو تم أداؤها شكلا على أفضل وجه. فالمفلس الذي يُلقى في النار يوم القيامة هو من جاء بصلاته وصيامه وزكاته وقد شتم هذا وقذف هذا، فانتهك بذلك حرمة عرضه وهي ثاني مقاصد الشريعة. وأكل مال هذا فانتهك حرمة ماله، وهي ثالث مقاصد الشريعة. وسفك دم هذا وضرب هذا فانتهك بذلك حرمة نفسه وهي أول تلك المقاصد.
فالمفلس يوم القيامة هو من عاش يركّز اهتمامه على شكل أداء الشعائر على حساب جوهرها، وكأنها مقصودة لذاتها. فما انتفع بها كما ينبغي لأن الله الذي فرضها لا حاجة له بها وهو الغني عنها وعن العالمين. فعاش يسأل ويستفتي دائما عن كيفية أدائها بأدق التفاصيل مع إغفال المقصود من إتيانها وهو جوهرها، ولا أقول مع إهماله لأنه غالبا ما تجده غائبا تماما عن ذهن كل من المستفتي والمفتي. فيكون ذاك المفلس يوم القيامة قد عاش بسبب ذلك يجمع بين نقيضين. يجمع بين أدائها على أحسن وجه من جهة ومن دون الامتناع عن انتهاك حرمات العباد من جهة ثانية. فلا عجب من أن وجدها باطلة يوم الحساب لما خفّ كفة ميزان حسناته ورجحت كفّة سيئاته وكُب في النار. فيبقى المقصود من أداء الشعائر أي جوهرها هو الأهم، والذي باستحضاره على الدوام في الحياة اليومية يُستعان به على اجتناب انتهاك حرمات العباد.
فيصلي المصلون خمس مرات في اليوم وهم يدعون الله في كل ركعة بقولهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. أي إياك نطيع الطاعة المطلقة فلا ننتهك حرمات العباد. وإياك نستعين على تلك الطاعة بنفس الدعاء طيلة اليوم حتى لا نكون يوم القيامة من المفلسين ولا نُكب في النار. ويتذكرون ويستحضرون قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]
ويصومون شهر رمضان بالامتناع الطوعي عن استهلاك الطيب الحلال. ويستعينون على ذلك بالصبر على الجوع والعطش وهم يفكرون في تطويع النفس الأمّارة بالسوء وترويضها كي يصبروا ويصوموا طيلة باقي السنة على مجرد الاقتراب من الحرام. يصومون على مجرد الاقتراب من الحرام بمعنى يمتنعون طيلة السنة عن انتهاك حرمات العباد حتى لا يكونون من المفلسين يوم القيامة.
ويُخرجون الزكاة في كل سنة إن كانت تجب عليهم. فيؤدونها لمستحقيها كديْن في ذمتهم وهم لا يعرفونهم. فيبحثون عنهم ويُمكّنونهم منها لإبراء ذمتهم، والله شاهد عليهم. فيكونون بذلك طيلة باقي السنة أقدر على قهر النفس وأداء كل ما ترتبت عليهم من ديون وواجبات وأمانات مادية أو معنوية فيؤدونها عن طواعية وبيسر لأصحابها الذين يعرفونهم، فلا ينتهكون حرمة حقوقهم حتى لا يكونون من المفلسين يوم القيامة.
ويؤدون فريضة الحج إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ويوم عرفة الذي سيعودون منه في نهاية المناسك، يقفون فيه وهم يفكرون في يوم الحشر الذي لا رجعة منه. قال صلى الله عليه وسلم “الحج عرفة”. فيكونون بذلك كمن استلقى حيّا في قبر ثم خرج منه وهو يقول لنفسه أنه سيأتي يوم لا مخرج منه. فيتعظ ولا تنتهك حرمات العباد طيلة ما تبقى من حياته ويكفّر عما سبق من سيئاته برد ما بقي في ذمته من حقوق لأصحابها، حتى لا يجد نفسه من المفلسين يوم القيامة.
ويُشمت من يخلط بين الذنب والسيئة لما يستحضر قوله تعالى: ﴿.. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾. فيكون كمن توقف عند قوله تعالى:﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴾. الذنب يترتب عن الإساءة للنفس وهو الإسراف على النفس في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [ الزمر: 53]. فذلك بين العبد وربه بمعنى ليس فيه إساءة لغير المذنب. إن شاء غفر وإن شاء عذب.
بخلاف السيئة المترتبة عن الإساءة للغير. فتتطلب من المسيء التعويض عن الأضرار التي لحقت الضحية في الدنيا قبل الآخرة أي الكفّارة بلغة القرآن. فتأمل ذلك الفرق بين الذنب والسيئة في قوله تعالى: ﴿…رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ [ آل عمران: 193]. مثل ذلك كمثل شرطي المرور لما يرتكب السائق مخالفة في السير من دون إحداث ضرر للغير. إن شاء عاقبه وفق القانون وإن شاء عفى عنه، ولا ضير. لكن يختلف الأمر لما تترتب عن المخالفة حادثة سير مع أضرار للغير. حينها لا بد من اتباع المسطرة التي تكفل للضحية الحصول على التعويضات اللازمة مع معاقبة السائق وفق القانون على مخالفته.
ولله المثل الأعلى. فلا بد من تعويض المُساء إليه إما عن طواعية في الدنيا أو كرها يوم الحساب كما ورد في حديث المفلس. اللهم إن شاء الله أن يكفّرها عنه بتعويض الضحية يوم الحساب، فيضيف حسنات إلى حسناته من دون نقص من حسنات المسيء، أو ينقص من سيئات الضحية من دون طرحها على سيئات المسيء الذي نفدت حسناته. وتلك هي قراءتي لذلك الدعاء في قوله تعالى:﴿… وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ والله أعلم. والكيّس من يحتاط لنفسه قبل يوم الحساب فيجتنب ما استطاع انتهاك حرمات العباد ويستعين على ذلك بأداء الشعائر لما يستحضر دوما جوهرها أي المقصود منها بقدر ما يفكر في شكلها.
ذلك الجوهر الذي ينبغي عدم إغفاله ولا إهماله، بل ينبغي التأكيد عليه منذ الصغر وطيلة مراحل التعليم وفي خطب الجمعة وفي حصص الوعظ. وبفضل ذلك فقط يظل المسلمون مؤمنين حقا. فالإيمان لا يتحقق إلا بخشية الله. ومن يخشى الله حقا يجتنب ما استطاع انتهاك حرمات عباده التي هي مقاصد كل الشريعة أي المقاصد من كل أوامره ونواهيه. وهكذا لا يحِق عليهم ما حَق على الأعراب في قوله تعالى:﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة الحجرات: 14].