“ضبط أقل مدة الحمل بين حكم السر والإعلان بالزواج”
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والفقه والحضارة
وجدة ، المغرب
أولا:نكاح السر وخطره على اعتبار أقل مدة الحمل
يقول أبو عمر بن عبد البر النمري الأندلسي صاحب كتاب “التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد” : أن “من فرض النكاح عند مالك إعلانه لحفظ النسب”.
فالإعلان عند مالك ليس بمجرد شهادة الشاهدين فقط وإنما إعلانهما للنكاح ،ومن هنا اختلف الفقهاء حول اعتباره هل هو سر أم لا؟و ذلك في حالة أشهد الشاهدين ووصيا بالكتمان هل هو سر أم ليس بسر؟ فقال مالك:هو سر ويفسخ،وقال أبو حنيفة والشافعي ليس بسر…وأما مالك فليس يتضمن عنده الإعلان إذا وصي الشاهدان بالكتمان .وسبب اختلافهم هل ما تقع فيه الشهادة ينطلق عليه اسم السر أم لا؟والأصل في اشتراط الإعلان قول النبي صلى الله عليه وسلم”أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف “خرجه أبو داود .
كما قد ورد في المدونة حول نكاح السر عن ابن وهب عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن رجل نكح سرا وأشهد رجلين قال:إن مسها فرق بينهما واعتدت حتى تنقضي عدتها و عوقب الشاهدان بما كتما من ذلك و للمرأة مهرها ،ثم إن بدا له أن ينكحها حين تنقضي عدتها نكحها نكاح علانية، وقال ابن وهب مثله.قال ابن وهب قال يونس قال ابن شهاب :وإن لم يكن مسها فرق بينهما ولا صداق لها ،ونرى أن ينكلهما الإمام بعقوبة والشاهدين بعقوبة فإنه لا يصلح نكاح السر”.
فالسرية لا تكون إلا داخل الحياة الزوجية وإرخاء الستور،وخاصة فيما يستحيى من ذكره مما يقع بين الزوج وزوجته من تواصل غريزي ،وهذا يعتبر مبدأ أخلاقيا رائدا من أخلاق الزواج التي لا يجوز إفشاؤها لأي كان ،طالما أنها داخلة في حكم الفراش ومقتضياته المشروعة،مما يقتضي حينما يتطلب الأمر الشرعي الدلالة على جنس إجراءاتها بالكناية دون الإفصاح ، كما ورد النهي عن إفشاء هذه السرية في الأحاديث النبوية الشريفة عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”إن من أشر الناس عند الله يوم القيامة ،الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها”
إذ هذا الإفشاء سيكون بمثابة نقض للعهد والميثاق الذي أخذه كل من الزوجين على بعضهما عند العقد من حيث الصيانة وكتم السر والاستئمان على العرض والمال والنسب كما عبرت عنه الرواية الأخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها”.
لكن هذا الإفضاء تكون له نتائج متعددة منها استكمال الحق في الصداق وإيجاب النفقة وبالتالي الإلزام بالنسب حينما يترتب عنه حمل ،وهذا ما نتبينه من خلال قول الله تعالى:”يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ،ولا تعضلوهن لتذهبوا بعض ما آتيتموهن إلا أن ياتين بفاحشة مبينة ؛وعاشروهن بالمعروف،فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا،وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ،أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ،وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا”.
فالصداق في مسألة السر قد يحكم به عند المالكية على أساس العلانية بالزواج ككل ،إذ يؤخذ بعين الاعتبار موضوع الإشهاد في الزواج كوسيلة رئيسية لمنع الخلاف بين الزوجين ،ولهذا فليس من الضروري أن يعلن عنه كما يعلن عن الدخول وإنما يكون الإلزام بالإشهاد فقط ،وذلك لأنه مسالة قابلة للتجزؤ والتقسيم و الزيادة والنقصان ،وحتى إن وقع الخلاف فيعاد به إلى ما يعرف بصداق المثل ولو بعد الدخول ،بينما هذا الأخير لا يعرف تجزيئا و لا تقسيما لأنه يؤدي إلى إلحاق النسب بالضرورة الملزمة وإلا فاللجوء إلى اللعان في حالة النفي والاتهام .
من ثم يكون الفرق بين إعلان الصداق والدخول يتحدد بالمرجعية التي يعاد إليها عند الاختلاف كما ورد عن صداق السر في المدونة :”قلت:أرأيت إن سمي في السر مهرا وأعلن في العلانية مهرا قال:قال مالك:يؤخذ بالسر إن كانوا قد أشهدوا على ذلك عدولا”.
إذ هنا يترتب حكم استحقاق الصداق فيما يعرف بإرخاء الستور وهو الإعلان بالدخول أو الاتصال فيما قبله،كما نجد هذا الحوار الفقهي في المدونة:”قلت:أرأيت إن قال الزوج بعدما دخل بها وأرخى الستر لم أجامعا ،وقالت المرأة قد جامعني ،أيكون عليه المهر كاملا أو نصف المهر في قول مالك ؟قال :قال مالك عليه المهر كاملا والقول قولها ،قلت :فإن اجتلاها في بيت أهلها وخلا بها فطلقها قبل البناء ،فقال الزوج: لم أمسها ،وقالت المرأة:مسني،قال مالك:القول قول الزوج أنه لم يمسسها إلا أن يكون قد دخل عليها في بيت أهلها دخول اهتداء،والاهتداء هو البناء “.
هكذا تختلف الأحكام بحسب مكان التواصل بين الزوجين،فهو إما مكان يكون فيه الحق للزوجة في صداقها وفي اعتبارها فراشا كاملا وما يترتب عنه من حمل ونسب ،وإما أن يكون في مكان الحق فيه للزوج بعدم إلزامه الصداق كاملا من جهة،وكذلك النفقة المتربة عن الدخول أو الدعوة إليه .
بيد أن النسب والحمل يبقيان معتبرين إذا أقر الزوج بهما وتحقق العنصر الرئيسي في الإلزام بالإلحاق وهو: إمكان الاتصال والولادة في حدود أقل مدة الحمل وهي الستة أشهر،فيكون استحقاق الصداق كاملا وكذلك النفقة تابعين لهذا الإقرار ومترتبين عنه، اللهم إلا إذا لجئ إلى النفي واللعان ،وهما في هذه الحالة قد يكونان أسهل قضائيا من النفي واللعان عند إعلان الدخول وإرخاء الستور في المكان الذي يكون فيه الحق للزوجة .
ثانيا: إعلان الزواج وقوته الواقعية في حماية نسب الطفل
إذ بالدخول المعلن يكون الزوج مباشرا لزوجته ومراحل حملها ،ومن ثم فلو أبدى أبسط إشارة الرضا بالحمل ولو سكوتا يكون ملزما له و حائلا بينه وبين اللعان ،لأنه يكون إقرارا بالولد،والإقرار هو سيد الأدلة كما يقال،بحيث نجد نماذج من المسألة في المدونة الكبرى كالتالي:”قلت:أرأيت لو أن رجلا نظر إلى امرأته حاملا وهي أمة أو نصرانية أو مسلمة فسكت ولم ينتف من الحمل ولم يدعه حتى إذا هي وضعت الحمل انتفى منه،قال :قال مالك:إذا رأى الحمل ولم ينتف منه حتى تضعه فليس له أن ينتفي منه بعد ذلك حرة كانت أو أمة أو كافرة ،فإن انتفى منه حين ولدته وقد رآها حاملا فلم ينتف منه فإنه يجلد الحد لأنها حرة مسلمة ،فصار قاذفا ،وهذا قول مالك،وأما الكافرة والأمة فإنه لا يجلد فيهما لأنه لا يجلد قاذفهما.قلت:فإن ظهر الحمل وعلم به ولم يدعه ولم ينتف منه شهرا ثم انتفى منه بعد ذلك؟قال:لا يقبل قوله ذلك ويضرب الحد إن كانت حرة مسلمة ،وإن كانت كافرة أو أمة لم يضرب الحد ولحقه الحد،قلت:ويجعل سكوته هاهنا إقرار منه بالحمل ؟قال:نعم.قلت :فإن رآه يوما أو يومين فسكت ثم انتفى منه بعد ذلك ؟قال:إذا ثبتت البينة أنه قد رآه فلم ينكره أو أقر ثم جاء بعد ذلك ينكر لم يكن له ذلك”.
بل قد نجد تأديبا موجعا وعمليا بإقامة الحد على من نفى الحمل بعد الإقرار به كما يروي البيهقي في السنن:”أن عمر رضي الله عنه قضى في رجل أنكر ولد امرأته وهو في بطنها،ثم اعترف به وهو في بطنها ،حتى إذا ولد أنكره…فأمر عمر فجلد ثمانين جلدة لفريته،ثم ألحق به ولدها.”وروى البيهقي أيضا وعبد الرزق وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه قال:” إذا أقر الرجل بولده طرفة عين فليس له أن ينفيه”.
فهذه الفتاوى كلها تتضمن حماية لحقوق الطفل والمرأة معا بالدرجة الأولى، ومن خلالها يتبين مدى خطورة المرحلة ما بين العقد والدخول والتي يكون فيها كلا طرفي الزواج معرضين لإسقاط حقي كليهما بحسب الدعاوي والاختلافات الطارئة على العلاقة بينهما: إما بتأثير شخصي وعاطفي وإما بتدخلات قد تكون عائلية في كثير من الأحيان ،وقد تكون خارجية بسبب الإغراءات والحيل والسعي إلى التفرقة بين الزوجين بدوافع الشر: عن طريق النميمة والوسوسة وفي أحيان كثيرة عن طريق استعمال الوسائل الشيطانية من سحر وكيد وما إلى ذلك مما أصبح منتشرا بكثرة في مجتمعاتنا المنحدرة نحو الجهالة والانحراف…
وحينما نتحدث عن موضوع اللعان وضبط النسب عند الاختلاف فليس ذلك عل سبيل تشجيع العمل به بصورة مكثفة وفتح المجال الأوسع له ،وإنما من باب التنبيه على عدم إسقاطه من الحسبان عند التقاضي ورفع الالتباس حين الاقتضاء والضرورة ،وذلك حتى يبقى مجرد استحضاره في الذهن رادعا نفسيا عن الاسترسال في إهدار الأنساب وحقوق الطفل وأمه وكذلك أبيه ،لأن المسالة فيها حماية لكل عناصر المجتمع على حد سواء .
هذا؛ إذا علمنا أن موقف الفقهاء من إعلان اللعان أو حتى جلد الحد يميل إلى التقليل من مظاهره الإجرائية مع إبقاء سوطه معلقا للتنبيه والتحذير وحماية المجتمع من الفساد،وهو ما نلحظه في فتاواهم وخاصة المالكية في المغرب والأندلس، مع التفريق بين اللعان لنفي النسب واللعان في التهمة بالزنا لتقليل إجراءاته العلنية.
إذ كما نجد في “البهجة في شرح التحفة”:”إن كان اللعان لنفي الحمل فهو واجب لئلا يلحق بنسبه ما ليس منه،فتجري عليه جميع أحكام الأنساب وإلا فالأولى تركه بترك سببه،لأنه من الأمور التي نص الشرع بالستر عليها لقول صلى الله عليه وسلم :”من أصاب شيئا من هذه القاذورات فليسترها بستر الله”.ويستحب له طلاقها إن لم تتبعها نفسه فإن وقع بسببه صدقا وجب لوجوب دفع معرة الحد والقذف إلخ..وفي المعيار عن سراج ابن العربي: أن شهادة الرجل على زوجته برؤية الزنا مكروهة إذ لا تفيد أكثر من الفراق ،والفراق مع الستر أفضل ،وأما شهادته على نفي الحمل فواجب لئلا يلحق بنسبه ما ليس منه “،”قال :وقع في زمن الأمير أبي يحيى رحمه الله تعالى،وتلاعنا بجامع الزيتونة وقد وقع بعد ذلك مرة أخرى ولا غرابة في وقوع سببه في هذا الزمن لكثرة المفاسد،نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ،قلت :وقد وقع أيضا مرارا بعد الأربعين والمائتين والألف بجامع القرويين من فاس صانها الله،و إذا علمت ما مر من وجوبه ،فما في لامية الزقاق ونظم العمل من أن العمل جرى بترك اللعان مطلقا من فاسق وغيره لا يعول عليه لأنه خلاف الكتاب والسنة،ولا أبعد من جريان العمل بمحرم الذي هو ترك الواجب”.
قد يضاف حكم لحماية نسب الطفل رغم أن الأم تكون قد ارتكبت جريمة الزنا أو الخيانة الزوجية- كما يعبر عنها حديثا- .بحيث إن نفي الولد أو قبوله يكون مرتهنا بالمدة الزمنية التي أقر فيها الزوج بأنه رأى زوجته تزني،والمدة المحكمة هي أقل مدة الحمل ،أي : إذا أقر بأن زوجته زنت منذ ثلاثة أشهر وجاءت بالولد في الشهر الرابع فإنه لا ينبغي له أن ينفيه بحسب إقراره على الفترة التي اتهم فيها زوجته ،إذ الحمل كان قبل أن رآها فيما اتهمها به،ويسمى هذا النوع من اللعان بالإلتعان على الرؤية .
حول هذا الموضوع تتحدث المدونة بطرح الفرضيات وضبطها بالمدة القارة وهي: الستة أشهر ،كما روى سحنون:”قلت: فإن جاءت بالولد من بعد ما التعن بشهرين أو ثلاثة أو بخمسة أيلزم الأب الولد أم لا؟قال:نعم .لأن الابن إنما هو من وطء هو به مقر وأنه يزعم أنه رآها تزني منذ خمسة أشهر والحمل قد كان من قبل أن يراها تزني ،قلت:أفيلحق به الولد أم لا في قول مالك؟ قال :قد اختلف فيه قول مالك فيما سمعنا منه وفيما بلغنا عنه مما لم نسمعه،وأحب ما فيه إلي أنه إذا رآها تزني و بها حمل ظاهر لا يشك فيه فإنه يلحق به الولد إذا التعن على الرؤية …وكان المخزومي يقول في الذي يقول لزوجته :رأيتها تزني وهو مقر بالحمل أنه يلاعنها بالرؤية ،فإن ولدت ما في بطنها قبل ستة أشهر من ادعائه فالولد منه،وإن ولدته ستة أشهر فصاعدا ،فالولد للعان واعترافه به ليس بشيء،فإن اعترف به بعد هذا ضربته الحد ولحقت به الولد…”.
فهذه الفتوى تجمع بين ضابطين رئيسيين ،هما :الضابط الزمني، والضابط الأخلاقي- أي ما يمكن التعبير عنه بأخلاق حماية النسب -للحد من الطعن فيه والتساهل به بعدما عملت الشريعة على الحد من تضييعه وتسييبه كي لا يختلط ومن ثم ينضبط.
هذان الضابطان يحميان في آن واحد الطفل بالدرجة الأولى في نسبه حتى لا يضيع منه بسبب الوهم والشكوك التي لا أساس لها من الصحة ،ويحمي الأم في عرضها حتى لا يصبح الزوج مستسهلا قذفها بمجرد الهوى والكذب من أجل التخلص منه ،كما أنه يحمي الأب أو الزوج حتى لا ينسب إليه ما ليس منه بسبب إلزامه بما هو بريء منه حسب الضابط الزمني القطعي في تأكيده وإثباته.