أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

قراءة في كتابات الأديب المغربي الأستاذ فؤاد عفاني وجه لا يشيخ نموذجا – الجزء الثاني

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

أحمد الجبلي
تناولنا في الجزء الأول من موضوع “قراءة في كتابات الأديب المغربي الأستاذ فؤاد عفاني من خلال منتوجه الأدبي -وجه لا يشيخ” حديثا عن الأسلوب والمنهج والمسلكية الأدبية المتميزة التي يكتب بها الدكتور فؤاد عفاني والتي تتجلى في براعته وقدرته على دمج مجموعة من الفنون الأدبية لتعطينا شكلا ماتعا جمع فيه بين طلاقة في التعبير وانسيابية في السرد، واضطرادية في النسق والسياق.
يبدأ الكاتب إبداعه الأدبي “وجه لا يشيخ” بصرخة مدوية فيطأ زر الإنذار محذرا وآمرا: (احذروا زيف الصور) (احذروا خدع المجازات والاستعارات) (ابحثوا عن الحقائق في مكان آخر بعيدا عن الأضواء)
هكذا إذن يمنح الكاتب نفسه سلطة الأمر وقوة التوجيه، وبكل ثقة، يقف موقف الخطيب ليوجه نداءه لنا معشر القراء، محذرا لنا من أن نقع ضحية تزييف الحقائق وطمس الواقع، وتحريف الكلم عن مواضعه. ولكن مباشرة بعد هذا التوجيه سيكشف لنا عن هويته، لنعلم بأنه صحفي ذو سلطة تقدر بأنها سلطة رابعة، ولعل هذه السلطة وحدها من جعلته يقوى ويجرؤ على خطابنا بهكذا خطاب، ونحن بدورنا كقراء سنتقبل الأمر خصوصا إذا كان له ما يبرره ويسوغه.
مباشرة بعد لعبة السلطة والتحذير من الصور الزائفة، سيقول: “أخيرا وَجَدَت الصورة طريقها للنشر” إن كلمة “أخيرا” وحدها أقنعتنا بأن هذه الصورة تختلف عن باقي الصور التي تم التحذير منها، كما أنها حملت معنى المشقة والتعب والولادة القيسرية العسيرة والمخاض الصعب.
إن كلمة “أخيرا” مثلت إعجازا لغويا بجمعها لمعاني شتى، استغنى بها الكاتب عن الكثير من الكلمات والجمل والتعبيرات الطائلة التي ما كانت لتحقق معنى أفضل من كلمة “أخيرا”. لقد كان يمكن له أن يقول: ” أما أنا كصحفي فالتقطت صورة حقيقية تعبر عن واقع كنت شاهدا عليه” ونحن كقراء سنفهم حينها بأن الأمر عادي ويفعله كل الصحفيين وأن هذه الصورة لا تختلف في شيء عن باقي الصور.
كما أن كلمة “أخيرا” ستطرح في عقولنا أكثر من علامة استفهام مما يحفزنا للقراءة لمعرفة الظروف والملابسات التي واكبت التقاط هذه الصورة العجيبة.
واحتراما للقراء، وتجنبا لمزيد من التشويق أو الإطالة في ذلك، نجد الكاتب مباشرة يخبرنا بأنه التقط هذه الصورة خلال متابعته للحزن العربي، وحينها سيبدأ بالحديث عما وقع.
لقد انتقل من فعل الأمر الذي حذرنا به من أن نقع فريسة للتضليل والتجهيل والتلاعب بالحقائق، وتمرير خطابات تشوه الحقيقة بل وتغيبها، إلى الفعل المضارع ( يتنفس، يروي، أستنشق، تتربص، يتسللان، يركدان يختبئان) في واقعية منسجمة مع واقعية الصورة التي تشهد وتؤرخ وتجمد لحظة لتبقى خالدة أبد الدهر.
وحين يستعمل الفعل الماض، فهو ماض يوشك أن يكون جزءا من الحاضر (التقطت، فتحت، استَرْعَت، كانت) وهو ماض تمليه طبيعة السردية لحبك القصة في سياقاتها التاريخية المنسجمة مع واقعية الأحداث التي رافقت عملية التقاط الصورة.
إن الكاتب / الصحفي هو الراوي الذي يروي لنا القصة، والتي انطلقت من الفندق ذي الملامح العربية والذي يتنفس عبق التاريخ، ومن شرفة في الطبق الثاني بدأ كل شيء، حيث أراد الصحفي أن يستنشق هواء نقيا وإذا برائحة الصمت تعم المكان لتنطلق الحركة غير العادية في الشارع المجاور. وفي تعبير لغوي جميل يشبه المكساج (الدمج والتداخل) عندما تتداخل صورتان لتفرزا معنى واحدا، فالكاتب يريد استنشاق الهواء النقي ليجد نفسه يتحدث عن رائحة الصمت التي تعم المكان، وكأني به أراد استنشاق الهواء فإذا به يستنشق شيئا آخر مختلف تماما عما أراد ألا وهو الصمت الرهيب الذي عم المكان، وهو كناية عن حالة الطوارئ ومنع التجوال فلا طائر يطير ولا بشر يسير، وأن أمرا ما سيحدث.
“جنود مدججون بأسلحة تتربص بضحيتها”، بهذه الجملة الاسمية الصاعقة التي ألقاها في وجوهنا كأنها قنبلة، يبدأ السرد وتبدأ الأحداث، ولكنها جملة معقدة شيئا ما، فما الذي يتربص بالضحية؟ الجنود؟ أم الأسلحة؟ عادة ما يتربص الكائن الحي، كأن يتربص الأسد بفريسته، أو تتربص القطة بفأر، أو يتربص الجندي بعدوه أثناء الحرب، كما كان من المفروض أن يكون هنا في هذا الشارع المجاور للفندق ذي الملامح العربية والذي يتنفس عبق التاريخ.
ولكن يبدو أن الكاتب قد اختار مصطلحاته بدقة، ووظفها عن قصد ليعبر عن موقف ويشرح لنا وجهة نظره، فالجنود مدججوج، وكلمة مدججون تعني أن هؤلاء يملكون أسلحة كثيرة ومتنوعة وربما متطورة كذلك، وفي المقابل ماذا عسى يحمل رجل ملثم معزول يتسلل من مكان إلى مكان؟
إن هذه المسحة البانورامية التي صورتها عينا الصحفي، تكفي لنفهم بأن الأمر يتعلق باستعمار غاشم ظالم مسلح يتربص بالعزل الذين لا يملكون غير شجاعتهم وقلوبهم القوية وربما بعض الحجارة المجانية للدفاع عن أنفسهم ووطنهم.
فهم إذن (جنود مدججون بأسلحة تتربص بضحية) فالأمر واضح بأن الأسلحة هي من يتربص بالشابين الملثمين، ولعل هؤلاء الجنود ما استمدوا قوتهم وساروا في أثر الشابين إلا لأنهم يحملون أسلحة، وماكانو ليجرؤوا على فعل ذلك لو كانوا عزلا لا يملكون أي سلاح،
فالسلاح هو من يخيف الضحية وليس الجندي الرعديد، السلاح هو من يجعل الضحية تناور وتكر وتفر وتتربص وليس حامله الخوار، إذن، السلاح في أيدي الجبناء هو من يتربص بالضحية، إنها صورة جميلة معبرة تفنن بها الكاتب وأصاب بها كبد الحقيقة. كما استغنى الكاتب بهذا التعبير المجازي الجميل عن الكثير من الكلام الذي كان سيحتاجه كي يصف جبن وعجز هؤلاء الجنود.
ولكننا وجدنا الكاتب ، بعد ذلك، يتحدث عن عدو لا تنام عيونه فيصنع الموتَ للملامح قبل الأجساد..فلما إذن، بعدما اعتبره جبانا رعديدا خوارا، يعود من جديد ويعتبره قويا يقظا يصنع الموت للملامح قبل الأجساد؟
إن اعتبار الجنود جبناء على اعتبار أن أسلحتهم هي من تتربص بالضحية، يثمن القوة التي يملكها الكيان الغاصب من أسلحة بيولوجية ونووية ودعم دولي لا مشروط، إن هذه القوة قد ألقت بظلها على الكثير من الدول العربية مثلا فهابت وجبنت تبعا لذلك حتى وهي تعلم لأن الضعف واقع وقد نطق به الحق المبين: (أهون من بيت العنكبوت).
يقول ستيفن كوفي: “لا أحد يستطيع أم يؤذيك بدون إذنك” فالملامح تتغير من جراء وجود عدو مسلح ومتسلط وظالم لأنها ملامح وجه أعطى للعدو أكثر من حجمه فتخيله كبعبع يملك أقوى سلاح وأخطر الجنود، فصار في مخيلة المتوهمين، جيشا لا يقهر.
وقد رأينا أطفالا وهم يتعاركون مع جنود العدو بندية مستحيلة لا خائفين ولا هيابين، وبعضهم بحجارة في يده أرغم الدبابة على التراجع. وفي انسجام مع قيل، رأينا الكاتب يتحدث عن الطفل وهو يطارد الفراشة تارة وتارة يطارد العصور وأنثاه، لم يأبه للجنود ولا لمن حوله، لأنه طفل يملك من العزيمة والشجاعة ما يجعله ينتزع الحياة من بين براثن الموت، ويعيش طفولته فيلعب الكرة وسط الرصاص، ويحاكي الحرب مع الرفاق في زقاق مليئ بالموتى والأشلاء.
عندما نقرأ هذا الإبداع الأدبي الذي جادت به قريحة الأديب المغربي فؤاد عفاني، نجد أن مصطلح الصورة والوطن يتكرران باستمرار، لقد ذكر الصورة 13 مرة إحداها جاءت بصيغة الفاعل (مصور) وأخرى بصيغة المصدر (تصوير)، وأما الوطن فقد ذكر 12 مرة، فالوطن لا يملك أي سلاح سوى الصورة الحقيقية غير المزيفة التي تلعب دور السفير والرسول عندما تنتشر هنا وهناك في وسائل الإعلام العالمية لتكون صورة الطفل البريء الجامدة شاهدة إثبات على جرائم عدو متوحش لا يميز بين صغير و كبير، وهي صورة أبى الصحفي إلا أن يجعلها بدون تعليك تفاديا لأي تشويش أو تأثير وكي تكون بواقعيتها وكل ما تحمله من زمان ومكان ولغات وألوان أبلغ من كل تعبير.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock