مطربة القسم
محمد شحلال
تزامن التحاقي وزملائي ممن حالفهم الحظ بتجاوز عقبة قسم،،لبروفي،،بثانوية عبدالمومن أوائل سبعينات القرن الماضي، مع فترة الإضراب الطويل والممل ،الذي أحدث خللا في المنظومة التربوية وفرض مطالب تاريخية أبرزها تعميم المنح.
كنا قد حصلنا على منح للإقامة في داخلية المؤسسة الذائعة الصيت، حيث تعايش كشكول من الطلاب القادمين من كل مدن الشرق وقراه،مما كان له فضل في تبادل التجارب والأسرار.
تحول الإضراب الممل إلى عطلة مجانية، سرعان ما أخرج العديد من التلاميذ عن هدفهم الأساسي والأسمى،ليخوضوا تجربة العشق التي غذتها دراسة الأدب،والتي مهد سبلها شعراء الغزل بنوعيه عبر العصور ، وفي مقدمتهم ،،ذو القروح،،مرورا بعمر بن ربيعة وصولا إلى رفيق،،بلقيس،،القتيلة في زمن،،التيه العربي،،الذي يمضي نحو مزيد من المرارة.
ليس من الغريب أن يلقب البعض ثانوية عبد المومن بثانوية ،،العشاق،،فقد واكبنا أجواء تجارب عديدة انتهى جلها بزواج ناجح حينما كانت القلوب لا تتسع لأكثر من مكان،فتحققت بذلك نظرية المرحوم والمشاغب ،،شكري،،حين قال ذات لقاء: لن أتزوج حتى أجد امرأة تنسيني في كل النساء وأنسيها في كل الرجال !
ما أغوى فلسفتك يا صاحب ،،الأخطاء،،التي لم يصلحها إلا إبداعك المتميز !
كان حظ الطلاب الداخيين من ،،سوق العشق،،في أدنى حدوده لأسباب عديدة،لعل أبرزها حياة الداخلية المحكومة بضوابط صارمة،ثم حرص جل نزلائها على مغادرة هذه الأجواء غير البعيدة عن الثكنات العسكرية،بل إن جل الطلاب الداخليين كانوا ينحدرون من أسر متواضعة الحال،وكانوا يبحثون عن مصدر رزق يرفع من شأن ذويهم،فكانت المنافسة على أشدها في مجال التحصيل على حساب المشاعر المؤجلة قسرا.
في السنتين الثانية والثالثة من الدراسة،عرفت أجواء الفصل مفاجأة سرعان ما حولت بعض حصص الدراسة إلى متعة حقيقية،ذلك أن تلميذة موهوبة كانت تتحفنا بصوتها الرخيم وهي تردد قصائد،،أم كلثوم،،إلى درجة أن أداءها كان يشيع في القسم صمتا ملائكيا وانفعالا أذكى مزيدا من النيران في قلوب العشاق الصامتين.
لقد كانت الطالبة المطربة تهيم بالقلوب حينما تغني قصيدة،،حكم علينا الهوى،،وهي تدرك فعلها في النفوس التي تعشق ولا تقوى على التعبير !
كانت مطربة القسم فتاة مقبلة على الحياة،تبادل الجميع مشاعر إنسانية خالية من التصنع،فصارت نجمة القسم التي تقطع أجواء الرتابة بين الفينة والأخرى،لتزرع في النفوس جرعة من العزم والإقبال على الحياة.
كان أستاذا الأدب والفلسفة يومئذ من طينة أخرى،إذ كانا متشبعين بالفكر التحرري الذي فرضه يسار السبعينات،لذلك كثيرا ما كانا يطالبان الفتاة الموهوبة بإضفاء بعض الملح من صوتها على الدروس المعقدة ليتم تجاوزها بسلاسة.
كانت السنة النهائية( البكالوريا)مميزة بتنافسية قوية من أجل حلم الدراسة الجامعية،وظلت الطالبة المطربة وفية للعهد،حيث جادت على العشاق بالمزيد من فيضها دون التفريط في التحصيل،لكن المسكينة لم يحالفها الحظ في تجاوز عقبة البكالوريا، ولست أدري ما صنعت الأقدار بها، وإن كنت أسأل الله من أعماق القلب أن تكون في أحسن حال،فتحية لقلبها الكبير ولكل زملاء المرحلة ممن يتذكرون زمنا جميلا مضى بسرعة البرق.