فضيحة حماية معاداة الإنسانية ببعبع اللاسامية
المصطفى حميمو
مع ما نعيشه اليوم من روتين مذابح يومية أفظع وبكثير من مذبحة دير ياسين وغيرها سنة 1947، ومع عربدة المجرمين وفجاجة التأييد والدعم المادي والإعلامي والدبلوماسي الذي يتلقونه، لا يسعنا إلا التسليم بتعاقب أجيال الحكام بالغرب مع تباث العقيدة اليَشوعية بينهم بالرغم من تنامي وعي شعوبه بها ومعارضتها. فمن هو يشوع؟ وما هي العقيدة اليشوعية المعادية للإنسانية والمحمية ببعبع اللاسامية؟
باختصار شديد يشوع، وبزعم من العهد القديم، هو قائد عسكري من بني إسرائيل، قاد حروبا بأمر من ربه لاحتلال أراضي كنعانية وتوزيعها على قبائل شعبه. وعقيدته مستوحاة من نفس العهد القديم الذي يقول: “حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك. وإن لم تسالمك وعملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. أما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك. وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما”. (سفر التثنية 20: 10-16). وهي عقيدة إمبريالية واستعمارية اكتسبت قدسية دينية ولا تمت بطبيعة الحال بصلة بالدين الحنيف.
فتلك الشعوب البريئة من كل ظلم أو عدوان كانت في هذه العقيدة الدينية المزعومة مخيّرة بين أمرين أحلاهما مر، إما الاستسلام للاستعباد أو الإبادة. عقيدة زكاها وبررها التلمود المفسر للعهد القديم في القرون اللاحقة، بقوله: ” لم يُخلق العالم إلا من أجل سعادة بني إسرائيل. بنوا إسرائيل هم وحدهم أبناء الله، وهم وحدهم أحباء الله” (مسالك جريم 1). فرد عليه القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة المائدة بأنهم بشر مما خلق. وتلك كانت عقيدة يشوع بزعم من العهد القديم. فماذا عن سيرته كما جاءت بزعم نفس الكتاب؟
سيرة يشوع هذا، الذي شكك في حقيقته التاريخية وحقيقة قصصه بل نفاهما العالمان اليهوديان من علماء الآثار، إسرائيل فنكلشتاين ونيال سيليبرمان، في كتابهما The Bible Unearthed “الكشف عن الكتاب المقدس”. ويشير المؤلفان إلى أن الروايات المتعلقة بمعارك يشوع قد تكون نتيجة لتأثير الذاكرة الشعبية، التي تعكس الأحداث التي وقعت في فترات لاحقة، خلال حكم الملك يوشيا، الذي كان يسعى لتوسيع مملكته واستعادة الأراضي المفقودة. فماذا تقول تلك القصص؟
من بعد حصار مدينة أريحا اقتحمها يشوع وأمر جيشه بإبادة أهلها قائلا: “وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف” (سفر يشوع: 6:21). والسبب هو كون أهلها وثنيين. فأبادهم جيشه واغتصب أرضهم وغنم ممتلكاتهم ظلما وعدوانا. وذلك بدلا من دعوتهم للتوحيد من دون إكراه في الدين لو كان نبيّا حقيقة كما يدعي العهد القديم، على غرار سيرة موسى عليه السلام الذي آمن به من كان يكتم إيمانه من آل فرعون ثم السّحرة وفرعون نفسه من بعد فوات الأوان. وجميعهم ما كانوا من بني إسرائيل. وكما فعل يوسف عليه السلام من قبلُ مع صاحبيه في السجن ولم يكونا من بني إسرائيل. وكملكة اليمن التي أسلمت لرب العالمين مع سليمان عليه السلام ولم تكن من بني إسرائيل.
بينما تجد كتاب التلمود، كتفسير للعقيدة اليشوعية في العهد القديم قرونا من بعد، يقول أن: “التوراة ليست إلّا ميراثًا لشعب إسرائيل وحدهم. ومن يحاول من الأمم الأخرى دراستها يستحق الموت.” (سنهدرين 59أ). وحظر تعليمه للأمم الأخرى بقوله: “من يُعلِّم غير اليهود التوراة يخالف القانون ويستحق العقوبة.” (حجّيجاه 13أ). وأكد على ذلك بقوله: “الله أعطى بني إسرائيل التوراة كعهد خاص، وليس للأمم الأخرى أي نصيب فيها.” (أڤوداه زاراه 8ب)، ثم بقوله : “لا يجب أن تُكشف تعاليمنا وشرائعنا للأمم، لأنها خُصصت لنا فقط.” (بافا باترا 10ب). وكلها أقوال مزعومة ومردود عليها بقوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَـــتُـــبــَيّــِنُــنَّــهُ لِلــــــــــــــــــــــنَّـــــــــــــــــــــــاسِ وَلَا تَكْتُمُونَه. فَــــنَـــبَـــذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]. وكذبتها سيرة كل من أنبياء بني إسرائيل كما تقدم.
ثم نجد العهد القديم يزعم أن يشوع قد أتبع إبادة أهالي مدينة أريحا واحتلالها بإبادة أهالي مدينة عاي واحتلالها أيضا، ولنفس السبب الواهي، ومع العزة بالإثم دائما. إبادة خلدها العهد القديم أيضا بقوله “فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفا، جميع أهل عاي. لكن البهائم وغنيمة تلك المدينة نهبها إسرائيل لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر به يشوع. وأحرق يشوع عاي وجعلها تلا أبديا خرابا إلى هذا اليوم.” (سفر يشوع 8 : 25-28) . زد على ذلك سلسلة من الحملات ضد ممالك الجنوب في (سفر يشوع 10) وضد ممالك الشمال في نفس (سفر يشوع 11).
ومن يتتبع تاريخ سياسيات معظم حكام الغرب منذ قورن وحتى اليوم، يجدهم، ومع تعاقب أجيالهم، يشربون من نفس المعين اليشوعي الامبريالي الاستعماري والمعادي للإنسانية، والمحمي بمنظمات البنائين السرية. عقيدة يشوعية مُمنهجة طالت شرورها واكتوت بنارها مختلف شعوب العالم بأمريكا وإفريقيا وحتى أقاسي آسيا. شعوب تُذكّرها اليوم مآسي الفلسطينيين بماضيها الأليم تحت نيْر الاستعمار الغربي فتتعاطف معها. ومن أكثرها تعاطفا معهم شعب إيرلندا الشمالية.
عقيدة يشوعية إمبريالية طالت أحيانا حتى شعوب الغرب نفسه وبعنف منقطع النظير ومن دون رحمة. وحسبنا في ذلك فظائع الحرب العالمية الأولى والثانية. والغلبة والحقّ في تلك العقيدة كانت ولا تزال تنحاز إلى جانب لأقوى. الأقوى هو المُحق مهما عظم ظلمه. والضعيف هو المخطئ مهما كان محقا، وتجب معاقبته إن هو رفع الرأس ليدافع عن نفسه. الدفاع عن النفس يحتكره الأقوى لا غير.
وهذا هو ما تكشّفت عورته اليوم لكل شعوب العالم بما فيها شعوب الغرب نفسه. فما عادت تُشمت لا في مبادئ الديمقراطيات كي تصدقها، ولا في شعارات حقوق الإنسان المُتشدق بها. تكشّف ذلك الزيف اليوم أكثر من أي وقت مضى مع تفجر غضب الصهاينة لما افتضح وهن استخباراتهم وجيشهم، فافتضحت معه شراسة العقيدة اليشوعية المعادية للإنسانية بإبادة الشعب الفلسطيني مرة أخرى وكل يوم بقدر ما تشتد شراسة المقاومة من حوله.
فوِفق نفس العقيد اليشوعية اللاإنسانية يبيد الصهاينة اليوم الشعب الفلسطيني بحجة الدفاع عن النفس ضد المقاومة المتهمة بمعاداة السامية. بُـــبـــعـــبـــع معاداة السامية للتغطية على العقيدة اليشوعية المعادية للإنسانية. البعبع الذي يتآكل مفعوله يوما بعد يوم حتى صار مثار السخرية عند كل شعوب العالم. مع العلم أنه ليس معاداة للسامية الذي اعتمدها الصهاينة عمدا كي يُضفو عليها زورا بصمة العنصرية العرقية المقيتة، وإلا فالعرب شعب من الشعوب السامية. بل هي في حقيقتها معاداة للعقيدة اليشوعية المعادية للإنسانية في كتبهم والمقدسة في عقولهم وتعمي أبصارهم فيرون من دون غيرهم كل القيم الإنسانية رأسا على عقب. يرون بلا خجل، الحق باطلا والباطل حقا، والظلم عدلا والعدل ظلما، والخير شرا والشر خيرا، والمنكر معروفا والمعروف منكرا، وكل ذلك ومن دون أن يرف لهم جفن. بل ويتعجبون من الشعوب التي تحتج عليهم فلا يفهمونها ويتهمونها بصدق أنها معادية لهم. ذلك من شدة السكرة العنصرية التي تعمي القلوب التي في الصدور.
وحسبنا الله ونعم الوكيل. ولا نيأس من رحمة الله. قلوبنا تتفطر من الألم لما يحصل أمام أعيننا صباح مساء. والذي يواسينا هو التاريخ الذي يشهد بإذن الله وبحول على أن الظلم مهما طال وتجبّر وطغى فلا بد من أن يزول. يزول حتما ما دامت من ورائه مقاومة لا تمل ولا تكل ومهما طال الزمن ومهما تكبدت من التضحيات، لأن الحرية والكرامة الإنسانية غالية ولا تقدر بثمن. وحسبنا في ذلك قول الشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي رحمه الله:
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ