النفس الإنسانية بين التناقض الذاتي والوظيفي
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والحضارة
المملكة المغربية
أولا: بين الهوى والتسويل طريق طويل
إن النفس الإنسانية بمواصفاتها المتناقضة وظيفيا قد تجمع ،كما نعتها القرآن الكريم، بين الأمر بالسوء من جهة وبين الجهل بذاتها وعواقب سلوكياتها،وبهذا فتبقى دائما هي المستحث للإنسان الواعي على أنماط من السلوك قد لا تكون في صالحها، في حين قد تتأرجح ما بين مفهوم الهوى والتسويل، إلا أن الهوى قد يكون دائما قبل التسويل ،الذي يعني استحثاثا ذاتيا وملحا ، لأن هذا الأخير من نتائج الأول ويمثل الامتداد التطبيقي للموقف الأهوائي.
ومن نموذجه ومعناه نجد في قول الله تعالى:”وجاءوا على قميصه بدم كذب،قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا. فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون “، “فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي”.
إذ الملاحظ في هاتين الآيتين أن “التسويل” قد يأتي مباشرة بعده تطبيق الموقف أو النية المبيتة، وكأنه –التسويل- فكرة متحركة ضاغطة . والتطبيق عمل متحرك،بينما السابق هو فكرة ساكنة،قد أخذت مكانها واستوطنت في أعماق الإنسان ، سيحددها مستوى تأمر النفس وميلها إلى السوء ،عبر عنها القرآن مرة بالهوى ومرة بالزيغ ومرة باتباع الظن،وهذه كلها صور للنفس الأمارة بالسوء والتي قد لا تستطيع أن تميز بين الفكرة وأبعادها ونتائجها،نظرا لتلبسها المادي وانطوائيتها الذاتية.
فنجد من بين هذه الأوصاف في قول الله تعالى:”فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأوليه ” وقوله تعالى:”وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا، إن الله عليم بما يفعلون”و”ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ” و”فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا”.
وفي نفس السياق نجد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد لنا الميل النفسي في ميدان الشهوات والتي هي ذات عواقب مهلكات،غير أن المستسلمين للتأمر النفسي قد لا يدركون خطورتها سواء كانت الشهوة معنوية أو مادية.
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره”.
وهذا من بديع جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشق عليها”.
وهذا الميل الشهوي الطاغي على النفس الإنسانية قد يحجبها عن الاستبصار بالعواقب المترتبة عن الاندفاع في تحقيقه ،و يتم على مستوى تغير النظرة والتقييم الموضوعي للأشياء،لأن الذات قد تحتجب عن العواقب حين استغراقها في إشباع ذاتها من الجانب الشهوي ،و لا يتم هذا بلغة الشهوة واندفاعاتها وإنما بواسطة العنصر الواعي في الإنسان، ولكن من حيث هو مراقب للوظيفة الجسدية أو النفسية الشهوية.
من هنا فقد تصير الأحكام لديه مناقضة لما يقتضيه وعيه من حيث الرؤية السليمة للوظيفة الجسدية والنفسية وأبعادها.
وقد دل على مثل هذا التحول النفسي في إصدار الأحكام قوله تعالى:” أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا،فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء،فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون “،”بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة “.
“والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما “.
ثانيا: النفس من عارض الشهوة إلى عارض الشبهة
إذ أن عارض الشهوة قد ورث عارض الشبهة، ومن ثم تخلى العنصر الواعي في الإنسان عن الموقف الصحيح وأصبح فيما بعد سجين الذات والملذات:”وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد”.
وقد دل على هذا الاندفاع الشهوي المضاد للمصلحة الذاتية رغم وجود الوعي والإدراك ما ورد في الحديث: عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى، فقيل له ما يبكيك، قال شيء سمعته من رسول الله فأبكاني.سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية!. قلت يا رسول الله: أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال: نعم،أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا، ولكن يراؤون بأعمالهم” والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه “.
عند هذا الضعف النفسي المترتب عن الاندفاع الغريزي ستصبح التصرفات لدى الإنسان غير مضبوطة،سواء على المستوى العقدي أو الجسدي أو المالي وما إلى ذلك، بسبب الاحتجاب وضبابية الرؤية لدى الشخص الواعي،لغاية أنه قد يصبح الشخص البالغ سن الرشد في حكم الطفل الصغير الفاقد لكمال التمييز،وهذا ما يعرف بالسفه .
والسفه إما أن يكون ذاتيا وإما أن يكون مؤججه عاملا خارجيا متمثلا في تغرير شيطاني غير مرئي، لغته من جنس حديث النفس .
ففيما يخص السفه النفسي نجد عدة صور تحدده إما على المستوى العقدي وإما على المستوى السلوكي أو هما معا،كما أن السفه قد يأخذ طابعا مرضيا وآخر عرضيا يزول بزوال أعراضه. وأسوأ هذه الأنواع من السفه هي ذات الطابع العقدي المرضي.إذ أن الانصراف عن العقيدة الصحيحة والتخلي عن اتباعها مقابل اتباع أهواء ذاتية هو مرض نفسي بالدرجة الأولى،شأنه شأن الأمراض التي تطرأ على الإنسان في تصرفاته المالية والمادية بصفة عامة.
غير أن السفه العقدي أخطر وأسوأ،لأن العقيدة كنز ثمين وثروة تمثل عصب الحياة الباقية.ولهذا فلا ينبغي تبذيرها أو إهدارها بالاستغناء عنها والجري وراء السراب القاتل،ومن هنا سيستحق صاحب هذا الإجراء صفة السفه ،لماله من دلالة على ضعف التمييز وخلل النفس الإنسانية في تفضيلها الأدنى على الأولى والأعلى.
وهذا المعنى يمكننا استلهامه من قول الله تعالى:”ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه،ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين”،”سيقول السفهاء من الناس ما ولا هم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم”.
فالسفه العقدي -كما قلنا- أسوأ من السفه المالي والسلوكي بصفة عامة،وذلك لأن الاعتماد العقدي أساس الانضباط المالي وتقنين التصرف فيه. إذ أن السفه المالي مستدرك أما السفه العقدي فهو صعب الاستدراك لأنه غير قابل للتناول أو الحجز والتحجير،ولهذا فحيثما وجد سفه عقدي إلا وكان تابعه سفه مالي واقتصادي وسلوكي عام كنتيجة حتمية.
لكنه قد يوجد سفه مالي وقضائي إجرائي ولا يوجد سفه عقدي،وعند وجود السفه المالي سيكون الاستدراك عمليا ممكنا،وذلك عن طريق الترشيد والاختبار والتربية والتعضيد، قد يصبح السفيه معه فيما بعد شخصا كامل الأهلية،يمكنه التصرف في ماله بكل حرية واختيار،ويمكنه أن يصبح قابلا للتقاضي والشهادة،وبهذا سيصبح السفه غير ذي أثر على توازن المجتمع واستقراره المالي والقضائي.