نوستالجيا: إحصاء، زواج وشعر…!!
بقلم: إدريس الواغيش
أحيانًا نتجَاهل، وفي أخرى لا نقرَأ ولا نسمع، ونتظاهر بالعَمى، حتى لا نرَى، ولا تصدمنا بعض المواقف المتلونة. لست معنيا بالإحصاء ولا المشاركة فيه، ولكن أذكر أنني شاركت فيه مرّتين مُتباعدتين، وكانت مشاركتي لدواعي مختلفة.
هناك من يحاول اليوم أن يستهدف الأستاذ، ولو من باب المشاركة في عملية الإحصاء، ويجعل من الإحصاء موضوع الساعة، بدافع شخصي أو بإيحاء من جهات معيّنة. ولكن، لماذا اختيار هذا التوقيت بالذات؟ وذاكرتنا لا زالت تحتفظ بمشاهد مشاركتنا المُخزية في الألعاب الأولمبية بباريس 2024، لولا أن أنقذ ماء وجوهنا البطل البقالي بذهبية، ومعه أشبال طارق السكتيوي بميدالية برونزية، دون أن ننسى كذلك، أننا على بُعد أسبوع ونيف من هاجس الدخول المدرسي المغربي.
يحاول هؤلاء وغيرهم، دون جدوى، إيهامنا أن الإحصاء كان سيأتي بالديمقراطية الحقة “غصبًا عن جدّ أبوها“، لولا مشاركة الأساتذة في الإحصاء. وبدأت وجوه أخرى من الجمعيات الحقوقية والمدنية، ومعهم بعض الشعبويّين يتحدثون في منابر إعلامية عن مشاركة الأساتذة في الإحصاء، وكأنها “خطيئَة“ أو تحدث للمرة الأولى في تاريخ المغرب، وكيف أن هذا الإحصاء كان فرصة المُعطلين للنّجاة من مخالب العطالة، يا سبحان الله. وبسببه كان سيتم الإقلاع الاقتصادي، لولا “أنّ الأساتذة“، وكانت ستندثر كل البلايا الثقيلة من فوق أراضينا، وتنخفض أرقام البطالة في جغرافيا مملكنا السعيدة، لولا أن شارك فيه الأساتذة.. إلخ.
ونسي هؤلاء أو تناسوا أن البطالة ظاهرة اقتصادية، لا تنجو منها دول نامية كانت أو متقدمة، نتيجة اختلال توازن في سوق الشغل مقارنة بفرص العمل، وإن اختلفت النِّسب هناك عندهم، وتباينت سُبل المُعالجة هنا عندنا. ونسي هؤلاء كذلك، أن الإحصاء عملية عابرة، وما هي إلا “سبعة أيّام دالباكور دايزَة بالزّربة“، وليست سوقا قارًّا لفرص الشغل.
كما نسوا الأهم، وتناسوا أن ثمن ثمرة واحدة (حبّة) من التّين الشّوكي (الهندية) ناهزت العشرة دراهم، وثمن الدجاج الرّومي (اللحم الأبيض) كاد يقترب من الثلاثين درهما، وثمن اللحم الأحمر أصبح خطا أحمر، يصعب على فئات عريضة من المجتمع المغربي تجاوزه، لأنه قارب المائة وثلاثين درهما، وثمن الكيلو الواحد من السّردين تجاوز حدّه الأقصى، ووصل إلى ثلاثين درهما. هذه العوامل كلها مجتمعة وغيرها تناسوها عن قصد، وهي كافية لأن تدفع بالأستاذ إلى المشاركة في الإحصاء، وحتى السياقة بالليل سائق طاكسي صغير أو شاحنة، والقيام بأعمال أخرى للوصول إلى نهاية الشهر سالما، ومع ذلك “شوف تشوف “.
نحن نعرف، كما هم يعرفون، ولكن يتجاهلون عن سوء نية، أن أغلب الأساتذة يجرّون وراءهم مصاريف آباء وأمهات عجزة ومرضى، وإخوة وأخوات عاطلون عن العمل، ويتكفلون بطلبيات أخرى، منها ما هو مرتبط بتعليمهم الجامعي والعالي والحياتي، من أكل وشرب ولباس وسفر ودواء.
عود على بدء، أذكر أن مشاركتي الأولى في الإحصاء، يوم كان الإحصاء عملية وطنية إجبارية، وكنا فيها أساتذة وطنيين مساهمين في إنجاح العملية، بكل إكراهاتها وصعوباتها في القرى والبوادي، وفي عزّ حرارة شهر غشت، بما يحمل معه من قلة ماء وحرارة، كانت تتجاوز الأربعين درجة على مدى شهر كامل. لم يقل أحد حينها بأن الأساتذة “عطّاشة“، كما يدّعي مُرتزقة جمعيات تقتات على فتات الدعم من جهات رسمية وغير رسمية. كنت يومها على موعد مع دخولي قفص الزّوجية، ومع ذلك، أرغموني على المشاركة بالإكراه، والرّفض في زمن “أمّ وزارَات“ إدريس البصري رحمه الله، حين كان وزير داخليتنا، له رمزيته، كما قد تتبع هذا الرّفض أو الامتناع و“قسوحية الرّاس“ امتدادات ودوائر وأسئلة، تبدأ ولا تنتهي.
ومع ذلك، صمت حقوقيو وأخلاقيو الأمس، ولم يتبق أمامنا منهم سوى “لاأخلاقيو“ اليوم. وها هم يدافعون عن حقوق التلميذ والطفل والمُعطل (يا سلام)، ويتحدثون عن إمكانية خلق فرص الشغل للمعطل انطلاقا من عملية الإحصاء، وكأن البطالة حالة طارئة علينا، ولم نعلم بها إلا حين حلّ بين ظهرانينا الإحصاء فجأة. والأساتذة المشاركون فيه، هم سبب البلايا التي سقطت على رؤوسنا، وهم سبب مشاكل الشباب العاطل في المغرب، وهم مصدر نزيف فرص الشغل. وأن البطالة وليدة اللحظة، ومشاركة الأساتذة في الإحصاء، زادت من حدّة الأزمة، هكذا إذن…!!
أذكر أنني قلت يومها لأحد المسؤولين متوسّلا، أحاول أن أستعطفه، ونحن في مركز الإحصاء:
– سيدي، أنا مُقبل على الزّواج، ويجب علي تدبّر أمري وحدي، أبي رجل بصير وأمّي امرأة مُسنّة، هل تعفيني من الإحصاء..؟
ظنّني في البداية مُستهزئا، وضحك. ولكن عندما أصررت وأقسمت، طلب مني إحضار إحدى الوثيقتين: إما شهادة إدارية تثبت ادّعائي الزّواج أو طبية تعفيني. وتحسُّبًا منّي لكل احتمال، أحضرت الوثيقتين معًا. وعند رجوعي، دخلت مكتبا فسيحًا، يهبُّ منه نسيم حياة وتغطيه زربية مغربية أصيلة. أدليت بشهادتي الطبية، وإذا بموظفة حسناء تشير بأصبعها إلى مكتب وضعت عليه عشرات الشهادات. عرفت عمليا أن الشهادة الطبية متجاوزة، فما كان مني إلا أن أدخلت يدي في جيبي، وأخرجت منه الشهادة الثانية، موقعة من مُقدّم الحيّ وعليها إمضاء السيد قائد الملحقة بمكناس، تثبت ما ادّعيته من زواج، مسنودة بنسخة من عقد النكاح حديث النسخ والتدوين. وكان لزاما على المواطن يومها طلب شهادة من الملحقة الإدارية، تفيد أن صاحبها سيقيم العرس فوق السطوح، وليس في قاعة الأفراح. أولا كترخيص إداري، وثانيا تفاديا لأي احتجاج من الجيران على الإزعاج الليلي، وما يصاحبه من هرج وموسيقى. وشهادة من مقدم الحيّ، مع ختم قائد الملحقة قادرة لوحدها على إسكات كل الأفواه. وكانت الأعراس يومئذ تقام فوق السطوح أو أمام المنازل وفي الأزقة، أما قاعات الأفراح والحفلات، فكانت حكرا على بعض المهاجرين في الديار الأوروبية، والعائلات الميسورة من البرجوازية التقليدية.
قلت، إذن هانت وسهلت، وعندما استفسر رئيسه، خرج كاتب عام العمالة بنفسه إلى الجمع في ساحة المؤسسة التعليمية، حتى يسمع جميع المشاركين قراره، وقال بما يلزم من حزم وجدية:
– الإحصاء مسألة وطنية، والمشاركة فيها أمر واجب ومحسوم من جهات عليا، لا نقاش فيه. لن تفلتكم من عملية الإحصاء أيّ شهادة، الموت وحده من يفلتكم…!!
ضحكنا في دواخلنا ضحكة المَهزوم، وأخذ كل منّا شهادته تحت إبطه أو لفّها وأدخلها في جيبه، وانصرفنا نكمل إجراءات التكوين، استعدادا لعملية الإحصاء. كانت الدولة تنظر إلى المشاركة في الانتخابات والإحصاء واجبا وطنيا مقدسا، والواجب الوطني يستدعى له عادة إما الأساتذة والمعلمون أو الجنود، وليس العاطلون.
علما بأن الإحصاء له خصوصية، وليس مرتبطا بما هو حسابي محض، ولكنه مرتبط أساسا بالتواصل الإنساني بالدرجة الأولى، وإن فشلت عملية التواصل مع الناس ومختلف الشرائح المجتمعية، فسدت العملية برمّتها. والإحصاء ليس جمع معلومات، كما قد يعتقد الكثيرون، هو عملية تواصلية في الأساس، وعملية التواصل لا يجيد تدبيرها سوى الأساتذة، والمسألة هنا تعود إلى الممارسة والدراسة. والأساتذة في هذه الحالة يلعبون في مرماهم، ولا يمارسون شيئا غريبا عنهم أو دخيلا عليهم، عكس فئات أخرى، قد تنظر إلى الإحصاء على أنه مجرد تدوين معطيات وأرقام، أو جمعها وترتيبها في سجلات.
كما أن تعويضات الإحصاء في تلك الحقبة الزمنية، لم تكن تغري أحدا، وأحيانا كان المسؤولون في بعض الأقاليم “يدَهمرونها تدهميرا”، ولا يصرفونها للمشاركين إلا بعد فضائح إعلامية واحتجاجات بالجملة. وكان البعض لا يأخذها بتاتا، لأن اسمه ضاع بين كثرة الأسامي وتشابهها في أرشيفات المكاتب. هذه الأسباب وغيرها، كانت تدفع الكثيرين إلى رفض المشاركة، ولا يقوم بها إلا تحت الإكراه، لأن الإحصاء كان يفسد على الأساتذة عطلة الصيف، هي التي كنا ننتظر قدومها بشوق كبير، إذا بنا نقضيها بين الحصائد والتجوال بين الدواوير المشتتة، وأشجار السّدر والصّبار، وتربّص العقارب والأفاعي بأيدينا وأرجلنا، ولكن السلطات المغربية كانت لها دائما حساباتها. وكان الأجدر بهؤلاء، مساءلة الحكومة أو الوزارة المعنية بالإحصاء عن السر في اختيار هذا التوقيت، لترينا شجاعتها ونجاعة تفكيرها.
أذكر أن وقت مشاركتي في الإحصاء الأول كان صيفا، كما صيفنا هذا، والوقت حارٌّ جدا، والماء شحّيح، كما موسمنا هذا، بالكاد كنا نجد جرعة ماء للشرب، وليس للاستحمام. وصلت ذات يوم إلى إحدى المنازل المنعزلة فوق ربوة عالية، في منظر كلبٍ كُنته من كثرة اختلاط العناصر فيَّ، العَرَق مع غُبار الصلصال الأسود. وكنت وحدي، راكبا فوق صهوة بغل ثقيل الخطوات، متقدم كثيرا في العمر، وبقيت حائرا في الخلاء، وقد تأخر عني المقدم لظرف طارئ. نظر إلي الشيخ بإشفاق، وقال لي متحسّرًا:
– أنت مول الإحصاء..؟
قلت له: أي نعم…
تفحص ملامحي جيدا، وهو يداعب لحيته البيضاء، وأنا لا أبالي بتدقيقاته الثاقبة، ونظرات الإشفاق تملأ عينيه. قال لي متأثرا:
– والله يا بنيّ، لا أجيبك على سؤال، إلا بعد أن تغتسل…!!
قلت له:
– يا مولانا، لم أجد ماء للشرب، فكيف لي بماء للاغتسال..؟
ولكن لحسن الحظ، مرت الأمور بيني وبينه بردا وسلاما. قمت بعملي، أكلت وشربت ونمت، وفي الصباح غادرت. حينما التقيت بزملائي، حكيت لهم ما جرى لي مع الشيخ. لم يصدقوني، كذبوني واستهزأوا بي، كما فعل أبناء يعقوب مع أخيهم سيدنا يوسف. قالوا لي جميعا:
– لم نجد ماء للشرب، وأنت تحدثنا عن الاغتسال…!!
هكذا مرت أيام الإحصاء صعابا شدادا عليّ، وعلينا جميعا، إلى أن انتهت المهمة، ولن أنسى تلك الأيام ما دمت حيا. ولكن في المرة الثانية، اختلفت كثير من الأمور، كان الإحصاء في المدينة وليس في البادية، وكانت المشاركة اختيارية وليست إجبارية. بدأت فكرة المشاركة في الإحصاء، حين لم أجد مالا أطبع به ديواني الشعري الأول: “أجنحَة وسبعُ سمَاوات“، وأمام حيرتي وقلة ذات اليد، اقترح عليَّ أحدُ أصدقائي المبدعين أن أشارك في الإحصاء، وبمستحقاته قد أوفر ثمن الطبع أو نصفه على الأقل، ونجت الفكرة. وهكذا ارتميت مكرها للمرة الثانية على التوالي في عملية الإحصاء، بالنسبة لي على الأقل، ولكنني لن أكرّرها ثانية، إلا إذا كنت مكرها للمرّة الثالثة أو بدافع القيام بالواجب الوطني، كما في المرات السابقة.