“الحكم للوجود” قاعدة فقهية متقدمة لحماية الطفل والمرأة
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والحضارة
أولا: الحكم للوجود وحق المرأة في حماية وإثبات النسب
إن النسب في الإسلام قد تأسس على ضوابط قارة في الواقع الكوني؛ وتدور به في فلك لا يستطيع معه أن ينفلت أو يختل بمجرد وجود سحاب عابر في طريقه أو هبوب عواصف بجانبه، سنة الله في خلقه ف”لن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا”.”لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون”.
فمن دلائل هذا الربط الكوني بالنسبي الإنساني في الوجود وجدنا القرآن يشير إلى هذا المعنى في سورة يوسف حينما عبر عن رؤياه لأبيه يعقوب عليهما السلام :”يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ،رأيتهم لي ساجدين “الآية .
فعبر عن الأب والأم بالشمس والقمر وعن الإخوة بالكواكب،وأن هذه المجموعة الشمسية لابد وأن تكون من أصل واحد تترابط فيما بينها وتدور في أفلاكها بالالتزام والتواصل الضروري الذي يؤسسه النسب والنسبة ،رغم ما يبدو في بعض الأحيان من اهتزازات شكلية في وجه الانسجام الحاصل بين أطراف الشجرة ،إلا أن الجذع الرئيسي المشترك يبقى هو المحكم والثابت الذي لا يستطيع معه الفرع أن ينكر أو يستنكر نسبته إليه،يقول الله تعالى:” ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر ،كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير”.
من هنا فإن الفقه الإسلامي يعتبر قاعدة الوجود كأهم القواعد العلمية في صياغة الأحكام واستنباطها وضبطها حتى تصبح ظاهرة الحكمة معقولة المعنى ،فكان بهذا تصريح الفقهاء في إصدار فتاواهم وهي مبنية على قاعدة أكيدة وثابتة ألا وهي “الحكم للوجود” أي الحكم للواقع الذي يدخل في إطار المعنى الضروري لا بالمفهوم الطبيعي المحض ولكن بمعنى التكرار وثبات قاعدة الاستنتاج ،فكان أول ضابط للبنوة الشرعية وتحقيق النسب سواء بالنسبة إلى الأب أو الأم هو عنصر الزمن المحدد بدورات الأفلاك وخاصة الشمس والقمر كما سبق وربطنا الموضوع.
إذ حق النسب مسألة مشتركة بين الأب والأم على حد سواء،رغم أن الأصل فيه هو الأب،بحيث يبقى للأم الحق في أن تقبل بهذا الولد المنسوب إليها أو ترفضه إذا لم تكن هناك بينة وشهادة على هذه النسبة أو الولادة غيرها.
من ثم فالأم في الإسلام تبقى هي المحددة للنسب وشرفه واتصاله،وبذلك كانت مستأمنة على عرضها وعرض زوجها وأولادها ،إذ صلاحها هو أساس صلاح المجتمع وصلاح الفرع في اتصاله بالأصل .
لأهمية المرأة ودورها الرئيسي في حماية النسب وحفظ الطفل من الهلاك والضياع أو التخلي المؤدي إليه فإن أول امتحان ودلالة على صدق إيمانها ووفائها بالبيعة التي تجعلها على قدم المساواة مع الرجل لتحقيق الاستقرار الأسري والمصلحة الاجتماعية والنفسية والعقدية كان هو الالتزام بالحفاظ على سلامة نسب الطفل وحماية حقه في الوجود والتربية والنشأة الصالحة والمستقرة ،يقول الله تعالى “يا أيها النبيء إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن لله غفور رحيم “.
فهي نفس البيعة التي بايع عليها الأنصار من الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة عند العقبة الأولى والتي تسمى أيضا ببيعة النساء رغم أنه لم تكن هناك أية امرأة فسميت باسمهن لتغليب خصوصيتهن في هذا المجال ولأن النص القرآني القطعي ركز عليهن في هذا الامتحان بالدرجة الأولى، فكانت بهذا هي أهم مستأمنة على نسب الطفل ومصيره،وهذا ما عبر عنه عبد الله بن سلام رضي الله عنه عند قول الله تعالى “الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم،وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون”لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه :”أتعرف محمدا كما تعرف ولدك؟قال:نعم وأكثر،نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته،وابني لا أدري ما كان من أمه”.
فتبقى الأم إذن صاحبة الحق في النسب دائما حين مطالبتها به أو إلزامها إياه ،وهي الواسطة الرئيسية في إلحاق الولد بولده على القاعدة الشرعية المتمثلة بالدرجة الأولى في الزواج الصحيح وضوابطه الزمانية والمكانية ،إذ كما يقول بدران أبو العينين :”وأما كون النسب حقا للأم فيظهر أن من حقها صيانة الولد من الضياع ودفع تهمة الزنا عن نفسها،ولهذا صلحت الأم أن تكون خصما في دعوى نسب ابنها من أبيه ما دام في يدها ،لا فرق بين أن تكون الدعوى مجردة خالصة وبين أن تكون ضمن دعوى أخرى كنفقة أو حضانة عنه.
فلا تصلح خصما في دعوى نفقة الابن على أبيه لانعدام صفتها بزوال يدها ،لكنها تصلح خصما في دعوى نسب الولد المجردة لأنها صاحبة مصلحة حقيقية في إثبات نسب ولدها من أبيه لتدفع عن نفسها تهمة الزنا ،فكونها أما للولد كاف في اعتبارها ذات صفة في دعوى النسب التي لها ارتباط وثيق بالأمومة “.
كما أن إثبات الأمومة ونسبة الطفل إليها قد ينبني على أسس نفسية عاطفية محضة وذلك حينما لا توجد بينة غيرها عند التنازع والاختلاف ،وهوما نجد في باب إذا ادعت المرأة ابنا في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكما إلى داود عليه السلام فقضى للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه ،فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما ،فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها ،فقضى به للصغرى “.
فكان هذا المسلك جد متقدم في إصدار الأحكام عند التنازع وهو منهج الأنبياء والرسل والذين يقتدون بهم ،وذلك بالتركيز على الحقيقة الداخلية للإنسان عند التنازع وغياب البينة الظاهرية وجزئياتها ،ومن هنا كان لابد من وضع المسألة النفسية في الاعتبار عند إصدار الأحكام لدى القضاة حتى لا تصبح أحكامهم عبارة عن إسقاطات مادية جزافية محضة أو احتمالات طبية جسدية وخلوية تتشابه وتتداخل أو تتغالط ،ومن هنا يمكن إدراج الثقافة الصوفية كضرورة في تكوين القاضي حتى يكون على بينة بواقع حاله وحالة نفس غيره .
فالولد يبقى لصيقا بأمه سواء قبل تمييز خلقته أو بعدها ،ومن ثم فتكون هي الحاكمة عليه بقاعدة الوجود سواء في إثبات ابتداء قرئها أو حيضتها أو في إثبات انتهاء عدتها و استبرائها، وذلك بنفس العارض الوجودي الذي يهم جسدها ووظائفه .لكنها مع هذا تبقى خاضعة لقاعدة زمنية ومكانية يحددها عقد الزواج والواقع الملازم له بحسب الوظائف الثابتة للحمل والولادة ،وبحسب التواصل المحقق أو المفترض بين الزوج والزوجة والمبني على قواعد ملزمة لكلا طرفي العقد .
ثانيا : الحكم للوجود مع ضبط مدة الحمل العادي والاستثنائي
فمبدأ الحكم للوجود يعتبر قارا عند الفقهاء ،ويبنونه على معطيات واقعية وحسابات رياضية لا تدع مجالا للشك في المسألة،ومن ثم فالوجود عندهم يشمل العادي والاستثنائي،وهذا الأخير هو الذي تنبني عليه الأحكام عند التقاضي لأنه ناذر الوقوع ومتكرر في نفس الوقت،ومن هنا فلا يمكن تحجير الحكم وقصره على الظاهر البين والمعروف عند العام والخاصة ،وإلا ضاعت حقوق وواجبات بسببه للفرد على حساب الجماعة وأسقطت أحكام جاهزة وجائرة على أشخاص بريئين وذوي حقوق ثابتة ؛لا ذنب لهم سوى أنهم قدر لهم هذا الاستثناء الذي لا يتنافى مع الإمكان الواقعي ولا الإمكان الذهني عند التأمل والتفكر .
من النماذج الأولية والقضايا الاستثنائية والناذرة في باب حماية النسب والتي لها حكم الوجود قد نجد موضوع سن الحيض مثلا كما في المغني لابن قدامة يقول عنه :”وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين ،لأن المرجع فيه إلى الوجود ،وقد وجد من تحيض لتسع،وقد روي عن الشافعي أنه قال :رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة ،فهذه إذا أسقطت من عمرها مدة الحملين في الغالب عاما ونصف وقسمت الباقي بينها وبين ابنتها كانت كل واحدة منهما قد حملت لدون عشر سنين ،فإن رأت دما قبل ذلك فليس بحيض لأنه لم يوجد مثلها متكررا،والمعتبر من ذلك ما تكرر ثلاث مرات في حال الصحة ولم يوجد ذلك فلا يعتد به،فإن بلغت سنا تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة سنة فعدتها ثلاثة أشهر في ظاهر قول الخرقي وهو قول أبي بكر،وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي ،وضعف أبو بكر الرواية المخالفة لهذا وقال :رواها أبو طالب فخالف فيها أصحابه ،ذلك ما روى أبو طالب عن أحمد أنها تعتد سنة ،قال القاضي :هذه الرواية أصح لأنه متى أتى عليها زمان الحيض فلم تحض صارت مرتابة يجوز أن يكون بها حمل منع حيضها،فيجب أن تعتد سنة كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده ،ولنا قول الله تعالى :”واللائي يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن “…”.
هذا الاستنباط قد يكون له ارتباط بإجراء عملي واقعي للنبي صلى الله عليه وسلم من حيث تحديد سن الحيض في زواجه بالسيدة عائشة رضي الله عنها كما يروي البخاري عنها في صحيحه :”أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين ،قال هشام بن عروة:وأنبئت أنها كانت عنده تسع سنين “.
فالنص في المغني يتضمن قواعد فقهية رئيسية في استنباط الحكم وهي: الوجود والتكرار والعدد .
إذ الوجود معتبر بالتكرار؛ والتكرار معتبر بالعدد، والعدد محصور في ثلاثة تكرارات ،و هذا كله مستنبط من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،وتنبني عليه أحكام عدة وخاصة ما يتعلق بقضايا الزواج والطلاق والعدة والأيمان و الكفارات …
بالجملة فكل ما يدخل في حكم التثبت من الوجود وتكراره يطبق فيه هذا العدد الثلاثي حتى يصبح مصدرا للحكم في مسائل فقهية وقضائية عند التنازع… وهذه القواعد تخصص كلها أو جلها في تحديد الثوابت الزمانية والمكانية للحمل .
فمن حيث الثوابت الزمانية عند بدايات الزواج نجد أقل مدة الحمل كمحدد قطعي لصحة النسب والظروف المؤسسة له .