عن …العشق هامش للخطإ- أساطير ما بعد الأولين
عزيز باكوش
صدر مؤخرا للدكتور عبد الفتاح أبطاني ” العشق هامش للخطإ- أساطير ما بعد الأولين ” الكتاب جاء في 148 صفحة من القطع المتوسط مزدان بلوحة غلاف للفنان المغربي سعيد العفاسي .على ظهر الغلاف نقرأ بقلم المؤلف” و أنا أبحث عني في غياهب النفس.. تحاصرني السدود و الحدود.. تطالبني بجواز الحقيقة، بتأشيرة الصدق.. و أنا لا أملك سوى نفس أمارة جبارة.. أرجوك.. كف البلاء عني، فما عدت أفهمني…”
وإذا كان يحلو للكاتب أحيانا ،كما لبعض أصدقائه أن يلقبوا الدكتور عبد الفتاح بالكاتب العبثي ،فأنا شخصيا لا أميل إلى الانتصار لذلك التوصيف تماما. ليس لأن العبثية نظرية فلسفية للوجود تنبني على قناعة بأن الكون غير عقلاني ولا معنى له فحسب.بل لأن الجانب المشرق فيها يؤكد على منطقية صراع الذات مع المحيط في محاولة ممتدة للبحث عن المعنى. من هذا المنطلق وبعمق فكري رصين وانتصار للمبادئ والقيم الانسانية الراقية والنبيلة في بعدها الكوني يرسم منجزه الأدبي الأبطاني ” العشق هامش للخطأ” و ” أساطير ما بعد الأولين” هما نصان مسرحيان خصهما كل من الدكتور عبد الكريم برشيد والأستاذ حميذ تشيش بتقديم وارف وظليل .
والحقيقة وبعيدا عن العبث ،فإن الجلسة مع د عبد الفتاح إثراء إمتاع ومؤانسة .وأزعم أن قفشاته وفذلكاته التي تتولد عن الموقف وتنشأ بالصدفة قادرة على إضحاك ملايين المغاربة أحسن بكثير من كوميديا رمضان .ولعل مشكلة فتاح تكمن في عشقه المسرح. والمسرح هو حياته إبداعاً تنظيرا تأليفا وإخراجا.أعرفه منذ عقود مثقف من عيار ثقيل.صحيح أنه غير عاشق للأضواء لكن تعقيبات وتعليقاته وقفشاته صواريخ موجهة تصيب الهدف بمنتهى الدقة .
ونقرأ للدكتورعبد الكريم برشيد في مقدمة عالمة وقراءة عاشقة للمسرحيتين “نحن أمام مسرح متمرد على المسرح، و متمرد على القوالب و القواعد المدرسية المعروفة و المألوفة..” ” في هذه المسرحية نحن أمام كاتب مسرحي استثنائي برتبة مؤرخ، و هو فعلا مؤرخ للهوامش الصغيرة و الدقيقة التي يهملها المؤرخون، و التي قد لا يخبر بها الإعلاميون، لأنها قد تبدو لهم تافهة و بلا معنى، مع أنها خطيرة و ذات معنى…” ويضيف رائد المسرح الاحتفالي بالوطن العربي”بعد أن حصل له الاقتناع الفكري وعنصر الإمتاع الجمالي ” لأن كاتب المسرحيتين كتبهما بعشق وهو يعشق المسرح بنفس القدر الذي يعشق به الحياة والجمال والكمال ” والمسرحيتان معا تحملان رؤية عبثية أو فوضوية أو سوريالية للعالم .
بعد نسمة عبور بقلم الكاتب نفسه ، بمثابة إضاءة أو مناجاة، وربما اختلاء نفسي وحيرة حارقة تساعد القارئ على الولوج شبه العابث إلى عوالم النصين ” يقول ابطاني “طبعا للفنون مستقر بين تيهان الذات بين الرفض والقبول . ولو لحين. ولم يكن غير المسرح ملاذا للتعبير . كيف لا وهو الفن الكامل الشامل .هو المفارقات الصارخة .وديدن الملسوعين رغم ما يكتنفه من مغامرات هي شؤم موصوف ورونق لبعض العمر”
ويبصم ابطاني “لم يوجد الكون عبثا ،وإنما الفعل البشري هو المسؤول عنه. ولم يأت العبث منقادا إلينا وإنما نحن صانعوه طواعية. ولم نسأل يوما عن سره، ولكن نعلم جيدا ذلك بعد فوات الأوان. لذلك يرى أبطاني في الكتابة بلسم للجراح البضة. ومرهم الأحيان العصيبة .إذ الحدث يستدعي الآخر والظرف أقوى منهما معا . ورغم ذلك يبقى الإبداع الصادق إفرازا لحقائق مغيبة وإن كتب لها الحضور فاعتبارها ضرب من العبث ووارد بقوة.”
ويتشكل المتن السردي للمسرحيتين من سبع نسمات . وهو إيقاع أسماه المؤلف نسمات بدل اللوحات أو الفصول .لكن هل يمكن أن نحكم على النسمات المسرحية بمثل الأحكام التي نصوغها في حق المشاهد او اللوحات او الفصول المسرحية ؟ يتساءل عبد الكريم برشيد ثم يجيب على الفور “إن المشاهد ترى بالعين المجردة .ولكن النسمات المسرحية لا نراها . ولكننا فقط نحسها . وربما كان هذا هو القصد الكاتب . أي أن يصرف انتباهنا إلى ما هو رمزي وإلى ماهو غير مادي وغير محسوس ولكنه مع ذلك موجود “. هنا تحديدا تكمن خاصية الإبداع والعبث الذي يقود رأسا إلى المعنى.
وفي تقديم آخر ظليل ووارف للمسرحي والناقد حميد تشيس نقرأ ” الفنان الحقيقي ليس هو من ينقل الواقع بخطاب مباشر بل بإبداع وصياغة خطاب يعكس ما يمكن أن يقع ويحدث في الواقع من أحداث. بطريقة مقنعة على المستوى الفكري والجمالي وليس بالنقل الميكانيكي للأحداث كما وقعت بالفعل لكون العملية الإبداعية يضيف حميد تشيش هي إعادة خلق وتشكيل للواقع بصورة جديدة وبطريقة فنية ” طريقة يحضر فيها العمق التخييلي الذي يستدعي عنصري الفن والجمال لدورهما الفعال في الخلق والإبداع “.
والدكتور عبد الفتاح أبطاني من طينة هؤلاء المبدعين الذي يتكامل مشروعه الإبداعي مع صفته كباحث وكاتب مسرحي وناقد فني وأدبي .” فبعد رحلة بحث عن الذات الابداعية عبر محطات عديدة وتكوين وتاطير على يد رواد أمثال الدكتور لمنيعي والدكتور الكغاط رحمة الله عليهما .. وتتويج مسار دراسي اكاديمي بحصوله على الدكتوراه نجده عاقد العزم على أن يجعل من المسرح بوصفه فنا راقيا شاملا، أداة لتشريح الواقع و إبراز تناقضاته و اختلالاته و التنبيه إلى مواطن الخلل بأمل تجاوزها، باقتراح تصورات فنية و بخط إبداعي يمتح من مسرح العبث بعد إخضاعه للخصوصية المحلية، الذي لم يستطع الفكاك من حباله التي أسرته و جعلته وفيا لمبادئه و قواعده في عديد النصوص المسرحية التي كتبها، و هو الاتجاه الذي أثرى المسرح العالمي بإبداعات رواده الكبارأمثال ” يوجين يونيسكو” و ” صمويل بيكيت” و ” فيرناندو أرابال” و ” جان جيني” و آرثر أداموف ” و غيرهم. ”
ويتناول نص المسرحية الأولى “أساطير ما قبل الأولين” يبدأ بما قبل النسمة ثم برولوك وثلاث نسمات موضوع يتناول قسوة الحياة وقسوة التطرف في الأفكار في الفنون في الرياضة في كل العلاقات الإنسانية ما يترتب عنه نتائج في الغالب سلبية إلا أن الرؤية الفنية في هذا النوع من الكتابة هو التنبيه والحذر هي محاولة دخول ميادين الحياة بصدق والتعامل معها وفيها بصدق وحسن نية .
النص المسرحي الثاني “العشق هامش للخطإ” يتجسد في سبع نسمات – الاحتياط – التعارف- الكشف- الخيانة- الاستنطاق- المأزق- الانتحار- وكل هذه النسمات تجسد جدوى العشق في الحياة . وبالتالي كيف يمكن للإنسان أن يحب وكيف يمكن له أن يعشق . وأن يوفق بين ماهو واقعي وما هو منطقي وبين ماهو عاطفي . المحور في هذه المسرحية هو أن شخصية مسؤولة تتبع هواها الغرامي العشق . وبالتالي تسرد أسرارا لا يمكن البوح بها . وفي علاقاتها الغرامية تقع في المحظور، ويكون المعشوق هو المظلوم ويكون العاشق هو الظالم وتنتهي الحياة بتجربة إنسانية يتعين التأمل في رسائلها .
حميد تيش: أستاذ مسرحي وناقد فني عضو بجمعيات هواة المسرح الوطني والشروق المسرحي والمسرح الضاحك سابقا. الكاتب العام لفرع الاتحاد المغربي لمهن الدراما بفاس .عضو غرفة مِؤلفي ونقاد الدراما بالاتحاد المغربي لمهن الدراما. حاصل على بطاقة الفنان سنة 2009 . شارك بمداخلات في العديد من الندوات والمحاضرات المنظمة من قبل بعض الجمعيات المسرحية يمدينة فاس وخارجها . كتابة بعض المقالات خاصة بتاريخ المسرح واتجاهاته وأخرى خاصة بالنقد السينمائي منشورة في بعض الجرائد الوطنية وبعض المواقع الإليكترونية. المشاركة في كتابة مؤلف جماعي حول موضوع “الصراع في السينما” في إطار مهرجان الأطلس للفيلم الدولي بإيموزار في دورته الثانية ماي 2024. المشاركة في بعض العروض المسرحية كممثل وتقني إضاءة ومخرج .في الملتقيات والمهرجانات المسرحية له حضور في السينما والتليفزيون ولجان التحكيم الموضوعاتية .