حديث الصباح… في” الصمت البورجوازي”! أو في الحاجة إلى سوسيولوجيا البورجوازية المغربية
محمد امباركي
من الصعب إعطاء تعريف دقيق وشامل لمفهوم “البورجوازي “، لكن وفي تمثلاتنا الجمعية يحيل المفهوم على الشخص الغني، وحسب قاموس “Larousse “، الغني هو شخص “يملك ثروة”، خيرات مهمة…أن يكون المرء غنيا، يعني أنه ينتمي الى أقلية من السكان التي لها مداخيل مرتفعة أو حصلت على ميراث. العيش في وسط ممتاز، امتلاك ثروة، شراء الملابس، سيارات وجواهر ذات أسعار غالية. هناك العديد من الأفكار التي تصل عن الغنى وبراهين الغنى.
لكن الذي يهمنا هو السؤال التالي :
ما الذي يجعل من البورجوازية المغربية صامتة؟ علبة مغلقة لا تعبر عن نفسها بوضوح سياسيا وثقافيا؟ وهذا حال لا يشجع البحث الميداني من الاقتراب من مجالها الحيوي. فهل هذا الأمر اختيار إرادي أم استراتيجية مفروضة؟
البورجوازية في المغرب صامتة على مستوى التعبير عن نفسها سياسيا اذا استثنيا الكنفدرالية العامة للمقاولين المغاربة(CGEM) والتي تظل صوتا نقابيا خافتا ولا يعكس الحقيقة السوسيولوجية للبورجوازية كحقيقة غير متجانسة، كما تظل هذه الطبقة او “التحالف الطبقي ” حصنا منيعا ولعبة مغلقة أمام الدراسات والبحوث في مجال الاقتصاد والسوسيولوجيا والانتروبولوجيا وعلم النفس….ربما هي أيضا ضحية قهر المخزن الاقتصادي كمنظومة تقليدية تشتغل بآلية المجاز والغموض سياسيا والريع اقتصاديا والخليط الثقافي الهجين تربويا، وبالتالي ليس من مصلحة هذه المنظومة وضوح الحدود بين الطبقات وتشكل الملامح البارزة للصراع الاجتماعي والفاعلين فيه.
إن هذه اللامرئية الابستيمولوجية أتجاه “البورجوازية المغربية”، يمكن أن نقول عنها ما قاله السوسيولوجيين الفرنسيين” ميشال بانسون وزوجته مونيك بانسون شارلوت ” خلال إحدى المقابلات معهما سنة 2010 بعد نشر كتابهما ” رئيس الأغنياء ” في فرنسا، حيث لما سئلا عن دوافع وشغف الاهتمام بالأغنياء، ” كان جوابهما كما يلي : لا أحد داخل المركز الوطني للبحوث الاجتماعية (CNRS) يهتم بالأغنياء. جميع الرؤى داخل السوسيولوجيا الحضرية تركز على الأحياء المهمشة، شباب “الضواحي “…خلال المناظرات والندوات، الجميع يتحدث عن “التمييز”…لكن يبدو لي أننا أهملنا محرك (صانع ) هذا التمييز…وهكذا قررنا ” التوجه معا نحو الأحياء السعيدة. ولم نخرج منها أبدا…”
إن الأهم أثناء الحديث عن “البورجوازية المغربية” هو أنها لحدود الآن متفوقة في تمنيع نفسها اجتماعيا وابستيمولوجيا، طالما أن ما يقال عنها لا يتعدى بعض النظريات والتحاليل العامة التي تفتقد إلى القراءة الامبريقية وتحيين المعطيات الكمية والكيفية، وبالتالي إلى توطين وتبيئة براديغمات ” نظرية” بشكل يضفي المصداقية والصلاحية على القراءات والأبحاث المنتجة على أقليتها وأهميتها، من قبيل كتاب أبراهام السرفاتي “الصراعات الطبقية بالمغرب الصادر عام 1987 بتوقيع مجدي ماجد عن منشورات حوار بهولندا، أو أطروحات أكاديمية لها أهميتها من قبيل ” النخبة الاقتصادية المغربية، دراسة حول الجيل الجديد من المقاولين (2011) لنور الدين أفاية وإدريس الكراوي، ” المقاولون المغاربة، السلطة والمجتمع والحداثة” لسعيد الطانجوي ” (1993)، ” المقاولون المغاربة : أي دور اجتماعي وسياسي جديد اتجاه المخزن؟” (2002) ل”بيران سيمون”، “أهل فاس، المال والسياسة” لحسن قرنفل (2007)، ثم “نخبة الانتقال : المقاولون المغاربةفي الستينات “(2014)…الخ، بالإضافة الى أدبيات حزبية سعت الى تفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية بالمغرب وضمنها بعض سمات البورجوازية، لكن غالبا ما افتقدت هذه الأدبيات إلى الدقة العلمية والعتاد الامبريقي ولم تستفد من الأبحاث العلمية والتراكم المعرفي والأكاديمي حول البورجوازية رغم هيمنة المقاربة الماكرواقتصادية على هذا التراكم، ونقص الرؤية إلى البورجوازية باعتبارها عالما اجتماعيا يتشكل وفق استراتيجيات تتراوح بين الصراع ومنطق التسويات، وآليات لتدبير التوافق والمصالح، ثم طقوس مراكمة الثروة والمعيش الاجتماعي والقيمي وكيفية الدفاع عن المصالح من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلاقة بالدولة باعتبارها هي نفسها سلطة سياسية واقتصادية…
من هنا، من المناسب أن نقول أن الصمت ” المعرفي ” والإعلامي الذي يتجاوز الخطاب الاقتصادي العام، هو في صالح البورجوازية باعتبارها عالما مغلقا يعج بممارسات وطقوس خفية في مراكمة الثروة، نسج العلاقات عموديا وأفقيا، فن العيش، السفر، التعليم، الفن، اواصر المصاهرة وطقوس الاحتفال والجنائز، طبيعة استهلاك المنتوجات المادية والرمزية، العلاقة بالدين والتدين من حيث الممارسة والاستعمال الاجتماعي،
ولا شك ان استراتيجية العزلة الاجتماعية “الذاتية” التي تنهجها البورجوازية هي في الواقع مسافة منشأة بشكل واعي مع الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ومن الممكن استكشافها أن يقود الى فضح هول التفاوتات الطبقية في المجتمع بين أقلية تبحر في بحبوحة عيش تراه موروثا أبا عن جد، وهامش واسع يرزخ تحت نيران البؤس مستبطنا هذه الوضعية باعتبارها قدرا لا مفر منه، ومصيرا اجتماعيا حتميا…لكن ليس معقولا مقاربة البورجوازيةالمغربية ككتلة متجانسة، فالبورجوازية الحضرية ليست هي البورجوازيةالقروية، كما أن مسارات النشأة والتشكل قد تختلف حسب قطاعات الاستثمار والتنشئة الثقافية والتعليمية داخل الأسر المحظوظة وبين كبريات المدارس والمعاهد خارج المغرب وداخله، وكذلك حسب تحولات الزمن السياسي والسوسيواقتصادي، لكن المشترك بين شرائح البورجوازيةالمغربية هو ان معظم مكوناتها يستظل بظل السلطة السياسية المخزنية، وبالتالي فكل من ترجم إرادة وسلوك ينما عن الرغبة في وضع مسافة مع هذه السلطة إلا ويتعرض للعقاب والانتقام سواء بشكل ظاهر أو خفي، بطريقة مباشرة او غير مباشرة، وربما هذه إحدى الجوانب التي تفسر حملة التطهير التي قادها وزير الداخلية السابق إدريس البصري ضد العديد من رجالات الأعمال بالمغرب خلال نهاية التسيعنات بدعوى تبييض الأموال والتهرب الضريبي..، وهي الحملة التي خلفت سجالا حادا حول مشروعيتها وخلفياتها، وأفرزت بعض محاولات التكتل الحزبي لجزء من هذه البورجوازية في تنظيمات من قبيل حزب القوات المواطنة الذي قاده محمد الحجوجي. وفي هذا الإطار تتعدد وظائف العملية الانتخابية من خلال “التحزيب” القسري و”الطوعي” لجزء من النخب البورجوازية إما عقابا لها على محاولة امتلاك استقلالية القرار والتصرف، أو سعيا نحو الاستفادة من رأسمالها المادي والاجتماعي لظبط المجالات القروية والحضرية وإلحاق هذا الجزء من البورجوازية بصفوف “الأثرياء الجدد” الذين لا يستطيعون الانفكاك من معادلة تحالف السلطة والثروة..
ومن جهة أخرى، إن الصمت البورجوازي له معاني ودلالات عدة، فهو من الناحية الاجتماعية يعبر عن نزوع البورجوازية المغربية نحو ممارسة العزل الاجتماعي الذاتي أي وضع مسافات سوسيومجالية عن الطبقات الأخرى الفقيرة والمتوسطة كي لا تتافسها في احتكار الموارد المادية والرمزية، وهي في جميع الأحوال حدود مرعية تجعل من طقوس المرور الطبقي من الأسفل نحو الأعلى عملية مستحيلة مهما سعت الى ذلك الطبقات المتوسطة والفقيرة،، بينما الحراك النازل من الأعلى إلى الأسفل هو عملية ممكنة في ظل التوجهات الاقتصادية والسياسات التنموية الحالية خاصة بالنسبة لشرائح الطبقة المتوسطة التي تتعرض لبلترة مفتوحة.، وبالتالي، ومن الناحية السياسية، فإن هذا “الصمت” هو ترجمة ملحوظة لعجز هيكلي للبورجوازية أمام سطوة وقهر المخزن الاقتصادي الذي يؤطؤه ميكانيزم الزواج المقدس بين السلطة والثروة، والذي تعتبر حكومة أخنوش من أبرز تجلياته باعتبارها حكومة الرأسمال الريعي الاحتكاري، ومن الناحية الثقافية يعكس هذا الصمت افتقاد هذه البورجوازية إلى مشروع ثقافي وقيمي يستمد مقوماته من الفكر الليبرالي باعتباره فكرا يقوم على منطق السوق و قواعد المنافسة الحرة، بشكل يمكن الجزم معه أن هذه البورجوازية تكبدت هزيمة ثقافية وقيمية جعلتها تتماهى مع قيم المنظومة المخزنية التي تجمع بين التقليد والحداثة حسب مستلزمات السياق السياسي والمؤسساتي والسوسيوثقافي، بل إن جزء من هذه الطبقة ونتيجة هذا الفقدان لاستقلالية اقتصادية ومشروعا ثقافيا، راهن أحيانا على حزب العدالة والتنمية، ثم في مرحلة أخرى على حزب الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار، فيما ظلت شرائح الطبقة المتوسطة منقسمة سياسيا واديولوجيا بين تشكيلات حزبية وطنية، إدارية ويسارية، أما الطبقات الفقيرة فهي بدون تمثيلية سياسية، بل إنها موظفة في استراتيجية إعادة إنتاج هيمنة المنظومة المخزنية.
عموما هذه بعض الملاحظات والفرضيات التي تجعل من الحاجة الى سوسيولوجيا نقدية تتجاوز قضايا الهامش والمحيط، لتقترب من بعض العوالم المغلقة والمنيعة في قمة المجتمع من قبيل عالم “البورجوازية المغربية “، حاجة معرفية واجتماعية لها راهنيتها، وكما قال جاستون باشلار “ليس هناك علم إلا بما هو خفي”…
صباح الخير للبورجوازية المغربية في انتظار أن ترد التحية!… محمد امباركي