حذاري من شماتة السقوط في المحظور
المصطفى حميمو
أشدّ ما يخشاه المسلم الفاطن، من الخاصة وحتى من العامة وبحق، هو الشرك بالله كلما تذكر قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ الآية. إلا أن الظالم للعباد منهم يسقط في ذلك الشرك الذي يخشاه من دون أن يشعر. يُشمت بالسقوط في ذلك المحظور وهو لا يشعر بسبب الخلط بين الذنب والسيئة من جهة وبسبب عدم التمييز من جهة ثانية بين مدلول “الرب” ومدلول “الإله” كصفتين من صفات الله تعالى. كيف ذلك؟
.1 الفرق بين الذنب والسيئة
بالبحث البسيط نجد أن الــــذنـــب يترتب عن إساءة العبد لنفسه. وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ …﴾ الآية. ومقتضاه بحسب منطوق نفي الآية الكريمة هو الـــــمــــغــــــفـــــرة ﴿ .. ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. المغفرة لماذا؟ لأن الإساءة إلى النفس من قبيل ما هو بين العبد وربه فقط، ليس فيها إساءة للغير. فإن شاء سحانه غفر وإن شاء عاقب.
بينما الـــــســــيـــــئـــــة تترتب عن الإساء للغير، وليس فقط لنفس المسيء. وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. ومقتضاها الــــكــــفـــارة وليس المغفرة. والكفارة تعني دفع الــــتـــعـــويـــض. تعويض المظلوم الذي قضى الله بعدله أن ينصفه من ظالمه بجعله يعوضه عن الأضرار المادية أو المعنوية التي لحقته ممّا يملك في الدنيا قبل الآخرة، وإلا يتم تعويضه لا محالة يوم العرض﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾، اليوم الذي قال فيه تعالى: ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾. وحسبنا في ذلك “حديث المفلس”.
ونلمس الفرق بين الذنب والسيئة بكل وضوح عبر مقتضى كل منهما من مغفرة وكفارة في قوله تعالى ﴿… ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾. الآية الكريمة حيث يطلب المسيء لـــنــفــســه من الله مـــغـــفـــرة ذنوبه من جهة، ومن جهة ثانية يطلب منه المسيء لــغــيــره أن يكفّر عنه سيئاته، بمعنى أن ينوب عنه في إنصاف من أساء إليه بتعويضه عما لحقه من أضرار بسبب عجزه عن ذلك لسبب ما، ومن دون أن ينقص من حسناته يوم العرض﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾، و﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾
فلا يستهان بظلم العباد لأنه لا مغفرة في السيئات المجترحة في حق الغير، وإنما محوها يتطلب الكفارة في الدنيا قبل الآخرة، مع الإكثار من جني الحسنات بحسن معاملة العباد لتعويض ما ينقص منها بسبب تعوض المظلوم يوم الحساب هما لحقه من سوء الظالم. وذلك بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: “اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن”. وفي الوقت نفسه يُشمت المسيء لغيره أي شماتة لما يقع في الشرك الذي يخشاه أشد خشية وهو لا يشعر. وذلك لما لا يميز بين كون الله “ربّا” وكونه “إلها” في الوقت نفسه. كيف ذلك؟
2. الفرق بين “الرب” و”الإله” من صفات الله تعالى
بالبحث البسيط نجد أن معنى “الرّب” في حق الله هو أنه الخالق والمتصرف المطلق في خلقه كيف يشاء. والله هو رب العالمين بالرغم عن أنف من آمن به ربّا أو لم يؤمن. ولذلك، غــــيــــر مطلوب من المسلم أن “يشهد أن لا رب إلا الله”. فهو ربه شاء أم أبى. غير أن من آمن به ربّا فهو يؤمن بأنه سميع عليم وعلى كل شيء قدير. فلا يدعو سواه من أجل قضاء حوائجه لقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ وقوله سبحانه ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ وذلك هو توحيد الربوبية. ومن اتخذ مخلوقا من مخلوقاته ربّا يدعوه فهو يشركه في ربوبية الله ولا يسيء سوى لنفسه وأمره إلى الله.
ومعنى “الإله” في حق الله تعالى هو أنه الآمـــــــــــــــر والـــــــــــــنــــــاهــــــــــي. والــــعــــبـــــادة هنا تعني الطاعة المطلقة لأوامره ونواهيه بوصفه الإله. ومن ذلك معنى لفظ “العبد” بين البشر، وهو الذي لا يعصي لسيده أمرا. فعبادة الله تعالى كإله هي الطاعة الــــمــــطـــلــــقـــــة لأوامره ونواهيه. ومنها أداء الشعائر من صلاة وصوم وزكاة وحج والتي ليست هي كل الطاعات كما يشاع. شعائر يُستعان بها على العدل والإحسان إلى العباد ولا سيما على واجتناب ظلمهم. وحسبكم في ذلك حديث المفلس مرة أخرى. حديث المفلس حيث نلمس بكل وضوح أن أداء الشعائر غير مقصودة لذاتها، لأن االله غني عنها وعن العالمين. ودليل ذلك هو أن المفلس يوم العرض، وبحسب منطوق نفس الحديث، يُكبّ في النار مع صلاته وصيامه وزكاته، لأنه ما انتفع بها لما لم يستعن بها على اجتناب ظلم العباد.
وتبقى الطاعة الـــــنــــســــبـــــيـــــة لغير الله من مخلوقاته كالوالدين وكأولي الأمر لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر…﴾ الآية، وطاعة غيرهم ممن يستحقها. لكن في حدود طاعة الله المطلقة، إي فيما لا يتنافى معها. ومن ذلك في حق الوالدين قوله تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ …﴾ الآية.
وكما تقدم، الله هو رب العباد بالرغم عن أنفهم، شاءوا أم أبوا. فلا يطلب منهم شهادة “أن لا رب إلا الله”. ومع ذلك من يشرك به مخلوقا في الربوبية فهو مشرك مسيء لنفسه وليس لغيره، وأمره إلى الله. بخلاف ذلك، شاء الله أن يكون العبد مخيرا في اتخاذه إلها من دون غيره أم لا، كامتحان له، ويتحمل عواقب اختياره لقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾الآية. ولذلك مطلوب من المؤمن أن يشهد قلبا وقالبا “أن لا إله إلا الله” من دون غيره. بمعنى لا مُطاع طاعة مطلقة سوى الله. ويمتثل لمقتضيات تلك الشهادة في حياته الخاصة والعامة. ولا يشركه فيها هواه وهوى غيره من مخلوقاته.
ومن أهم نواهي الله تعالى “اجتناب ظلم العباد”. من اجتنب طيلة حياته وما استطاع، ظلم العباد فقد فاز دنيا وآخرة. لكن الإنسان يقع تحت ضغط نفسه التي شاء الله أن تكون أمّارة بالسوء كابتلاء أي امتحان كي يعصاها طاعة لله. ومن لم يفعل يظلم غيره بقصد جني منفعة مادية أو معنوية ما فانية أنانية بضغط من هوى النفس الأمارة بالسوء. فيقع بذلك في إشراك هوى نفسه في الألوهية التي شهد أنها لله من دون غيره. وذلك هو الشرك في الألوهية الأشد من الشرك في الربوبية والذي يسقط فيه ظالم العباد شماتة بسبب عدم تمييزه بين كون الله ربا لا يدعى غيره من جهة وإلها لا يعصى له أمر من جهة ثانية. وهو الشرك في الألوهية من باب الشماتة والمقصود في قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾
الخلاصة
صفة “الرب” في حق الله تعالى تشير إلى كونه الخالق المدبر والسميع العليم وهو على كل شيء قدير. فلا يدعى من دونه أحد من أجل قضاء الحاجات حتى لا يشركه به تعالى في الربوبية. بينما كونه تعالى هو “الإله” فيعني أنه الآمــــر والـــنـــــاهــــي. وعبادته تعني الطاعة المطلقة لأوامره ونواهيه من دون غيره. ومن أهم تلك الطاعات اجتناب ظلم العباد. ففي كل ركعة يدعو المصلي ربه أن يهديه الصراط المستقيم، أن يهديه إليه ليس وهو يصلي، بل ما بين الصلاة والأخرة لما يكون في الاحتكاك مع العباد، فلا يظلم منهم أحدا ما استطاع إلى ذلك سيبلا. وذلك هو معنى شهادة “أن لا إله إلا الله”. وعليه فالـــظـــالـــم لغيره، شاء أم أبى، مُــــــشــــرك لهواه أو هوى غيره في الألوهية أي في الطاعة المطلقة الخالصة لله من دون غيره. فــــــحـــــــذاري من شماتة ظلم العباد لما فيه من شرك في الألوهية. شرك أكبر وأعظم وأشد من الشرك في الربوبية، بدليل حديث المفلس يوم العرض. المفلس يومئذ، الذي صلى وصام وزكى وحتى حج في حياته ومع ذلك يكب في النار. وخير ما نختم به هذه الورقة هو قوله تعالى: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار﴾.