المنهج التجريبي الإسلامي في التجربة الصوفية :أية علاقة وتقاطع؟
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة ، المغرب
أولا:المنهج التجريبي والخصوصية الصوفية
من بين أهم خصائص المنهج التجريبي الإسلامي أنه منهج “إدراكي” أو “تأملي”- بحسب رأي الدكتور علي سامي النشار- فقد أدرك المفكرون المسلمون تمام الإدراك “أنه لابد من وضع منهج في البحث يخالف المنهج اليوناني حيث إن هذا المنهج الأخير إنما هو تعبير عن حضارة مخالفة ، وتصور حضاري مخالف .ويثبت هذه الحملة العنيفة التي قام بها علماء الإسلام على منطق اليونان . وتاريخ هذه الحملة العنيفة واضح وضوحا بالغا في كتابات المسلمين . فإذا أقدموا على وضع المنهج ، فإنما عن تأمل تام وشعور حقيقي بما يفعلون . فلم يكن المنهج الجديد إذن عبارات شاردة ولماحية عابرة ، وإنما هو بناء منهجي كامل “.
والتجربة في الفكر الإسلامي هي تجربة منقلة (متعاقبة) ومؤسسة على مبادئ أخلاقية تصديقية وتصورية أيضا. لكن التفاوت الكبير بين أصحابها سيحصل في مستوى المعايشة الوجدانية ، والممارسة المتواصلة . وتتجلى هذه التجربة بهذه المواصفات في الحقل الصوفي بصورة خاصة ، كما نجد أبا حامد الغزالي يقول عن خصوصيته :”فمن لم يرزق الذوق فيتيقنها بالتجربة والتسامع إن أكثر معهم الصحبة حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقينا. ومن جالسهم استفاد منهم هذا الإيمان . فهم القوم لا يشقى جليسهم . ومن لم يرزق صحبتهم ، فليعلم إمكان ذلك يقينا، بشواهد البرهان … والتحقيق بالبرهان علم ، وملابسة تلك الحال ذوق ، والقبول من التسامع ، والتجربة بحسن الظن إيمان …”.
وهذه الخصوصية التجريبية التي يتميز بها المنهج الصوفي، وخاصة في تأسيس معرفة النفس وسبر أغوارها سيجعل من الصعب تحديد المناهج في الفكر الإسلامي تحديدا ضيقا، كل منهج قد يعمل على حدة . وذلك لأن المعرفة ، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل الغيبية ذات البعد الإيماني العقدي، أو المسائل النفسية الدقيقة والشعورية ، لا يمكن حصرها في قياس دون آخر. إذ القياس لا يكون سوى على مستوى ما اكتسب من خلال المشاهدة أو الملاحظة الظاهرية العادية . أما فيما يتعلق بباطن النفس الإنسانية، وتفاعلاتها مع الغيب ومع عالم الشهادة ، فهذا قد يكون فوق مستوى الأدلة العقلية البسيطة ، وإن كانت هذه صادقة في أحكامها الجزئية .
ولقد أوضح الغزالي هذا عند وصف رحلته المشهورة من الشك إلى اليقين، وهي رحلة نفسية بالدرجة الأولى. بحيث قد انصب الشك لديه على المعطى الحسي المحض ، ثم بعد ذلك في العقل وأحكامه وقواه ، إلى أن أصبح هذا الشك عنده بمثابة مرض نفسي، لأنه أصاب بالدرجة الأولى أدوات المعرفة لديه كما يقول :”حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ،ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين . ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف . فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة”.
كما قد ذهب بهذا المعنى إلى عقد فصل خاص في كتابه ” إلجام العوام عن علم الكلام” عنونه ب ” التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الأدلة”. وهو بهذا يريد أن يفتح للعامة المجال في الاكتساب المعرفي اليقيني،من دون أن يكون مقيدا بالحدود المنطقية كأساسيات في التصور أو القياسات كلوازم في التصديقات . بحيث اعتبر أن التصديق الجازم يحصل على ستة مراتب :
الأولى: وهي أقصاها ما يحصل بالبرهان المستقصي، المستوفي شروطه، المحرر أصوله ومقدماته ، درجة درجة ، وكلمة كلمة ، حتى لا يبقى مجال احتمال وتمكن التباس ، وذلك هو الغاية القصوى.
الثاني: أن يحصل بالأدلة الوهمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لاشتهارها بين أكابر العلماء، وشناعة إنكارها، ونفرة النفوس عند إبداء المراء فيها.
الثالثة : أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية . أعني القدرة التي جرت العادة باستعمالها في المحاورات والمخاطبات الجارية في العادات ، وذلك يفيد في حق الأكثرين تصديقا ببادئ الرأي وسابق الفهم ، إن لم يكن الباطن مشحونا بالتعصب …
الرابعة : التصديق بمجرد السماع لمن حسن الاعتقاد فيه بسبب كثرة ثناء الخلق عليه .
الرتبة الخامسة : التصديق الذي يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائن أحوال لا تفيد القطع عند المحقق ، ولكن يلقي في قلب العوام اعتقادا جازما.
السادسة : أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه ، فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه “.
وأهم ما في هذه الأقسام مما يخص الموضوع الذي نحن نبحث فيه ، هو ذلك الاعتبار النفسي الذي يتأسس عليه التصديق . وفي هذا سيكون بصدد تأسيس ما يسمى :علم نفس الاقتناع أو ما إلى ذلك .
كما أن هذا الطرح يقرب من الجدل المنهجي الذي دار بين المتكلمين وخاصة الأشاعرة ، والذي كان فاصلا بين ما يسمى بطريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين . وخاصة فيما أقدم عليه أبو بكر الباقلاني من “وضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وان العرض لا يقام بالعرض ، وأنه لا يبقى في زمانين ، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم ، وجعل هذه القواعد تبعا للقواعد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، و “إن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول”…ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك . وربما أن كثيرا منها مقتبس من الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات . فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي…”.
ثانيا: مناهج المعرفة وتخطي الحصر المنطقي
هذا المنحى إلى عدم حصر مناهج المعرفة في صور منطقية محضة أو قواعد ومقدمات عقلية صناعية ومقيدة سنجده عند كثير من المفكرين المسلمين ، أو المتكلمين الأشاعرة غير الغزالي ، كابن تيمية مثلا حينما يقول : “وأما علوم بني آدم الذين لا يصنفون الكتب فهي مما لا يحصيه إلا الله . ولهم من البصائر والمكاشفات والتحقيق والمعارف ما ليس لأهل هذه الحدود المتكلفة ، فكيف يجوز أن تكون معرفة الأشياء متوقفة عليها ؟” ثم يمضي قائلا : “إن الله جعل لابن آدم من الحس الظاهر والباطن ما يحس به من الأشياء ويعرفها، فيعرف بسمعه وبصره ،وشمه وذوقه ، ولمسه الظاهر ما يعرف . ويعرف أيضا بما يشهده ويحسه بنفسه وقلبه ما هو أعظم من ذلك .هذه هي الطرق التي تعرف بها الأشياء. وأما الكلام فلا يتصور أن يعرف بمجرد مفردات الأشياء إلا بقياس تمثيل وتركيب ألفاظ وليس شيء من ذلك يفيد تصور الحقيقة .
فالمقصود أن الحقيقة إن تصورها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحد القولي، وإن لم يتصورها بذلك امتنع أن يتصور حقيقتها بالحد القولي. وهذا أمر محسوس يجده الإنسان من نفسه ، فإن من عرف المحسوسات المذوقة مثلا كالعسل لم يفده الحد تصورها. ومن لم يذق ذلك ،كمن أخبر عن السكر وهو لم يذقه ، لم يمكن أن يتصور حقيقته بالكلام والحد، بل يمثل له ويقرب إليه ويقال له طعمه يشبه كذا أو يشبه كذا وكذا. وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو الحد الذي يدعونه . وكذلك المحسوسات الباطنية مثل الغضب والفرح والحزن والغم والعلم ونحو ذلك . من وجدها فقد تصورها، ومن لم يجدها لم يمكن أن يتصورها بالحد، ولهذا لا يتصور الأكمه الألوان بالحد. فإذن، القائل بأن الحدود هي التي تفيد تصور الحقائق قائل للباطل المعلوم بالحس الباطن والظاهر”.
وضرب المثال الحسي للذوق الذي تقتنص بواسطته المعارف دون البحث عن الحد الأوسط ، كما هو معلوم به عند المناطقة ، سنجده بصيغة مطابقة له عند أبي حامد الغزالي، الذي طرح موضوع الذوق والبصيرة والكشف وما إلى ذلك كوسيلة منهجية في الاكتشاف المعرفي والبحث العلمي، ومباشرة الحقيقة على مستوى الشعور. وذلك حينما ذكر منهج الصوفية في المعرفة بقوله : “فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات . وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعان ، وبين أن يعرف حد السكر وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر وبين أن يكون سكران لا يعرف حد السكر وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء. والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه من السكر شيء، والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها، وهو فاقد الصحة . فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها، وبين أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا”.