تحول في مدرستي الأولى
محمد شحلال
في نهاية سنة1961،تم تشييد مدرسة ،،عين سالم،،على الطريق الرابطة بين بلدة سيدي لحسن ومدن تاوريرت ودبدو وعين بني مطهر.
بنيت المدرسة وفق هندسة تراعي الظروف المناخية السائدة يومئذ،حيث كانت الأمطار والثلوج في الموعد على مر السنين.
وهكذا،كان القسم الفسيح واليتيم على شكل نصف دائرة
مما يجعل الأمطار والثلوج تنزاح عن السقف بسلاسة،كما شيد سكن ،،وظيفي،،متواضع للمعلم بجانب فصل الدراسة،بينما كان يتم جلب الماء من العين المجاورة التي حملت المدرسة اسمها،وكان التلاميذ يتناوبون على حمل دلاء الماء،قبل أن يتكلف أحد الشباب من المقيمين بالجوار بهذه المهمة مقابل ربط علاقة مع،،الميط،، مما يعتبر تميزا !
كان الشاب مفتول العضلات ،وكان يقضي معظم أوقاته برفقة معلمين بحاجة لتزجية الوقت في فضاء ليس فيه من وسائل الترفيه إلا ثغاء الشياه ونهيق الحمير،لكن المسكين لقي حتفه بعد سنتين من افتتاح المدرسة إثر شجار مؤسف.
كنت قد درست سنتين بأحد الكتاتيب بمدينة جرادة،لكنني اضطررت لمغادرته لألتحق ،،بالتعليم العصري،،الذي قد يعفيني من متاعب،،الطالب،،الذي يدبر شؤونا معقدة،لعل أهمها علاج المرضى،وتزويج العوانس،ثم تغسيل الموتى وترويض الأزواج المتنطعين إرضاء للنساء اللواتي ينفقن بسخاء في هذا المجال.
خلال الموسم الدراسي :1961/ 1962،دخلت قسم،،التحضيري،،مع عشرات التلاميذ الذين تساهلت السلطات في التحاقهم بالمدرسة لتوفير،،النصاب،،رغم تفاوت الأعمار الذي كان لافتا،ذلك أن كثيرا من الرعاة قد أقيلوا من مهامهم فجأة ليخوضوا تجربة،،السكويلة،،.
كنت أقطع أزيد من كلم ونصف كل يوم،وكان توفير وجبة الغذاء بالمدرسة يخفف من عناء الطريق،خاصة وأنه قد أصبح بإمكاننا أن نتناول خبزا من الدقيق الأمريكي الأبيض والذي كان معبأ في أكياس مازلت أحفظ العبارة المطبوعة عليها:
،،هدية من الشعب الأمريكي،، !
لم نكن نعلم شيئا عن هذا البلد عدا أنه، خيمة كبيرة،،مادام يجود علينا بدقيق ممتاز وجبن أنسانا في السمن المحلي الذي فقد ريادته وصار منتوجا منفرا.
كان عمر مدرستي الأولى قصيرا،ذلك أنها أغلقت أبوابها بعد الموسم الرابع بعد أن غادر جل المتعلمين الذين أرغموا على العودة إلى مهامهم الأصلية،وهو ما جعل معظم الأهالي يخربون محتويات الفصل قبل أن يحولوه إلى حظيرة لأغنامهم في موسم الأمطار والبرد.
وبعد سنوات من القطيعة،عملت السلطات على تفكيك الفصل اليتيم وشيدت مدرسة متكاملة بالجوار استطاعت الصمود بعدما تغيرت نظرة الأهالي،واختفى جيل الكبار الذين كان الفقيه يعفيهم من مشقة تعليم الأبناء وحل مشاكلهم بما عهد في،،الطلبة،،من خبرات تغني عن الطبيب ،وتحارب الجن والنحس…
لقد كانت مدرستي الأولى معلمة حقيقية من حيث معمارها المتفرد،وشاءت الأقدار أن يقوم السكان ببناء مسجد على أنقاضها حيث لا تتجاوز مساحته مساحة الفصل الذي درسنا فيه،بل إنني كلما أديت الصلاة هناك،إلا وشعرت وكأنني أدخل الفصل الذي قضيت فيه ثلاث سنوات تعلمت خلالها على أيدي معلمين التحقوا جميعهم بعفو الله،وعلى رأسهم ابن البلدة السيد محمد بالعابد الذي اشتهر بخطه الأسطوري.
ستظل مدرسة ،،عين سالم،،ماثلة في الذاكرة كلما مررت من هناك في اتجاه مدينة تاوريرت،ولعل من حسن الصدف أن إحدى تلميذاتي السابقات، كانت قد عينت للتدريس هناك قبل سنوات وكان اللقاء بها مناسبة لوضعها في صورة الأحداث المتعاقبة لا سيما وأن هذه المدرسة كانت منطلق مساري الذي توالى عبر محطات لم تخطر يوما على البال !
وإلى جانب طابعها المميز،فإن مدرسة،،عين سالم،،تعيد إلى ذاكرتي شخوصا بصموا المكان يومئذ،وفي مقدمتهم،المرحوم والزاهد السيد ،،علي نكموشة،،الذي تقع العين بجانب بيته والذي كان وجها مألوفا في القبيلة،كما استحضر المرحوم،،عمرو بويلفان،،الذي اشتهر بفكاهته،حيث كان يتردد على معلمينا فيشرع في قفشاته التي تجعلهم يضحكون إلى حد البكاء.
وإذ أقلب صفحة مدرستي الأولى،فإنني أود أن أحيي كل زملائي الذين انقطعوا عن الدراسة مبكرا،ومازالت روابطنا مستمرة،كما أغتنم الفرصة لأترحم على ارواح معلمينا الذين انتقلوا إلى جوار ربهم….