نورالدين زاوش
تعتبر رواية “1984” التي ألفها الكاتب العالمي “جورج أورويل” سنة 1948 أشهر رواياته على الإطلاق، والتي حاول من خلالها توقع تفاصيل مستقبل طبيعة الأنظمة الشمولية، ووصف طبيعة تركيبة شعوبها النفسية والسيكولوجية بدقة عجيبة، حتى باتت هذه الرواية؛ رغم أنها من وحي الخيال، من أكثر الكتب منعا في العالم العربي وروسيا وفي بعض البلدان الغربية.
تدور أحداث الرواية في إمبراطورية “أُقْيانُوسْيا”، وهي واحدة من ثلاث أعظم إمبراطوريات ذلك الوقت، وبالضبط، في مدينة لندن التي تعج بالفقر المدقع والبيوت المهترئة؛ إلا ثلاث بنايات ضخمة تمثل وزارات الحب المختصة في إنفاذ القانون وسير النظام، ووزارة السلم المختصة بمجال الحرب، ووزارة الوَفْرة المكلفة بالاقتصاد؛ ورغم ضخامة هذه المؤسسات إلا أنها بدورها تبدو مجرد بنايات متواضعة أمام بناية وزارة الحقيقة المختصة في الأنباء والتعليم والفنون، والمكتوب على جدرانها شعار غريب فحواه: الحرب سلم، والحرية عبودية، والجهل قوة.
تكتسي وزارة الحقيقة أهميتَها مِن كونها تضم فرعا يُدْعى قسم التسجيلات، وتتمثل مهمته الأساسية في تدوين الأحداث التاريخية التي تجرى في إمبراطورية أُقْيانُوسْيا، وكذا الترويج لصورة “الأخ الاكبر” الذي يعتبر قائد الإمبراطورية الفذ وزعيمها المبجل بدون منازع؛ وعلى الرغم من ذلك فإن لا أحد من الشعب يعرف صورته الحقيقة ولا اسمه الحقيقي، يكفي أنه يراقب الجميع، ويعرف كل شيء عن الجميع. هذا ما كان يزعج “وِينْسْتًون سْمِيت”، الشخصية الأساسية في الرواية، بالإضافة إلى “أسبوع الكراهية” الذي تخصصه “أقيانوسيا” للشعب الذي يحتشد في الساحات من أجل سب وشتم وإهانة “كولد شتاين” الذي يظهر على الشاشات العملاقة؛ ومن أجل إظهار مشاعر الكره الشديد والغضب العارم اتجاهه، على أساس أنه يعتبر العدو الأول للإمبراطورية من منطلق أنه جرّب إشعال الثورة ثم نجح في الهروب من البلد.
لقد ركّزت هذه الإمبراطورية في إذعان الشعب وإخضاعه على تزيف التاريخ أولا، رافعة شعار: من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي؛ وهو ما يفسر أهمية وزارة الحقيقة على باقي الوزارات، ثم اعتمدت على وزارة الوفرة التي تقتل الشعب بالتجويع والتفقير، ووزارة الحب التي تعذب الناس أشد العذاب على مجرد المشاعر السلبية التي قد يشعروا بها اتجاه “الأخ الأكبر”، مثلما عُذِّب بطل الرواية “وينستون سميت” حتى عاد يحب “الأخ الأكبر” أكثر من الجميع، وصار يعشقه من صميم قلبه وبكل إخلاص وتفان.
أما إمبراطورية “أُقْيانُوسْيا”، فهي رغم كثرة الأنظمة الشمولية في العالم، إلا أنها لا تطابق سوى “الإمبراطورية الجزائرية العظمى”، والتي قال عنها “تبون” بأنها تمثل لإفريقيا ما تمثله الصين للعالم.
أما “الأخ الأكبر” الذي لا أحد يعرف صورته أو اسمه، فليست إلا أجنحة الحكم التي تتقاتل فيما بينها، دون أن يعرف أحد من المواطنين أعدادها أو ألوانها أو أشكالها؛ بل إن “تبون” في حواره الشهري لشهر فبراير من السنة الفارطة قال بأن الجزائر هي الأخ الأكبر لدول إفريقيا.
أما “كولد شتاين” الذي يقيم شعب “أُقْيانُوسْيا” مراسيم لسبه وشتمه واحتقاره والتنفيس عن غضبه ليس إلا المغرب، “العدو الكلاسيكي” كما قال “شنقريحة، أعزكم الله؛ وما حادثة سب المغاربة في مدرجات الملاعب، وعلى مرأى ومسمع الجميع؛ إلا واحدة من هذه الطقوس الوضيعة التي لا تعد ولا تحصى.
أما وزارة الوفرة، فمشاهد الطوابير التي تغزو الشوارع الجزائرية المهترئة، ومشاهد المعارك الضارية التي تحدث كل يوم، بين المواطنين على أبسط المواد والسلع والأدوية وحتى الألبسة تخبرك اليقين. أما زارة الحقيقة التي تمارس الخداع الواعي تحت شعار كلما زاد الفهم زاد الخداع، وكلما زاد الذكاء قلّ التعقل، فقد تمكن نظام العسكر الجزائري من تزييف كل شيء: التاريخ والجغرافيا والتراث والحضارة، وزوَّر كذلك الأرقام والأعداد والألوان، ولم يبق له سوى أن يزور أسماء الأيام والشهور والفصول وتكتمل اللائحة.
وفيما يخص وزارة الحب التي تقلب مشاعر الناس من النقيض إلى النقيض، فيكفي أن تنظر إلى مشاعر “المعارضين” للنظام الجزائري قبل دخولهم للسجن ومشاعرهم بعده، ولنا في السياسية المعروفة “لويزة حنون” خير مثال؛ حيث إنها خرجت من السجن لا تردد سوى أسطوانات العسكر المشروخة بكل صدق وتفان، وكلها حب خالص وعشق حتى الثمالة في شخص “الأخ الأكبر”.
نورالدين زاوش
عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة