قضايا نفسية في ثنايا المباحث الكلامية
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة ، المغرب
أولا:النفس الإنسانية في القياس العقدي عند المتكلمين
علم الكلام في أهم ما يسعى إليه ويختص به هو الاستدلال على العقائد الإيمانية،وليس له من سبيل في هذا بعد دلالة النص سوى الاستشهاد على الشاهد بالغائب.ولتوظيف هذا القياس،لابد أن نجعل من موضوع الإنسان مركزا لهذه الاستشهادات،لأنه المقصود بالخطاب والتكليف، ولابد أن تكون بينه وبين الخطاب مناسبة مجازية قد تجعله أهلا لتقبل الخطاب الإلهي وفهمه.
وهذه المناسبة قد تكون على مستوى القياس الايجابي والسلبي،ولهذا فإن علم الكلام سيلجأ إلى إثبات الصفات الجائزة في حق الله تعالى،من خلال الصفات الايجابية التي يتميز بها الإنسان عن سائر الكائنات.
فلإثبات القدرة لابد من إثبات الحياة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام. وهذه الصفات كلها موجودة في الإنسان مجازا بحسب وضعه في سلم الوجود الممكن وخصوصيته التكوينية. وعن هذا الوجود الممكن،الذي قد يدخل في حكم الشاهد ويمثل أرقى الكائنات المرئية، ستتحدد في العقل صفات واجب الوجوب قياسا.
كما أن صفات النقص،التي يتصف بها الإنسان،من خلالها سيقرر علماء الكلام امتناعها في حق الله تعالى. ومن النظر في هذه الصفات ستتحدد الصفات التي تجب في حقه والتي تستحيل.
وهكذا،فستصبح مسألة الصفات مجالا خصبا للبحث النفسي وخاصة فيما يتعلق بالإرادة والكلام النفسي الذي كان أهم مسألة خلافية بين المتكلمين من معتزلة وأشاعرة وغيرهم.
ونظرا لارتباط المباحث الكلامية الوثيق بالنفس الإنسانية وتطوراتها وقدراتها ونقائصها فإننا سنجد مثلا ابن خلدون، حينما عرض لموضوع علم الكلام تأريخا وتعريفا،يركز على العنصر النفسي في مستهل طرحه لهذا الموضوع ، وذلك في نص مطول كله نفسي. كما يقول:”…والقصود والإرادات كلها أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تطورات سابقة يتلو بعضها بعضا.وتلك التصورات هي أسباب قصد الفعل. وقد تكون أسباب التصورات تصورات أخرى، وكل ما يقع في النفس من التصورات مجهولة سببه، إذ لا يطلع على مبادئ الأمور النفسانية ولا على ترتيبها. إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا. والإنسان عاجز عن معرفة مباديها وغاياتها. وإنما يحيط العلماء في الغالب بالأسباب التي هي طبيعية ظاهرة،ويقع في مداركها على نظام وترتيب،لأن الطبيعة محصورة للنفس وتحت طورها وأما تصورات فنطاقها أوسع إلى النفس،لأنها للعقل الذي فوق طور النفس. فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة،وتأمل من ذلك حكمة الشارع من نهيه عن النظر إلى الأسباب والوقوف معها. فإنه واد يهيم فيه الفكر ولا يخلو منها بطائل ولا يظفر بحقيقة”قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون”وربما انقطع في وقفه عن الارتقاء إلى ما فوقه، فزلت قدمه وأصبح من الضالين الهالكين، نعوذ بالله من الخسران المبين.ولا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه في قدرتك واختيارك،بل هو لون يحصل للنفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة تعلمها،إذ لو علمناها لتحرزنا منها،فلنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة.
وأيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول،لأنها إنما يوقف عليهما بالعادة لاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”. فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها، وإلغائها جملة،والتوجه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها لترسيخ صفة التوحيد في النفس،على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا، لاطلاعه على ما وراء الحس”.
فالنفس حاضرة في علم الكلام،حضور استدلال وقياس. ولهذا فهي ستأخذ حيزها في هذا المجال على سبيل القياس العقلي بشتى أنواعه من حيث محاولة إثبات الجوهر النفسي ذاته،ثم بعد ذلك ما يترتب عنه من تحديد لطبيعة النفس باعتبارها روحا متميزة عن الكائنات المرئية، وما يلازمها من أحكام تخص وجودها.
ثانيا:مؤلفات كلامية ذات صلة بقضايا نفسية
وهكذا، فإننا سنجد مباحث خاصة فيما بعد مراحل التدوين تخصص للبحث النفسي، إما مرتبطة بالمباحث الكلامية عند التأليف، وإما أنها ستأخذ طابع تآليف مستقلة موضوعيا،وذلك بالخوض في الاستدلال على الروح وحشرها ووحدتها وأعراضها وجوهرها وما إلى ذلك.
غير أن موضوع النفس سيكون طرحه إما على شكل تخلل للمواضيع العقدية الرئيسية، وهي الاعتقاد في الله وصفاته،والاعتقاد في الأنبياء واستعداداتهم الروحية لتلقي الوحي وتبليغ الرسالة… وإما على شكل إفراد لأبواب خاصة بالنفس أو الروح .
ومع هذا فهي قد لا تخلو من الارتباط الموضوعي بالمجال العقدي الرئيسي، كما لاحظناه في نص ابن خلدون،وكذلك قبله ابن حزم في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل” وخاصة في الجزء الخامس، والذي يمكن أن يشكل تكاملا موضوعيا على المستوى النظري وبعض الإجراءات العملية المحدودة بينه وبين كتاب “طوق الحمامة في الألفة والألاف”وهو كتاب مبكر من تأليفه.
ولئن كان البعض يرى أنه قد تناول موضوع الحب في هذا الكتاب من وجهة نظر الأديب والشاعر والمؤرخ أكثر مما تناوله من وجهة نظر الفيلسوف والمحلل النفساني إلا أن منهجه في تحديد ظواهره مع ما يتخلله من تحليلات نظرية قد يشتمل على تمحيص علمي وتوثيق ميداني يمثل دعامة مهمة في البحث النفسي المستند على الاستمارة والاستجوابات المشروطة كما يقول في إحدى فقراته :”وما أصف من منقوصي الحظوظ في العلم والأدب، لكن عن أوفر الناس قسطا في الإدراك،وأحقهم باسم الفهم والدراية”.
فلقد كان تنظيره للحب بحسب المعطيات الواقعية والسليمة، وليس كما اعتمد فرويد في منهجه التحليلي بالارتكاز على الأساطير وبعض الاستجوابات الناقصة،مما جعل تفسيراته للرغبات الجنسية بعيدا كل البعد عن النظرية العلمية للمسألة”.
كما أن كتاب طوق الحمامة سيمثل تكاملا أيضا على مستوى بناء المحاور النفسية المحددة للسلوك، كمحور الحب والطمع وطرد الهم. وذلك مع كتاب آخر ذي طابع أخلاقي أكثر منه نفسيا، ألا وهو كتاب “الأخلاق والسير في مداواة النفوس”.
غير أن هذه المحورية ستبقى في إطار ضيق ونظري جملي أكثر منه تفصيليا ومحددا لمنهج عملي مدرسي متلازم الأركان ومشروط بقواعده، كما سنرى عند الصوفية.
وقد نجد أيضا الحضور النفسي عند المتكلمين،وخاصة الأشاعرة كالشهرستاني في “نهاية الأقدام في علم الكلام”و “المواقف في علم الكلام” للإيجي، وابن طاهر البغدادي في “أصول الدين”،والغزالي باعتباره متكلما
في”الاقتصاد في الاعتقاد”و”تهافت الفلاسفة”وكذلك”إلجام العوام عن علم الكلام”.
كما نجد جمعا بين دراسة النفس من حيث الجوهر وتحليل الظواهر بالأسلوب القريب من أسلوب الفلاسفة ، ككتاب”النفس والروح وشرح قواهما” لفخر الدين الرازي. لكنه قد يغلب عليه ،وخاصة عند دراسة قوى النفس،تأثير الصوفية الاصطلاحي وحتى التحليلي النظري لسلوك النفس كمصطلح الرياء الخفي والجلي مثلا كما سنرى.
وأهم من هذا من حيث التفصيل نجد كتاب “المطالب العالية من العلم الإلهي” الذي جمع فيه الاستدلال بالنصوص الشرعية والآراء الكلامية والفلسفية والأذواق الصوفية على قضايا النفس،وذلك في عدة فصول قد تبدو بعيدة عن الدراسة النفسية من حيث السياق،ومع ذلك فهي حاضرة بقوة في هذا المجال. بل سنجده يفرد جزءا كبيرا خاصا بالنفس،والذي يمثل الجزء السابع من الكتاب.بحيث قد خصصه لدراسة الأرواح العالية والسافلة،وهو بهذا يريد أن يدرس النفس في شتى أنواعها:كنفس الإنسان والحيوان والنبات والملائكة والجن والشياطين، بل حتى النفس الفلكية كما كان يسميها الفلاسفة خصوصا، وقلدهم فيها المتكلمون.
إذ أن هذا الجزء لن يكون مخصصا للنفس الإنسانية فقط بل كان يريد أن يدرس نفس كل كائن متحرك وتموضعه الوجودي وجنسه وفصله حسب التقسيمات العقلية في مبادئها العامة.
غير أن التركيز الأساسي سينصب على النفس الإنسانية ، لأنها هي المحور الرئيسي في هذه الدراسة. وقد قسم هذا الجزء إلى مقالات،تحت كل مقالة فصول متفاوتة الأعداد. كما مزج بشكل كبير بين مختلف الآراء الفكرية،واستدل بشتى التوجهات المنهجية في هذا المجال كما هي عادته في تأليفه.
إذ أن من مميزات المتأخرين ،ومن بينهم الرازي، أنهم قد يكفوننا مئونة البحث في شتى الكتب والآراء المتفرقة مذهبيا وتاريخيا بتقديمها إلينا جاهزة متقاربة ومنضدة في موضوع واحد.بحيث إذا أردنا البحث في آراء معتزلي منعزل عن التصنيف الموضوعي مثلا، فإننا سنجد هذه الآراء في كتابات مثل كتاب الرازي هذا أو تفسيره للقرآن،كما قد نجده أيضا عند الشهرستاني في”الملل والنحل”، وغيرها من الكتب المستقرئة للأفكار عند المتكلمين أو عند غيرهم ، استقراء تاريخيا أو مذهبيا تصنيفيا…
فالرازي مثلا في كتابه “المطالب العالية من العلم الإلهي”،عند جزئه المتخصص في دراسة النفس،سيعرض لأهم الآراء الفلسفية سواء عند اليونان أو الفلاسفة المسلمين، وخاصة عند ابن سينا الذي يعتبر من أبرز الفلاسفة والأطباء النفسانيين المسلمين الذين كتبوا في النفس تنظيرا، واجتهدوا في الاستدلال على إثبات جوهرها وتحديد علاقتها بالبدن، والتمييز بينها وبينه بصورة عقلية وقياسية وحدسية …وله آراء جد مهمة في الإثبات،سيعتمدها المتأخرون من الباحثين اعتمادا كثيرا،كما أنه في هذه النقطة قد يلتقي كثير من المتكلمين والفلاسفة المسلمون على مستوى التعاون -إن صح التعبير- في أغلب مواضيع النفس، وخاصة على مستوى دراسة الظواهر النفسية التي تندرج تحتها دراسة الأخلاق بصورة رئيسية .