كيف صنع الاستعمار الفرنسي كيانا اسمه «الجزائر» ؟
عبده حقي
إن التأكيد على أن دولة “«الجزائر»” لم تكن موجودة قبل عام 1830″ هو تأكيد نسبيا واضح تاريخياً ومشحون سياسياً بالكثير من الأسئلة والاستفهامات الحارقة. ولتفكيك هذه الحقيقة ، يتعين علينا أن نتعمق في تاريخ المنطقة برمتها، وثقافاتها المتنوعة، والديناميات الجيوسياسية التي أدت إلى ظهور «الجزائر» كدولة قومية حديثة. وفي حين أن المنطقة المعروفة الآن باسم «الجزائر» كانت موجودة بلا شك وسكنتها شعوب مختلفة قبل فترة طويلة من عام 1830، فإن المفهوم الحديث للجزائر كدولة قومية مركزية لم يظهر إلا أثناء وبعد فترة الاستعمار الفرنسي.
قبل عام 1830، لم تكن المنطقة التي نطلق عليها اليوم «الجزائر» كياناً سياسياً موحداً، بل كانت عبارة عن فسيفساء من المجتمعات والقبائل شبه المستقلة. وشملت هذه القبائل الأمازيغية، والسكان المستعربين، والتقسيمات الإدارية العثمانية، وكل منها كانت له بنياته الاجتماعية والسياسية المتميزة.
لقد سكن الأمازيغ الأصليين شمال أفريقيا لآلاف السنين. وقبل فترة طويلة من الفتح الإسلامي للمنطقة في القرن السابع، ازدهرت ممالك الأمازيغ مثل نوميديا وموريتانيا. ولعبت نوميديا على وجه الخصوص دورًا مهمًا خلال الحروب البونيقية بين روما وقرطاج، حيث تحالفت في بعض الأحيان مع روما وفي أوقات أخرى مع قرطاج. وبعد انتصار روما على قرطاج، أصبحت أجزاء كبيرة من شمال أفريقيا، بما في ذلك منطقة «الجزائر» الحالية، جزءًا من الإمبراطورية الرومانية.
في القرن السابع للميلاد، نشر الفتح العربي الدين الإسلامي الحنيف والثقافة العربية في المنطقة، فأعاد تشكيل هويتها بشكل عميق حيث قاوم الأمازيغ الإسلام في البداية، لكنهم تبنوه في النهاية، واندمج العديد منهم في العالم الإسلامي الشاسع . وبحلول القرن الثامن، أصبحت المنطقة جزءًا من الخلافة الأموية ثم الخلافة العباسية، رغم أن السلطة المركزية من دمشق أو بغداد كانت غالبًا منهارة وضعيفة.
ومع مرور الوقت، سيطرت إمبراطوريات مغربية ، مثل المرابطين والموحدين والمرينيين على منطقة شمال إفريقيا ، ففرضت هيمنتها على مساحات شاسعة من شمال أفريقيا، بما في ذلك أجزاء من «الجزائر» الحالية. وكانت هذه الإمبراطوريات المغربية التي كانت عواصمها في فاس ومراكش والرباط تتمتع بنفوذ ديني وسياسي واسع ، لكن قوتها لم تقتصر قط على الحدود الحديثة للجزائر، بل امتدت إلى تونس وليبيا شرقا وموريطانيا والسينغال ومالي جنوبا وحتى إسبانيا وبلاد الغال شمالا.
وبحلول أوائل القرن السادس عشر، توسعت الإمبراطورية العثمانية ورسخت موطئ قدم لها في المنطقة، حيث أصبحت مدينة «الجزائر» قاعدة عثمانية رئيسية في البحر الأبيض المتوسط. وقد حكم العثمانيون «الجزائر» من خلال ممثلين محليين يُعرفون باسم البايات والدايات، واتخذوا مقرا لهم في مدينة «الجزائر». وقد تميزت هذه الفترة بالاستقلال النسبي للقبائل والمجتمعات المحلية، مع تركيز النفوذ العثماني في المدن والبلدات الساحلية المتوسطية .
كما اشتهرت المنطقة بقراصنتها الأمازيغ الذين أغاروا على السفن الأوروبية والمستوطنات الساحلية، الأمر الذي دفع الأوروبيين إلى التدخلات البحرية المتكررة. وفي حين شكل العثمانيون مظهراً من مظاهر الوحدة، كانت المنطقة بعيدة كل البعد عن الدولة القومية المركزية في تركيا . فقد استمرت التحالفات القبلية، وأمراء الحرب المحليون، والتنافسات الإقليمية، فشكلت المشهد الاجتماعي والسياسي.
لقد شكل عام 1830 نقطة تحول في تاريخ «الجزائر»، حيث شهد بداية الاستعمار الفرنسي. فقد تصاعد الغزو الكولونيالي، الذي برر في البداية اجتياحه بأنه رد فعل على الإهانات المزعومة التي وجهها إليه داي «الجزائر»، إلى احتلال واسع النطاق بسبب ما بات يعرف ب “ضربة المروحة” . وعلى مدى العقود القليلة التالية، فككت فرنسا البنية الإدارية العثمانية وفرضت قانونها الاستعماري الخاص، مما أدى إلى تغيير جذري في النسيج السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة.
لقد أدى الاستعمار الفرنسي إلى خلق دولة مركزية، وإن كانت مصممة لخدمة المصالح الفرنسية وليس مصالح السكان الأصليين حيث قسم الفرنسيون «الجزائر» إلى أقسام إدارية، ودمجوا الإقليم في الحكم الفرنسي . وقد تضمنت هذه العملية إعادة رسم الحدود، وتهجير السكان الأمازيغ الأصليين ، ومنح المستوطنين الفرنسيين، المعروفين باسم الأقدام السوداء، امتيازات خاصة وهامة للغاية.
ورغم أن السلطات الاستعمارية الفرنسية فرضت اسم «الجزائر» فإنها فعلت ذلك بطريقة تجاهلت الهويات الثقافية والقبلية القائمة في المنطقة. وكانت حدود الجزائر الحديثة يتم ترسيمها إلى حد كبير وفقاً للاحتياجات الإدارية الفرنسية، وليس وفقاً للاستمرارية التاريخية أو الثقافية .
كما ساهم الاستعمار الفرنسي في تحفيز الوعي الوطني الجزائري. وأصبح زعماء المقاومة مثل الأمير عبد القادر، الذي خاض حرباً مطولة ضد الفرنسيين في منتصف القرن التاسع عشر، رمزاً للنضال الموحد ضد الهيمنة الأجنبية. ورغم أن «الجزائر» لم تكن دولة قومية قبل عام 1830، فإن عملية الاستعمار ــ والقمع الوحشي الذي رافقها ــ لعبت دوراً رئيسياً في تعزيز الهوية الجماعية بين شعوبها المتنوعة.
وعلى مدى القرن العشرين، استمر النضال الجزائري من أجل الاستقلال، وبلغ ذروته في حرب الاستقلال بين (1954-1962). وانتهى هذا الصراع الدموي الطويل بحصول ما أصبح يسمى بدولة «الجزائر» على السيادة في عام 1962، لتصبح في النهاية دولة عربية مغاربية وقومية جديدة معترف بها.
إن التأكيد على أن “«الجزائر» لم تكن موجودة قبل عام 1830 صحيح بمعنى أنه لم تكن هناك دولة قومية موحدة مركزية تحمل هذا الاسم. ومع ذلك، فإن هذا لا ينفي التاريخ الغني للمنطقة أو وجود أنظمة ثقافية وسياسية واجتماعية متميزة قبل الاستعمار الفرنسي. لقد كانت المنطقة المعروفة الآن ب »الجزائر» موطنًا لحضارات وإمبراطوريات وشعوب لآلاف السنين، ولعل أشهرها إمبراطوريات المملكة المغربية كالمرابطين والموحدين والمرينيين حيث ساهم كل منها في نسيج الجزائر التاريخي.
ومما لا شك فيه أن الاستعمار الفرنسي قد لعب دوراً محورياً في صناعة دولة «الجزائر» الحديثة، سواء من خلال فرض الحدود على المغرب الكبير واقتطاع مساحات شاسعة من الصحراء الشرقية من المملكة المغربية وضمها للجزائر أو من خلال تعزيز الهوية الوطنية بشكل غير مقصود.