خطاب التحضر
محمد شحلال
بالرغم من ماضي فرنسا الاستعماري وما تولد عنه من تداعيات مؤلمة على كثير من الشعوب التي استعبدتها،فإن هذا البلد يظل رمزا للأنوار في أبعادها المختلفة،والتي جسدها أدباؤها وشعراؤها العظام،وكذلك مفكروها الذين رسموا للعالم معالم المجتمع الحر والمتكامل،حيث يرجع الفضل في ذلك إلى كل من ،،مونتيسكيو وجان جاك روسو،،الذي تقاسم مشروعه السياسي مع نظيريه في بريطانيا : توماس هوبز وجون لوك.
لعل هذه المقدمة المقتضبة ضرورية للحديث عن خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون في البرلمان المغربي صباح يومه الثلاثاء.
لقد تعرض الرئيس الفرنسي خلال مسار قيادته لبلاد الأنوار،لمجموعة من الانتقادات الداخلية والخارجية خاصة في بداية عهدته الثانية،حيث امتعض العرب والمسلمون من بعض مواقفه تجاه الإسلام، ثم ازداد منسوب هذا الامتعاض حينما سارع إلى مناصرة إسرائيل في حرب غزة المستعرة.
إن الرئيس الفرنسي كغيره من قادة الغرب ،يظلون في الواقع أوفياء للمنطق الذي يؤمنون به،بينما نريد نحن- معشر العرب- أن يسايرنا الاخرون في عواطفنا وتصوراتنا التي لم نهيء لها شروط القبول لدى الاخر،فإذا ترجم مواقفه على أرض الواقع،اندفعنا لعرض مخزوننا من الشتم والسباب اللذين يتحولان مع مرور الأيام إلى مغازلات في السر كما في العلن.
ولعل أبرز نموذج على سوريالية تفكيرنا،هو ذلك التصريح الشهير للرئيس ماكرون حينما أعلن وبمنتهى الصراحة بأن بلده هي من صنع الجزائر،ليهب الرئيس الجزائري وكل أطياف المجتمع لمهاجمة الرئيس وتهديد بلاده ،قبل أن يسقط في أيدي هؤلاء المندفعين حينما تناسى الرئيس الجزائري هذا الجرح الغائر،ويعلن عن صداقة وثيقة مع الرئيس، ما لبث أن وثقها هذا الأخير عبر قبلات تاريخية لا تخفى إيحاءاتها على سدوم النبي لوط عليه السلام.
وبالعودة إلى خطاب الرئيس ماكرون أمام نواب الأمة،فإن المتابع،لا يسعه إلا أن يقر بقوة الملكة الخطابية لدى هذا الرجل الذي يشد إليه المستمع بسلاسة أفكاره وترتيبها ، مسترشدا بشواهد التاريخ والجغرافيا والحضارات الإنسانية حيثما نشأت من غير إنكار ولا تعصب.
لقد سفه الرئيس الفرنسي مرة أخرى كل الأبواق في الجزائر وغيرها ممن يسعون عبثا للانتقاص من شأن المغرب وعمقه الحضاري، حيث أورد الخطيب نماذج من بصمات المغاربة عبر التاريخ الدبلوماسي،إذ توقف عند السفير ابن عائشة وقصة طلب يد الأميرة للمولى اسماعيل،ثم عرج على دور المغاربة في تحرير بلاده،ليتوقف عند إبداعهم عبر اللغة الفرنسية التي كان بعض المتميزين فيها ضمن الحضور،وفي مقدمتهم صاحب،،حرودة،، الكاتب ،الطاهر بنجلون،إلى جانب الوزيرة رشيدة داتي المغربية الأصل.
كان خطابا لافتا بعناية بنائه، وطريقة إلقائه التي تبرهن على مدى إلمام الرئيس ماكرون بالشؤون الدولية ،وعن دهاء سياسي ربما كان شرطا لا بد منه لقيادة بلاد دوغول وجون بول سارتر، ناهيك عن الاف الأسماء اللامعة في كل الفنون المعروفة.
تضمن الخطاب الذي استمعت له باهتمام ،ما كنا ننتظره جميعا،حيث صفقت ،،عن بعد،،حينما أكد الرئيس ماكرون موقف بلاده الذي لا رجعة فيه ،بخصوص سيادة المغرب الأبدية على اقاليمه الصحراوية،بل إن ما يعزز هذا الموقف،هو إعلان الرئيس عن مساهمة بلاده في تنمية هذه الأقاليم قبل أن يطلق رصاصة الرحمة على الخصوم حين أعلن بأن بلاده وأمريكا،سيدعمان المغرب في المحافل الدولية .
وبلغة من يكفر عن خطيئة ما،فإن الرئيس الفرنسي ما لبث أن خدش الاذان عندما نعت حماس بالبربرية ،قبل أن يقر في النهاية بضرورة العمل على إيقاف الحرب المدمرة في غزة ولبنان.
إن زيارة الرئيس الفرنسي لبلادنا تؤسس لعهد جديد من العلاقات المبنية على الوضوح والإنصاف،فهل يستخلص نظام الجزائر درسا يجعله يتوقف عن العداء المجاني لكل من يصارحه بالحقيقة، أم أنه ماض نحو إدخال البلاد في التناحر والفوضى التي تسود بمحيطه ؟
مرة أخرى،لا يمكن إخفاء الإحباط الذي يصيبنا من بعض مواقف فرنسا ،،البراغماتية،،- على كل حال- لكننا لا ننكر بأن هذا البلد يظل ملاذا لكثير من عاسقي الحرية الذين عاد معظمهم إلى بلدانهم مظفرين،بينما قضى اخرون على ترابها وما زالت جراحهم تسائل بلد الأنوار،وما اختفاء الراحل المهدي بنبركة بباريس في مثل هذا اليوم من سنة 1965،إلا نموذج من طينة من لن ينساهم التاريخ ابدا.