لا يجرمنكن شنآن قوم على إحلال هويات قاتلة مكان الهوية الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يجرمنكن شنآن قوم على إحلال هويات قاتلة مكان الهوية الإسلامية
الحسن جرودي
يعتبر مفهوم الهوية من بين أهم المفاهيم المائعة التي تتيح مجالا واسعا للاستغلال إيجابا أو سلبا، وذلك بحسب طبيعة العلاقات المستهدفة بين البشر أفرادا وجماعات، ومن ثم نجد أن الذين يهدفون إلى وحدة الشعوب والأمم، يعملون على نسج هذه العلاقات في إطار هوية جماعية قوامها العناصر المشتركة، مع استيعاب جل عناصر الاختلاف في نفس الوقت، بينما يجتهد الذين يخططون لتقسيم هذه الشعوب وتجزيئها إلى كيانات تفتقر إلى الحد الأدنى من الثوابت والخصوصيات التي تميزت بها عبر التاريخ، في انتحال هوية تتأسس على النبش في عوامل الاختلاف مهما كانت تافهة، والنفخ فيها من أجل التفرقة، مع المثابرة على إحياء صراعات أكَل عليها الدهر وشرب كلما وُجدت، وإلا يتم العمل على اختلاق أخرى حديثة هدفُها “احتجاز الآخر في انتمائه الأضيق” واختزال الهوية في بعد واحد يجعل منها “هوية قاتلة”، على حد تعبير أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة”، لأنها ببساطة ترفض الآخر المختلف، مع الإشارة إلى أني لا أتبنى الإيديولوجية أو المرجعية التي يروم الترويج لها في ثنايا هذا الكتاب.
وإذا كان التاريخ يشهد على مجموعة من الكوارث الإنسانية، بسبب انتحال هويات قاتلة على غرار النازية والفاشية، مرورا بالهوية الصربية التي تسببت في مجازر البوسنة…فلا شك أن الاستمرار في انتحال هذه الهويات سيتواصل ما دامت تنطلق من دوافع عقدية، أو إيدلوجية، أو غيرها من المنطلقات التي تستبيح دماء وأعراض الآخرين، دون اعتبار لأدنى المبادئ الإنسانية والأخلاقية، على غرار ما يلاحظ في الهند حيث تسود الهوية الهندوسية التي يُستند إليها في تقتيل المسلمين والفتك بهم، وفي الصين حيث السبب الرئيسي في البطش بكل من اشتُمت فيه رائحة الإسلام راجع إلى الانتساب إلى الهوية الإلحادية، لتاتي الهوية الدينية للصهاينة في قمة الهويات القاتلة، لكونهم يعتبرون كل من لا ينتمي إليها حيوانا، كما تم التصريح بذلك علنا أثناء الحرب التي يتم شنها على أهل غزة، وهو ما يبرر استمرارهم في الإبادة الجماعية لهذا الشعب الذي يَظهر من خلال تصريحات مسؤوليه أنهم يتشبثون بهوية جماعية تُدمِج العرب والمسلمين وكل أحرار العالم، وتترفَّع عن عناصر التفرقة والانشقاق، على الرغم من تواطؤ جل حكام الدول العربية والإسلامية مع الكيان الغاصب، ناهيك عن المساندة اللامشروطة لحكا م الدول الغربية الذين تتماهى هويتهم مع هوية الصهاينة.
ولكون “الهويات القاتلة” من بين أهم الآليات المعتمدة في خدمة المشروع الغربي عموما، والصهيوأمريكي خصوصا، فإن العمل جار على قدم وساق لاستنباتها داخل المجتمعات العربية والإسلامية أساسا، أو النفخ في الكامنة منها، علما أنها لا تقل خطورة عن الهوية الصهيونية، ولا تختلف عنها سوى في الجهات التي تتولى تنفيذ مقتضياتها، ذلك أنه إذا كان القتل والإبادة في هذه الأخيرة يَتِمان بشكل مباشر، وبأيدي الصهاينة أنفسهم، فإن الهدف من هذا الاستنبات هو الاقتتال بين أفراد وطوائف المجتمع الواحد، وذلك إما عن طريق هوية مرتبطة بالمكان، كما هو الشأن بالنسبة “للهوية الصحراوية” في المغرب، أو مرتبطة باللغة على غرار الهوية الأمازيغية، في المغرب والجزائر على سبيل المثال، وهلم جرا…مع الإشارة إلى أن هذا النوع الأخير من الهويات هو الذي كان الدافع الأساس وراء تحريري لهذا المقال، وذلك بسبب الخطورة التي يمثلها على كل من المغرب والجزائر، إن على المستوى الرسمي أو الشعبي، خاصة إذا علمنا أن الدفع في اتجاه الاعتراف بالأمازيغية كلغة رسمية والتنصيص عليها في دستوري البلدين، لم يكن شأنا داخليا، وإنما كان بفرض من الجهات الخارجية المعروفة أهدافها وتوجهاتها.
وإذا كانت خطورة هذه الهوية المصطنعة في المغرب، تنحصر لحد الأن في خلق حزازات بين العرب والأمازيغ، بعدما كانت تجمعهم لقرون عديدة الهوية الإسلامية التي استوعبت كل الأطياف المجتمعية، وفي استنزاف القدرات المالية والبشرية للبلاد، من خلال المجهود الذي يتطلبه تعميم تدريس الأمازيغية ومختلف الحيثيات المرتبطة بهذا التعميم الذي لن تكون له أية قيمة مضافة في تقدم البلاد وازدهارها، مقارنة بالأضرار والشروخ التي بدأت تظهر بوادرها على أرض الواقع، فإنها في الجزائر أخذت بُعدا أخطر، بعدما أعلن فرحات مهني عن استقلال دولة القبائل، وطالب دول العالم ومنظماته “بالاعتراف الرسمي بهذه الدولة الفتية المستقلة عن دولة الجزائر لخصوصياتها الثقافية واللغوية والتاريخية” حسب ما ورد في مقال لإحدى الجرائد الإلكترونية. وإذا كان مهني حسب موسوعة ويكبيديا الحرة قد “سافر إلى إسرائيل، في عام 2012 والتقى بنائب رئيس الكنيست، وأعرب عن دعمه وتضامنه مع إسرائيل، وقارنها بالقبائل، حيث قال: «نحن في بيئة معادية، كلا البلدين يشتركان في نفس الطريق، ولكن إسرائيل موجودة بالفعل – وهذا هو الفارق الوحيد»، كما تَوَعَّد بفتح سفارة إسرائيلية في منطقة القبائل في حال استقلالها” فإن هذا دليل قاطع على كون هذه الهوية من “الهويات القاتلة” يتعين الاحتياط منها، وعدم التسرع في الانحياز لهذا الكيان المراد استنباته من خلالها، مما يدفع بنا إلى التساؤل عن الدوافع التي أدت “بالفعاليات” التي التأمت يوم السبت 20 أبريل بمدينة أكادير في إطار “اللجنة المغربية لدعم استقلال دولة القبائل”، إلى التصريح “بأن قرار فرحات مهني ينسجم مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومناشدة المملكة المغربية والمنتظم الدولي الإنصاف التاريخي والسياسي لشعب القبائل عبر الاعتراف الرسمي بدولته، والضغط على النظام الجزائري لإطلاق المعتقلين القبائليين بخلفية سياسية”، أهي دوافع تنحصر في معاكسة النظام الجزائري الحالي، أم هي دوافع مبدئية؟ والحقيقة هي أن النتيجة واحدة في كلتا الحالتين، حتى وإن بدت الدوافع مختلفة، ذلك أن المستفيد الأساسي هو العدو الصهيوني، ومعه الغرب الذي أخرجه للوجود، وما على الذين يشككون في هذه النتيجة سوى الاطلاع على تفاصيل المخطط الإسرائيلي كما أبرزها الدكتور أحمد ويحمان في كتابه “بيبيو الخراب على الباب”، ذلك أن الانطلاق من دوافع معاكسة النظام سوف لن يزيد هذا الأخير إلا تعنتا، مما قد يدفع به إلى إعلان الحرب على المغرب، وهو أمر جد محتمل بالنظر إلى العقلية التي يتم من خلالها تسيير شؤون البلاد والعباد، اللهم إلا إذا رضخ لضغوط خارجية لا قدرة له على مواجهتها، كما أن الانطلاق من “مبدأ” حق الشعوب في تقرير المصير يُعتبر مساندة مباشرة لانفصاليي الصحراء المغربية من جهة، ومن جهة أخرى، يمكن اعتباره خطوة تكتيكية في المساعدة على إنضاج الظروف المواتية للمطالبة باستقلال كيانات مغربية انطلاقا من هويتها اللغوية، وبما أن الأمازيغ المغاربة تتعدد لهجاتهم، فإن مجرد مطالبة أحد مكوناتهم “بالاستقلال” سيَفتح الباب أمام باقي المكونات لتبني نفس المطلب، الذي لن يكون انطلاقه لا قدر الله، إلا في إطار تفاعل تسلسلي (réaction en chaine) يصعب إيقافه.
في الأخير أتساءل كيف يُسمح لمثل هؤلاء بالتعبير عن مثل هذه المواقف التي لن تخدم سوى مصالح العدو الصهيوني بصفة خاصة، والغرب بصفة عامة، إذ كيف يتم السماح بالتشجيع على الانفصال والتشرذم عندنا في الوقت الذي لا يقرونه عندهم، ولنا في إقليمي الباسك في إسبانيا وكورسيكا في فرنسا أمثلة حية على وعيهم بأن القوة والعزة لا تُطلب عن طريق هذه الهويات القاتلة، وإنما عن طريق اعتماد هوية مستوعبة لمختلف الهويات الفرعية. ومن هذا المنطلق سوف لن نجد أحسن من الهوية الإسلامية التي برهنت على قدرتها على استيعاب مختلف أطياف مجتمعات المغرب العربي، والتي سبق وأن أعطت ثمارها أثناء الحرب التحريرية التي تكاثفت فيها الجهود لإخراج المستعمر من الباب، ومن ثم فإن التفريط في هذه الهوية واستبدالها بهويات قاتلة على غرار الهوية الأمازيغية، يُعد بمثابة تمكين المستعمر الغربي والعدو الصهيوني من الدخول من النوافذ، بعد انتهاء الطابور الخامس من بني جلدنا من أمثال المساندين للعناصر الانفصالية تحت أية ذريعة كانت، من تدمير الجهاز المناعي لدى شعوبنا الإسلامية، وهو الأمر الذي لن يتحقق لهم بإذن الله، خاصة وأن أحداث غزة أبانت على أن هذا الجهاز لا زال قادرا على الدفاع عن نفسه كلما استوجب الأمر ذلك.
وختاما أقول لكل الذين يتخذون من موقفهم من النظام الجزائري مطية لمساندة الانفصال: لا يجرمنكم شنآن قوم على استبدال الهوية الإسلامية بهويات قاتلة لا مصلحة ترجى من ورائها سوى الانفصال والتشرذم الذي يؤول لا محالة إلا إلى الاقتتال.
الحسن جرودي