شماعة “المكتوب”
المصطفى حميمو
فوفق ثقافتنا الشعبية، غالبا ما نجد من بيننا الذي يقول “مكتوب” في حق ما يصيبه من مكروه مُتوقع حصوله من جراء فعله المتعمد. يقول عنه أنه مكتوب مع الاعتقاد بأنه كان قدرا حتمي الوقوع ولا مفر منه. وقد يجد من يؤيده بغية مواساته بترديده للمثل الدارج والقائل “المكتوب على الجبين لازم تشوفو العين”، بمعنى أن المصاب بالمكروه الذي تسبب فيه هو بريء من حصوله.
مع العلم أن ما حصل له من مكروه هو فعلا مكتوب. لكنه ليس قدرا لا مفر منه، وإنما بسبب قيامه بفعل متعمد سابق لحصول ما يكره. فلو أنه امتنع عن فعل ما فعل، فـــمـــكــتــوب أيضا أنه ما كان ليصيبه ما أصابه من مكروه. وذلك هو معنى القضاء في مقابل القدر. فما هو الفرق بينهما؟
.1 معنى القدر
بالبحث البسيط ستجد أن معنى القدر واضح ولا إشكال في تعريفه. فهو بكل بساطة الحدث المكتوب من خير أو شر الذي يحصل للإنسان من دون أن يكون له أي دخل في وقوعه. وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [ الحديد: 22].
والحكمة من حصوله إن كان شرا، فهو الابتلاء أي الامتحان. بمعنى هل المصاب بمصيبة يصبر أو يكفر، لقوله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [ البقرة: 155-157].
والقدر إن خيرا أو شرا لا مفر منه منذ نشأة الإنسان في رحم أمه. فما يكون له حينها من خيار في مكان وزمان ولادته، ولا في جنسه ذكرا أم أنثى، ولا في شكله وصورته، ولا فيمن يكون والديْه وإخوته صالحين أم سيئين، فقراء أم أغنياء، ولا في غير ذلك مما لا دخل له في حصوله طيلة حياته من خير أو شر. ونسأل الله الخير في كل ما قدر لنا والعافية مما لا خير فيه، وألا يحملنا ما لا طاقة لنا به.
2. معنى القضاء
بخلاف القدر المكتوب والذي لا مفر منه، ما وجدت بالبحث، مع الأسف الشديد، الجواب الواضح والشافي للغليل بخصوص تعريف القضاء. والخلاصة البسيطة والواضحة من كل تلك الأقوال التي مررت عليها هي أن ما يحصل للإنسان من خير أو مكروه كقضاء هذه المرة ومكتوب أيضا، هو ما له دخل فيه من قبل وقوعه.
ومَثل ذلك من القضاء في المحاكم بين البشر، حيث نجد مختلف مدونات القانون المدني ومدونة القانون الجنائي. فكلمة “مدوّنة” تعني أحكام فصول القانون “الـــمــكـــتــوبـــة” مسبقا، والتي تطبق مقتضياتها “قضاء” من بعد حصول الوقائع المفصلة فيها كتابة كذلك، فتستدعي الحكم بها وبتنفيذها عند حصول تلك الوقائع. فمكتوب فيها أنه من يفعل كذا وكذا يستحق كذا وكذا. وبطبيعة الحال من لا يفعل شيئا منها فمكتوب بقضاء من الله وخيرا منه أنه لا يتعرض بصفة طبيعية للأحكام “المكتوبة” في فصولها.
معنى ذلك أنه قبل القيام بالفعل المدان، يكون المقبل عليه في مفترق الطرق بين أن يفعل أو لا يفعل. فيكون مخيرا بين أحكام قضاءين. أولهما معروف ولو من دون كتابة. وهو الامتناع عن القيام بالفعل المدان، ومكتوب قضاءً وخيرا من الله وبطبيعة الأمور أنه لا يتعرض لأحكامه المدونة أي المكتوبة. وثانيهما مدون أي مـــكـــتـــوب. وهو اختيار القيام بالفعل المُدان، فمكتوب حينها قضاءً وعلى مسؤوليته، أنه يتعرض للأحكام المكتوبة والمترتبة عنها. وذلك على العموم هو مدلول قوله تعالى:﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ … الآية﴾ [ النساء: 79].
بعيدا عن القيام بالفعل لمدان، وحتى يتضح أكثر أمر المكتوب قضاءً، أسوق مثالين من الحياة اليومية للإنسان في أي مكان وفي أي زمان. أولهما مثل المستعمل للطريق راجلا كان أو سائقا، والذي يكون مسبقا مخيرا بالالتزام بقانون السير أم لا. فإن اختار الالتزام به فمكتوب ألا يصيبه مكروه قضاء وخيرا من الله باستعمال ما أنعم عليه من عقل. وإن أصابه مع ذلك مكروه فهو المكتوب قدرا من الله. ويحق له أن يقول ذاك هو “المكتوب” الذي لا مفر منه. ويصبر محتسبا فيؤجر بأن عسى الله أن يقدر له قدرا خيّرا يعوضه.
أما المثال الثاني فيتعلق بالمريض الذي وصف له الطبيب دواءً وحمية. فيكون حينها مخيرا بين الالتزام بمقتضيات الوصفة أم لا. إن اختار الالتزام بها فمكتوب أن يُشفى بمشيئة الله. وإلا فعدم الشفاء او الإصابة بمضاعفات المرض فهو مكتوب قدرا من الله لا مفر منه. فيصبر ويحتسب ويعود للتّطبيب متمنيا الفرج من الله. أما إذا اختار التهاون في الالتزام بمقتضيات وصفة الطبيب، فمكتوب قضاء أن يصاب بمكروه، ولا يلومن حينها إلا نفسه. اللهم إذا كتب له الله الشفاء قدرا مكتوبا كنعمة منه، فيحمده سبحانه عليه.
والخلاصة أن القدر خيره وشره هو المكتوب سلفا ويحدث حتما من دون دخل للإنسان في حدوثه. بينما القضاء خيره وشره فهو المكتوب أيضا، ولكنه لا يحصل إلا عندما يكون الإنسان في مفترق الطرق بين خيارين ويختار الفعل المتسبب فيه، والذي كان بإمكانه تجنبه من قبل الإقبال على ذلك الفعل. وهذا ما ينبغي في نظري التنبيه إليه في كل مناسبة مواتية للقضاء على شمّاعة وهم المكتوب الذي لا مفر منه الذي يعلق عليه المذنب مصابه بالأحرى كقضاء مكتوب بسبب اختياره للقيام بالفعل الذي تسبب له فيما يكره.