عندما يُعتمد الواقع مبررا لتقنين وشرعنة ما لا يمت للشريعة بصلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
من مقتضيات المنطق السليم أن تنسجم القوانين المعمول بها في بلد معين مع ثوابتها ومعتقداتها المنصوص عليها في دساتيرها، ومن ثم فلا غرابة في تضمين قوانين بلد يدين بالعلمانية حرية التصرف في الجسد، وما يصاحبها من رضائية وسادومية – حسب تعبير الدكتور المغربي لطفي الحضري المختص في علم النفس- ، والحق في الإجهاض، والتعامل بالربا، وما إلى ذلك من الممارسات التي تعتبر من صميم هذه “العقيدة”، لكن الغرابة تكمن في إصرار عدد من الجهات، رسمية وغير رسمية، على الدفع في اتجاه استصدار قوانين تتنافى مع ثوابت عدد من البلدان التي تدين شعوبها بالإسلام، وتعترف به دساتيرها دينا رسميا لها، كما هو الشأن بالنسبة لبلدنا المغرب.
ومن تجليات الغرابة في منطق هذه الجهات كونها تنطلق من بعض الممارسات الشاذة التي لا يخلو منها أي مجتمع إنساني، ولن يخلو منها ما بقيت الحياة على هذه الأرض، باعتبارها واقعا يتعين الرضوخ له واستصدار قوانين تدافع عنه، بل وتُجرِّم كل من يسعى إلى رفضه، والتمسك بالقيم الأصيلة التي تتماشى مع ثوابته، والأغرب من هذا كله، بل ومن غير المقبول شرعا ولا عقلا أن يتم تحميل المجتمع تلك النتائج الكارثية التي تتمخض عن هذه الممارسات.
فأي منطق هذا الذي يقبل بالمطالبة بممارسة حرية التصرف في الجسد، من خلال ممارسة الزنا والسادومية، والحق في الإجهاض، وعدم تزويج “القاصرات” ورفض التعديد، والإفطار العلني والسكر العلني…على أنها حريات فردية لا يحق لأحد أن يتدخل فيها؟ ثم يأتي بعد ذلك ليُحمِّل المجتمع بكامله نتائجها الوخيمة، من قبيل تكاليف معالجة الأمراض الجنسية التي تتسبب فيها استباحة العلاقات الزنائية، إن على المستوى الطبي المحض، أو على المستوى الاجتماعي، من حيث تفسخ العلاقات الأسرية، واستشراء عدم الثقة بين أفرادها، إضافة إلى المشاكل المترتبة عن اختلاط الأنساب، والإرث، وما إلى ذلك من المشاكل التي نحن في غنى عنها، والتي تجد حلها الطبيعي في التمسك بمبادئ الشريعة الإسلامية، التي يُنظر من خلالها إلى تلك النتوءات التي لا يخلو منها مجتمع، على أنها حالات استثنائية تستدعي المعالجة في ضوء هذه المبادئ، وفق أسلوب الترغيب والترهيب، عوض اعتبارها أصلا يتعين الانطلاق منه لفرض علاقات مجتمعية أبان الواقع عن كارثيتها في مجتمعاتها الأصلية.
وأَي منطق هذا الذي يُشجِّع على المطالبة بإشاعة تناول الخمور؟ في تحدٍّ صارخ لكل من الشريعة الإسلامية التي تُحرِّمها تحريما قطعيا، وللقانون الجاري به العمل الذي يمنع بيعها لغير المسلمين، ويفرض عقوبات على كل من ضُبط في حالة سكر، سوى الارتكان للواقع الذي تتم صياغته عن طريق المناهج التعليمية، والإعلام، والتوجُّهات الثقافية، التي لا شغل لها سوى التشجيع على التفاهة… هذا الواقع الذي أصبح يوحي بالتطبيع مع الخمر وأخواتها من مختلف أنواع المسكرات والمخدرات، حتى إذا رغب فيها الفقراء، ووجدوا أنفسهم عاجزين عن اقتناء “أجودها” بل أرخصها، اكتفوا باللجوء إلى “المغشوش” منها التي تؤدي بالإضافة إلى الأضرار الناتجة عن استهلاك الخمور بصفة عامة، من قبيل حوادث السير، واقتراف الفواحش، وأمراض القلب… إلى كوارث حقيقية إن على مستوى الأفراد، أو على مستوى الأسر، بل على مستوى المجتمع ككل، على غرار كارثة إقليم القنيطرة في الأيام الأخيرة، وقبله كارثة إقليم القصر الكبير، ليتم بعد ذلك توجيه أصابع الاتهام، كما جاء على لسان رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، للمصالح الطبية لأنها لم توفر ما يكفي من آلات تصفية الدم، وأسرة الإنعاش “للضحايا”، بالإضافة إلى التنديد بتسريب بعض معامل الكحول للمادة الأولية التي تستعمل في تحضير هذا النوع من الخمور، دون إعفاء مصالح الدرك الملكي من المسؤولية…وهذا لا شك فيه نصيب غير قليل من الصحة عندما يُكتفى بمعالجة الأعراض، غير أن المشكل يصبح أكثر عمقا عندما في حالة البحث عن حلول جذرية لهذه الآفة، التي كادت تغدو ظاهرة تزحف على مناطق عديدة من أرجاء البلاد، بحيث يتم اقتراح حلول أقل ما يقال عنها أنها تدافع عن مصالح مصنعي ومروجي الخمور، عوض المصلحة العامة، التي تَدَّعي بعض الجهات أنها تدافع عنها، كما هو الشأن بالنسبة “لجمعية حماية المستهلك” التي صرح رئيسها في وقت سابق بأن:” التوجه لتقنين تصنيع الماحيا أمر يفرض نفسه”، مشيرا إلى أن تصنيعها وبيعها بطريقة غير قانونية وغير مرخصة يؤدي إلى تلك الوفيات المفجعة،” ليصل بذلك إلى اقتراح مفاده “إنشاء معامل متخصصة في صناعة ‘الماحيا’ لرفع موارد الدولة، وتوجيهها نحو التصدير إلى الخارج”. والسؤال هو ماذا “سيستفيد” مستهلكو الخمور “المغشوشة” بصفة عامة إذا افترضنا أنه تم القضاء على المعامل العشوائية، وفُتح المجال أمام مصانع حديثة متخصصة في تصنيع “الماحيا” تُحترم فيها المواصفات التي تحددها المصالح الصحية؟، ألا توجد في السوق خمور ذات “جودة عالية” ومع ذلك يتم اللجوء إلى هذا النوع الرديء، الذي أُطلق عليه اسم خمرة الفقراء، بمعنى آخر أنه إذا تجاوزنا جدلا اعتبار الخمر محرمة شرعا، بل واعتبرنا أن هؤلاء ليسوا مسلمين أصلا، فإن الخيارات المتاحة أماهم تنحصر إما في الاكتفاء بالخمر الرديئة لرخصها، أو الإقلاع عن تناول جيدها بسبب تكلفتها التي لا يطيقونها، ورديئها بسبب ضررها، أو الخروج للتظاهر في الشوارع للمطالبة بدعمها على غرار الدقيق وبعض المواد الأساسية.
مما سبق يتضح أن هذا النوع من الحلول غير مناسب حتى لفقراء البلدان التي لا يدين أهلها بالإسلام، وما بالك عندما يتعلق الأمر ببلد ينص دستوره صراحة على كون الإسلام دينه الرسمي، لذا يبقى الحل الصائب والصحيح الوحيد هو العمل على تجسيد أوامر ونواهِ هذا الدين العظيم، بخصوص مجموعة من الممارسات التي عمل الغرب ولا زال يجتهد هو وأذنابه لترسيخها في واقع الأمة الإسلامية، التي يُعتبر المغرب من بين أبرز مكوناتها، وذلك تحت عنوان القيم الكونية. ألا يكفي وصف الله سبحانه الخمر بكونها رجس، حين قال في الآية 90 من سورة المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ مع العلم على أن لفظ (الرجس) قد جاء في القرآن على عدة معان، فجاء بمعنى الإثم، والشرك، والشر، والعذاب، والشك، والشيطان، والنجس، والخبث، والسَّخَط، وهي معان تجمع بين ما هو مادي حسي وما هو معنوي، ويَصُب كلها في النهاية في المعنى اللغوي، وهو معنى الخبث والقَذَر. ألا يكفي هذا للحيلولة دون ترويجها بغض النظر عن كونها مصنعة في مصانع حديثة، أو في معامل تقليدية، أو هي مصنوعة بالمواد الأصلية، أو تم مزجها بمواد مغشوشة أو مستحدثة.
كل الدلائل تشير على أن هذا النوع من المعالجة لِمُشكل الخمور على سبيل المثال، يندرج ضمن محاربة الشريعة الإسلامية، من خلال مبرراتٍ من قبيل المساهمة في الاقتصاد الوطني، على سبيل المثال لا الحصر، بل ذهب بعضهم إلى المطالبة بإدراج هذا النوع (الماحيا) ضمن الموروث الثقافي المغربي، الذي يُعزى لليهود المغاربة الذين كانت لهم طريقتهم الخاصة في إعدادها، مما يتعين معه الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه!!!
ولتجسيد محاربة الشريعة الإسلامية على أرض الواقع، تتم المطالبة باستحداث قوانين مخالفة لها وللمبادئ التي تحث عليها، كالمطالبة بقوانين تخص عدم تجريم الزنا، والإجهاض، والسكر، والإفطار العلنيين…ولعل تقنين زراعة القنب الهندي يدخل في هذا السياق، خاصة وأن القانون المعني تمت المصادقة عليه خلال ولاية حكومةٍ تُنسَب إلى المرجعية الإسلامية. وإذا كان مبرر استعمال القنب ومنتجاته لأغراض طبية وصيدلية وصناعية، ومبرر مساعدة الفلاحين المتعاطين لهذه الزراعة، يسعيان إلى إصباغ نوع من الشرعية على هذا التقنين في الأوساط الشعبية، فإن إرهاصات الواقع تدل على أن التوجه العام يروم النموذج الغربي -هولندا نموذجا-الذي يسمح باستعمالات شخصية محدودة، غالبا ما تكون مبررا لتعميمها. ومن بين هذه الإرهاصات انتشار فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، يقوم فيه صوت أنثوي رخيم بالإشهار لمواد استهلاكية تحتوي على نبتة القنيب الهندي، من بينها الشكولاتة والحلويات…، مع التركيز على الخصائص الصحية والعقلية لمكونات هذه النبتة. وقد كان بالإمكان إدراج هذا النوع من الإشهار في إطار التشويش على مشروعية التقنين، لولا مباركة رئيس الفيديرالية المغربية لصناعة الأدوية والابتكار الصناعي الذي صرح في نفس الفيديو بأن القانون 13/21 جاء ليقنن جميع استعمالات القنب الهندي من بينها استعماله كمكمل غذائي.
في الأخير أريد أن أهمس في آذان كل الذين يدافعون عن استشراء الفاحشة بمختلف تجلياتها في المجتمعات الإسلامية، وأقول لهم بأنه إذا كان لا بد من الموت، فإنه من الأولى أن يكون في سبيل قضية وطنية أو إنسانية عادلة عوض هذا النوع من الانتحار، الذي إن دل على شيء فإنما يدل على انحدار القيم وخفوت الأخلاق لدى كل المساهمين في هذه الكوارث، ذلك أنه في الوقت الذي يموت فيه إخواننا في غزة وفلسطين دفاعا عن مقدساتهم وشرفهم، يموت أبناؤها طلبا لنشوة عابرة، يتم تزيينها لهم في إطار منظومة متكاملة هدفها القضاء على كل مقومات الحصانة الذاتية والمجتمعية، في أفق تعميم دائرة التبعية والارتهان للقيم الغربية المسماة زورا قيما كونية، والتي جُندت لتعميمها كل الإمكانيات المادية والبشرية، مع تبني كل أساليب الإغواء والمكر على غرار من سبقوهم من المفسدين، الذين أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف، مصداقا لقوله تعالى في الآية 26 من سورة النحل: ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ صدق الله العظيم.