الباكالوريا وصناعة “التفوق”
Abderrahim Guelmouni
عبدالرحيم كلموني
التقييم في المغرب مُعتلّ. والنظام التربوي كله قائم على التقييم الإشهادي الذي يتحكم في الممارسات التدريسية، وفي بناء المناهج، وفي صياغة التمثلات الاجتماعية حول التخصصات الدراسية، والشعب، والمسالك، والمهن، ويحدد ثمن الدروس الخصوصية والوضع الاعتباري للمدرسين. لا داعي للتذكير بأن تقييمنا فاقدٌ لشروط التقييم الثلاثة: الملاءمة، والموثوقية والصلاحية. وقد بات واضحا للجميع بأنه كلما اشتدت الأزمات في القطاع، وتعرض الزمن المخصص للتعلم للإهدار والانتهاك أكثر فأكثر، ارتفعت نسبُ النجاح في الامتحانات الإشهادية ومنها الباكالوريا. هذا “النجاح الزائف” يهم الأعداد الغفيرة من التلاميذ، لكن ماذا عن الأقلية/ النخبة؟ ماذا عن صناعة “التفوق” في نظام تربوي كهذا؟
في كل سنة تتباهى الوزارة والأكاديميات والمديريات ومعها الأسر بالمعدلات الخارقة التي يتم إحرازها هنا وهناك. معدلات شبيهة بالأرقام القياسية في المسابقات الرياضية الأولمبية. بينها فوارق ذرية لا تكاد تُبْصر، ولكنها تصلح لصنع تراتبيات مبالغ فيها تكرس كلها مبدأ “عبادة التفوق”. في القرن الماضي كانت النتائج تُحجب إلا على أصحابها ومحيطهم الأسري حين يسعون إلى الاطلاع على كشف النقط من النيابة، لكن اليوم في مجتمع الفرجة الدائمة تتم مَسْرَحَةُ “التفوق”، فتجد القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية في استعراض “المتفوقين” الحاصلين على معدلات غير مسبوقة في تاريخ المدرسة المغربية تقترب من الكمال، فرصة ذهبية لترسيخ شغفها الفُرْجوي الدائم بالمسابقات. والواقع أن “التفوق” الدراسي نفسه يعاني، في ظل اختلالات نظام تربوي كهذا، من اعتلال صحة الأداة التقييمية، دون أن يعني هذا خلو التعليم المغربي من تلاميذ ذوي كفاءات عالية، ولكن لا يحْسُن أن يكونوا الشجرة التي تخفي الغابة. والواقع أن اختلالات التقويم عمت البر والبحر. في الجامعات كل “الأطاريح” مهما ابتذلت مواضيعها وسَخُف محتواها لا ترضى بأقل من درجة “مشرف” مع توصية بالطبع أو بدونها (لم أسمع برسوب في هذا التقويم الذي تحول -غالبا- وأكثر فأكثر إلى بهرجة). أما تقييم أداء المدرسين فقد مني بهزائم نكراء حين تمت لملمة تلك البطائق التي اقترحتها الوزارة على النقابات والخاصة بشبكات لتقييم الممارسات الصفية منذ أكثر من عقد من الزمن وطيها إلى الأبد، ليبقى الأداء الصفي بدون تقويم حقيقي.
في كتابه “تقييم التلاميذ، من صناعة التفوق إلى ضبط التعلمات”، ينبه السوسيولوجي السويسري فيليب بيرينو إلى أن التقييم في الوسط المدرسي يترتب عنه تثمين التفوق. وهذا التثمين يتعارض مع مبدأ ضرورة محاربة الإخفاق الدراسي الذي لا يتمتع بالجاذبية لدى المسؤولين والفاعلين التربويين. هذا واقع مثبت في جل المنظومات التعليمية، لكن في بلادنا، ولإخفاء اختلالات التعليم المزمنة والعميقة، يتم -باطراد- تضخيم عدد الحاصلين على شهادة الباكالوريا: تخفيض المتطلبات بإنزال مستوى عارضة القفز بعض السنتميترات كل سنة لتتمكن أعداد غفيرة من التلاميذ من نجاح لا يضمن البتة التخلص من شبح الإخفاق الدراسي المؤجل. وذلك من مثالب تعليم قائم على الحشد والجمهرة la massification. والحقيقة أن هذا الحشد، الذي يناوئ الدمقرطة الحقيقية للتعليم، هو الشر الذي لا بد منه في جل دول المعمور، حيث يسمح لحشود من التلاميذ بالعبور-دون مؤهلات حقيقية كافية- نحو تعليم “عال” ذي ولوج مفتوح، ولكنه ضعيف الجودة ومشكوك في جدواه في الحال والمآل، في ما يشبه الدمقرطة، ولكنها دمقرطة شكلية فقط، من مراميها غير المعلن عنها إفراغ المقاعد لحشود التلاميذ القادمين، والسلم والاستقرار الاجتماعيين…
إن “التفوق” الدراسي، مثير للإعجاب، إلا أنه لا يخلو من عيوب منها الإجهاد: فقد يشعر التلاميذ الذين يسعون إلى التميز بضغط شديد يمكن أن يؤدي إلى التوتر والقلق ومشاكل نفسية أخرى. كما أن التميز الدراسي يعزز عدم المساواة ويخل بمبدأ تكافؤ الفرص. وإذا كان التفوق الرياضي يولي أهمية كبيرة لتكافؤ فرص المتسابقين محيطا مبارياته بما يكفي من ضمانات السلامة والنزاهة، معتمدا القوانين التي تحارب كل أشكال الغش بما فيها حظر تناول المنشطات، فإن السباق الدراسي نحو التفوق لا يعير اهتماما لأشكال المنشطات التي تستفيد منها فئة من المتسابقين هي فئة “الورثة”، إذ غالبًا ما يتمتع التلاميذ من خلفيات اجتماعية واقتصادية مميزة بإمكانية الاستفادة من موارد بيداغوجية إضافية، مثل الدروس الخصوصية أو الأنشطة الموازية التي يمكن أن تمنحهم ميزة في السباق نحو التفوق، كما أن الغش تطور مع الزمن وتم التطبيع معه من قبل المجتمع، ويتخذ أشكالا مختلفة، لعل أبسطها المبالغة في نفخ النقط حتى بالنسبة للتلاميذ المتفوقين ولو في المواد الثانوية. وأخطر مساوئ هذا الهوس المبالغ فيه بالتفوق هو التركيز على النتيجة/الغاية بصرف النظر عن الوسيلة، وإهمال الاستكشاف والتجريب والتفكير المتباين، وكذا عدم الاعتناء بالكفايات السوسيو-عاطفية وضمنها المهارات الحياتية: إن التركيز على التميز الأكاديمي يقلل من أهمية المهارات الأساسية الأخرى أو يغيبها، مثل حل المشكلات، والإبداعية، والتواصل، والمشاركة، والتعاون… وهي مهارات/ كفايات مُبعدة من دائرة تقييم مُعاق يرتكز على عينات من محتوى معرفي مغرق -غالبا- في النمطية، وقلما ينصب على الكفايات العُليا.
يمكن أن نضيف إلى ذلك غياب اختبارات شفهية، كما هو حاصل في بكالوريا الدول المتقدمة إذ قد يكون لدى كل دولة خصوصيات في متطلبات البكالوريا الوطنية، ولكن الاختبارات الشفوية تعد عنصرًا أساسيًا في الامتحان لأنه يهدف امتحان البكالوريا الشفهي إلى تحقيق تقييم كفاية التواصل إذ تقيس المهارات الشفهية قدرة التلاميذ على التعبير عن أنفسهم بوضوح وفعالية، وهي مهارة أساسية في العديد من المجالات المهنية والأكاديمية؛ كما يسمح باختبار الفهم والتحليل: أثناء الامتحانات الشفهية، غالبًا ما يُطلب من التلميذ شرح وتحليل المفاهيم، لتقييم درجة فهمه للموضوعات التي تمت دراستها؛ ومن أهداف الشفوي في الباكالوريا تشجيع التفكير النقدي: يمكن للأسئلة المطروحة خلال الامتحانات الشفوية أن تشجع التلميذ على التفكير النقدي وصياغة حجج متماسكة استعدادا لمواقف الحياة الواقعية: المهارات الشفهية ضرورية في الحياة اليومية والمهنية. تعمل الاختبارات الشفهية، إذن، على إعداد التلاميذ لمواقف مختلفة مثل مقابلات العمل، والعروض التقديمية، والمباريات المهنية والمناقشات الأكاديمية، كما تساعد على تقييم القدرة على تدبير التوتر: قد يكون إجراء اختبار شفهي أمرًا مرهقًا، وهذه التجربة تساعد التلاميذ على تطوير استراتيجيات لتدبير التوتر والضغط والإجهاد. وهذه الأهداف توضح أن الاختبار الشفهي مصمم لتقييم المهارات المتنوعة والأساسية التي لا يمكن قياسها دائمًا عن طريق الاختبارات الكتابية. والمثير للاستغراب أن حتى بعض الكليات والمعاهد ذات الولوج المحدود تخلت عن الاختبار الشفوي مثل كلية الطب!
هناك ملاحظة أخرى، هي أن النقط الجيدة في المدرسة لا تعني بالضرورة معدل ذكاء مرتفع، على الرغم من وجود علاقة في كثير من الأحيان بين معدل الذكاء المرتفع والأداء المدرسي الجيد، إلا أنها ليست قاعدة. إذ هناك عدة عوامل يمكن أن تؤثر على الأداء الأكاديمي، مثل الدافع، والبيئة الأسرية، وطرق التدريس، والمهارات غير المعرفية مثل المثابرة والانضباط. وفي المقابل، قد يعاني بعض التلاميذ من ذوي معدلات الذكاء المرتفعة أكاديميًا بسبب الملل والنفور، أو نقص التحفيز المناسب… بالإضافة إلى ذلك، تلعب المهارات الاجتماعية-العاطفية، أيضًا، دورًا حاسمًا في النجاح الأكاديمي وفي الحياة بشكل عام. ويحسن إنجاز دراسات وبحوث حول المسارات الدراسية والمهنية المستقبلية لهؤلاء “المتفوقين” في الباكالوريا لمعرفة الأثر الفعلي لهذا التميز الأكاديمي على الاختيارات الدراسية والمهنية ونجاح المشروع الشخصي.
وفي نهاية المطاف، من الضروري إيجاد توازن بين “التميز” و”التفوق” الدراسي والنمو الشخصي وحفز الفضول وتحقيق التطور الشامل، بدلاً من الاقتصار على السعي الدؤوب لتحقيق درجة الكمال. كما ينبغي أن استثمار التقييم في محاربة الإخفاق الدراسي، والهدر المدرسي عن طريق إقرار الإنصاف وتكافؤ الفرص: يجب أن يكون التقييم منصفا لجميع التلاميذ، بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية والاقتصادية وألا يكون مرادفُ المجانية هو الرداءة. يجب جعل التقييم وسيلة وليس غاية في ذاته بتدقيق مداخله وتصحيح الاختلالات العميقة والمزمنة التي تقدم للمغاربة صورة زائفة عن نظامهم التعليمي تكذبها -كل مرة-الاختبارات الدولية التي انخرط فيها المغرب طواعية، والانكباب على تحقيق المعايير الثلاثة للتقييم وهي الملاءمة: وتعني اعتبار الاختبار أكثر أو أقل ملاءمة اعتمادًا على ما إذا كان يتماشى أو لا يتماشى مع الأهداف المنشودة؛ والصلاحية هي درجة الملاءمة بين ما ندعي فعله (تقييم الكفايات وضمنها الكفايات العليا) وما نفعله بالفعل (تقويم عينة من المحتويات بناء على أهداف جزئية تميل أكثر فأكثر إلى التنميط)؛ أما الموثوقية فتعني درجة الثقة التي يمكن وضعها في النتائج التي يتم تسجيلها: هل ستكون هي نفسها إذا تم جمع المعلومات في وقت آخر، باستخدام أداة أخرى، من قبل شخص آخر.