صمت في السوق
محمد شحلال
يعتبر السوق الأسبوعي بجماعة،،سيدي لحسن،،القروية،من أكبر الأسواق في المنطقة كما تؤكد ذلك وثائق المستعمر الفرنسي.
كان هذا السوق مركز استقطاب لكل القبائل المجاورة على مر السنين الماضية،حيث كان المتسوقون يتجشمون عناء الطريق ليقضوا الليل بمقاه تقليدية حتى يتمكنوا من تصريف مبيعاتهم ثم اقتناء حاجياتهم الضرورية،وعلى رأسها،،متلازمة السكر والشاي،،!
كان الناس يتقاطرون على السوق على ظهور الاف الدواب وبكل درجاتها،لتظل الشاحنات القديمة مجرد نشاز في فضاء يسود فيه فائض من الفطرة في كل شيء.
كانت الشاحنات القليلة تفد على البلدة قادمة من تاوريرت أو دبدو،وكان جلها محملا بأكياس السكر والشاي من الدرجات غير المصنفة،لكنها كثيرا ما كانت تعود أدراجها في موسم الأمطار،حيث يتعذر عليها الالتحاق بالسوق بسبب أعطاب الطريق غير المعبدة يومئذ،كما كانت رحلة الحافلة اليتيمة الرابطة بين البلدة ومدينة جرادة تخلف وعدها فتختل معه أجندة المسافرين.
اشتهر سوق بلدتنا بمصنوعاته المحلية كالحصير وبعض مستلزمات البدو من برادع وغيرها،لكن هذا السوق اشتهر على وجه التحديد بضجيج استثنائي حتى غدا مضرب مثل في البلدات والمدن المجاورة،حيث كان البعض لا يتردد في التعبير عن انزعاجه من الأصوات بمقارنة جاهزة :
هل أنت في سوق ،،أولاد عمرو،،؟( وهو اللقب غير الرسمي للبلدة).
لم يكن في الأمر مبالغة،ذلك أن الوافد على السوق،كان يستقبله صراخ قوي وغامض وهو على بعد كلمترات من السوق، حتى ليخيل اليه وكأن أمرا جللا حدث بهذا التجمع البشري العابر !
لقد الفنا نحن- معشر أبناء البلدة- سماع هذه السنفونية المزعجة والمتوارثة حتى غدت أمرا طبيعيا،بينما كان يستهجنها الزوار الغرباء ويعتبرون ذلك نموذجا من الفوضى وربما خللا في الأخلاق !
كان من الطبيعي أن يتعالى نهيق الاف الحمير وضجيج بعض الرحي،لكن الحقيقة التي لا ينكرها أحد،هي أن الأصوات التي كانت ترتفع الى عنان السماء،انما هي اصوات البشر ،وهي أصوات يستحيل فك شفرتها،وظل التفسير السائد بين كبار السن،هو أن هذه السوق،كانت تعج بالجن !
لقد كان لهذا التفسير بعض ما يجعله مقبولا،حيث ان الضجيج الذي يصم اذان القادمين الى السوق ما يلبث أن يلين بمجرد الاقتراب من المكان،بل ان المرء ليكتشف بأن الامور عادية بالداخل،ولا يوجد ما يفسر ذلك الضجيج الذي يتردد صداه بين المرتفعات !
ولعل من طريف ما يروى عن ضجيج سوق بلدتي الضارب في القدم،أن أحد الأقارب كان قد طلب من زميله ايام الشباب،أن يهتم بقطيعه يوم السوق ليكتشف هذا المكان لأول مرة ويأتيه بأخباره،فلما صار على مشارفه،باغته الضجيج الغامض وما كان منه الا أن أطلق ساقيه للريح هربا من خطر داهم،فلما التحق بزميله الذي يتلهف لسماع الأخبار،اوضح صاحبنا بأنه نجا بأعجوبة من أهوال ما يحدث بالسوق،ذلك أن قوة الصراخ الذي سمعه قبل الوصول،انما كانت دليلا على حدوث اقتتال بين الناس،وربما سالت دماء كثيرة لن تتأخر أخبارها !
لم يعد الناس يسمعون ضجيح السوق الأسطوري منذ سنوات عديدة،ويكاد السوق يتحول الى ملتقى هادىء لولا نشاز مكبرات صوت بعض الباعة،فهل يعود الصامت السائد اليوم الى تراجع عدد المتسوقين،أم أن ،،الجن،، قد غادر المكان ؟
تذكرت ضجيج سوقنا في الماضي وأنا أذرع جنباته أمس،حيث ارتسمت في ذكراتي صور بعض كبار التجار ممن كان حضورهم لافتا قبل عقود طويلة،ومنهم والد المستشار الملكي الراحل،،بلفقيه،وعبد الرحمان القضياوي ) المعروف بعبدالرحمان الكلعي )الى جانب بعض اليهود الذين ظلوا مزودين لاغنى عنهم للساكنة بعباءات خاصة بالبدو ناهيك عن نعال صالحة لكل التضاريس !
ولعل اللافت في أمر سوق بلدتنا،أنه كان ضحية تناسل الأسواق وتراجع الوافدين عليه ،حتى غدا ملتقى متواضعا ما يلبث أن ينفض بعد ساعات معدودة ،بينما كان في الماضي البعيد يقارن بسوق،،النمل،،الذي تمتد أسرابه وتتقاطع على مدار اليوم…