“نظرية المعرفة وإشكالية خطأ العقل والحس بين ابن حزم وابن عربي”
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة،المغرب
أولا: الخطأ في الحكم وتأثير العامل النفسي
إن الاختلافات في الأحكام وخاصة منها العقلية أو الحسية ستكون لعدة عوامل من بينها:عدم تفطن الشخص إلى طبيعة المقدمة الأولى من حيث صدقها وبداهتها، ثم التباعد بين المقدمة الأولى بواسطة عدة مقدمات قد تعود بالنتيجة التباسا إلى غير المقدمة الأولى. فيحصل الخطأ بذلك على اعتبار أن النتيجة غير متطابقة مع المقدمة الأولى، وإنما قد استندت على المقدمة الثانية والثالثة ، وهذا غير مطلوب في النتيجة المتوخاة.
فهذا ونحوه مما يمكن أن يحصل عند البرهنة بسبب النسيان أو طريان الأعراض المرضية كما ذكر ابن تيمية في بعض كتبه ، وقد مثل له ابن حزم الأندلسي أيضا بمثال الصفراء التي قد تحيل الحلو مرا، مما يجعل الحكم معاكسا للواقع أو مناقضا له . لكنه سيحصر المعرفة في دائرة العقل والحس ، مما يعني إقصاء بعد آخر للمعرفة قد يتفق عليه الصوفية والمتكلمون والفقهاء من الحنابلة وغيرهم كما سنعرض له .
فالمعرفة الحسية هي البدايات الأولية للمعرفة النفسية ، وهي ضرورات في نفسها. لكن الحكم العقلي يبقى أرقى من الحس ، رغم اشتراكه مع الحس في الضروريات ، لأن بديهياته أسمى من بديهيات الحس ، وهذا ما يميز الإنسان عن الحيوان ، إذ الحس قد يشترك فيه حتى النبات والحيوان إدراكا، وهو يمثل الإدراك الأولي للإنسان قبل التحصل على الوعي النفسي وقوته .
فيقول بهذا الصدد : ” فإذا قويت النفس على قول من يقول إنها مزاج، أو إنها حدثت حينئذ، أخذت يعاودها ذكرها وتمييزها في قول من يقول إنها كانت ذاكرة قبل ذلك ، وأنها كالمفيق من مرض . فأول ما يحدث لها من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان فهم ما أدركت بحواسها…” فهذه إدراكات الحواس لمحسوساتها، والإدراك السادس علمها بالبديهيات … فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل . وها هنا أشياء غير ما ذكرنا إذا فتشت وجدت ، وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره . وليس يدري أحد كيف وقع العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه. ولا يشك ذو تمييز صحيح في أن هذه الأشياء صحيحة لا افتراء فيها. وإنما يشك فيها بعد صحة علمه بها من دنت عقله آفة ، وفسد تمييزه ، أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضا آفة دخلت على تمييزه ، كالآفة الداخلة على من به هيجان الصفراء فيجد العسل مرا، ومن في عينه ابتداء نزول الماء، فيرى خيالات لا حقيقة لها. ولسائر الآفات الداخلة على الحواس “.
ثم يبين واقع الحس وصدقه المعرفي، وهو في هذا يلتقي وابن عربي على نفس الفكرة . كما أنه يرجع الخطأ إلى الحكم النفسي والتوهم لا غير. “وليس غلط الحواس في بعض الأوقات من باب التشبيه عليها في شيء، لأن أحدنا قد يرى شخصا على بعد لا يشك فيه إلا أنه إنسان أو أنه فلان قطع بظنه ، ولو أنه لم يعمل ظنه ولا قطع به لكان باقيا على ما أدرك من الحقيقة . وهكذا في كل ما حكم عليه المرء بظنه . وأما ذو الآفة كمن فيه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها، فهو أيضا كما ذكرنا. وإنما الماء الذي يطل من حدقته يوهم أنه رأى شيئا وقطع بذلك . فإذا ثبت في كل ذلك لاح له الحق من الظن. وكذلك من فسد مكان التخيل في دماغه فإن نفسه تظن ما يتوهمه ، فتقطع به . ولو قوي تميزها لفرقت بين الحق والباطل “.
فالغلط ليس في الحس ولا في العقل كما يذهب إليه ابن حزم ، وإنما يكمن في النفس المتسرعة بإصدار الأحكام والمغلبة على الحقيقة تشويش الأوهام ، ومن ثم يقع الغلط . ولتفادي هذا ،كما رأينا، يكون من الضرورة تصفية الذهن والنفس من النوازع المشوشة على الرؤية الصحيحة . وهذا التشويش سببه آفة تصيب العقل و الحواس أيضا. لكن، مع ذلك فقد يبقى العقل هو الذي يقرر الحكم بحسب ما اطمأنت إليه نفسه .
فالحواس هي التي تمد العقل بالمعلومات الصحيحة ، وعلى رأسها العين التي قد” تنوب عن الرسل ويدرك بها المراد، والحواس الأربع أبواب إلى القلب ومنافذ نحو النفس . والعين أبلغها وأصحها دلالة وأوعاها عملا، وهي رائد النفس الصادق ودليلها الهادي، ومرآتها المجلوة التي بها تقف على الحقائق وتميز الصفات وتفهم المحسوسات”.
فالعقل هو الحكم الصحيح الذي به يقي الإنسان من الوقوع في المهالك وأس القوى النفسية والمعول عليه في التمييز ” فإن الله عز وجل ركب في النفس الإنسانية قوى مختلفة … منها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل ، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم ، وعلى اعتقاد ذلك علما، وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلا. وبهذه القوة التي هي العقل ، تتأيد النفس المولدة لطاعته على كراهية الحود عن الحق،وعلى رفض ما قاد إليه الجهل و الشهوة ، والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية . فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك “.
وهذا الاعتبار الذي أولاه للعقل ، قد يغلط الكثير حينما يرون فيه تلك الرؤية المادية الجافة لمفهومه وقدرته الذاتية على الكسب المعرفي، لمجرد أنه عقل يمكنه الإحاطة ذاتيا بكل ما يطرح عليه من معلوم . لكن ابن حزم له اعتقاد غير هذا، إذ أنه يعتبر العقل موهبة من الله تعالى ومنحة منه ، وهو يتأيد بما قدره الله له في استنباط الأحكام وترتيب الأفكار، واستخلاص العبر.
ثانيا: التسديد الإلهي في ضبط الأحكام الصحيحة
ولهذا فالعلوم المترتبة عن النظر، سواء الحسي أو الفكري، والحفظ والتذكر هي ليست في قدرة الإنسان لأن يحافظ عليها كما يريد. وإنما تبقى دائما إرادة الله في تسديد أدواته المعرفية فوق إرادته . ولهذا فيجب أن يتصف أخلاقيا ونفسيا بصفة التواضع في مجال المعرفة ” وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه ، وأنه موهبة من الله مجردة ، وهبك إياها ربك تعالى ، فلا تقابلها بما يسخطه . فلعله ينسيك ذلك بعلة فيمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وما حفظت …وأنا أصابتني علة فأفقت منها، وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له ، فما عاودته إلا بعد أعوام”.
وبالعبارة الأخيرة هاته يكون ابن حزم ذا نزعة تجريبية في تأسيسه المعرفي، وخاصة معرفة النفس، لأنه يبني نظريته فيها على مستوى التجربة الذاتية ، وكذلك على مستوى الملاحظة الخارجية، ومن خلال شواهد واقعية وقعت لغيره ،قد أسقطتها من النص للاختصار.
فالعقل ستكون مكتسباته الحسية والنظرية غير ذات استقرار ذاتي، وإذ أنه كذلك فسيكون معرضا للزيادة والنقصان . وهذه الأعراض الطارئة عليه وأحكامه هي نفسية بالدرجة الأولى. ولهذا فيرى أنه كلما نقص العقل ” ´توهم صاحبه أنه أوفر الناس عقلا وأكمل تمييزا، ولا يعرض هذا في سائر الفضائل . فإن العاري منها جملة يرى أنه عار منها ! وإنما يدخل الغلط على من له أدنى حظ منها وإن قل، فإنه يتوهم حينئذ ،إن كان ضعيف التمييز، أنه عالي الدرجة فيه”.
ومادام الإنسان سليم العقل غير مختل التوازن ، فهذه المقدمات – الأوائل العقلية – كما يقول: “هي الصحيحة التي لا شك فيها، ولا سبيل لأن يطلب عليها دليلا إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء، ومن الطفل أهدى منه . وهذا الأمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني أدم وصغارهم في أقطار الأرض ، إلا من غالط حسه وكابر عقله فيلحق بالمجانين . لأن الاستدلال على شيء لا يكون إلا في زمان ، ولابد ضرورة يعلم ذلك بأول العقل ،لأنه قد علم بضرورة العقل أنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في وقت . وليس بينه وبين أوقات تمييز النفس في هذا العالم وبين إدراكه لكل ما ذكرنا مهلة البتة ، لا دقيقة ولا جليلة ، ولا سبيل على ذلك . فصح أنها ضرورات أوقعها الله في النفس . ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات ، ولا يصح شيء إلا بالرد إليها. فما شهدت له مقدمة من المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن . وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط “.”إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب أو بعد. فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس ، وأمكن للفهم . وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال ، حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفهم ، القوي الفهم والتمييز”.
فابن حزم قد يلتقي أيضا مع ابن عربي في عدم اعتبار الغلط في البديهيات الحسية والعقلية ابتداء. كما أنه ذهب إلى اعتبار المغالطة لا الغلط . إذ المغالطة هنا هي تصرف ذاتي في تفسير معطيات الحس و العقل، وأنها ناتجة عن وجود الآفة الطارئة على الحس أو العقل ، وليس أن الحس هو الذي يخطئ. ولكن الحس بما هو حس ، قد لا يدرك معنى الخطأ أو الصواب ، وإنما يعطي ما هو عليه حاله وحال مثيره .
فتحصيل المعلومات هو إدراك ذاتي صادق ابتداء. وأن الغلط ،كما سبق وبينا، قد يقع عند إصدار الحكم . كما أن التصور الصحيح للأشياء لا يكون إلا عن طريق التحصل على المناسبة بين أداة العلم والمعلوم ، بحسب الحال .
فالإنسان كما يقول ابن عربي:” إنما يدرك المعلومات كلها بإحدى القوى الخمس . القوة الحسية، وهي على خمس : الشم والطعم واللمس والسمع والبصر. فالبصر يدرك الألوان والمتلونات والأشخاص على حد معلوم من القرب والبعد. فالذي يدرك منه على ميل غير الذي يدرك منه على ميلين ، والذي يدرك منه على عشرين عاما غير الذي يدرك منه على ميل . والذي يدرك منه ويده في يده يقابله غير الذي يدرك منه على عشرين باعا. فالذي يدرك منه على ميلين شخص لا يدري هل هو إنسان أو شجرة . وعلى ميل يعرف أنه إنسان . وعلى عشرين باعا أنه أبيض أو أسود، وعلى المقابلة أزرق أو أكحل . وهكذا سائر الحواس ، في مدركاتها من القرب والبعد…وأما القوة الخيالية فإنها لا تضبط إلا ما أعطاها الحس ، إما على صورة ما أعطاها، وإما على صورة ما أعطاه الفكر من جملة بعض المحسوسات على بعض ، وإلى هنا انتهت طريقة أهل الفكر في معرفة الحق …فلم تبح هذه القوة كيفما كان إدراكها عن الحس البتة. وأما القوة المفكرة فلا يفكر إنسان أبدا إلا في أشياء من جهة الحواس ، وأوائل العقل ، ومن الفكر في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر آخر بينه وبين هذه الأشياء التي يفكر فيها…وأما القوة العقلية …فإن العقل لا يقبل إلا ما علمه بديهة ، أو ما أعطاه الفكر. وإنما حده أن يعقل ويضبط ما حصل عنده ، فقد يهبه الحق المعرفة به فيعقلها لأنه عقل لا من طريق الفكر، هذا ما لا نمنعه . فإن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده ، لا يستقل العقل بإدراكها. ولكن يقبلها فلا يقوم عليه دليل ولا برهان لأنها وراء طور مدارك العقل “.