مباراة رادس حرب صغيرة
آراء ومواقف 5
عبدالله فراجي
مباراة رادس حرب صغيرة
هل يمكن أن نتصور وجود حرب صغيرة وأخرى كبيرة؟
لا شك أنه في سياق التعريف بالنقيض كما يقول المناطقة، يمكن اعتبار بعض الحروب ليست حروبا بالمعنى الدقيق للكلمة، أي حروبا كبيرة؛ لكونها لا تقوم على التخطيط العسكري المعروف تقليديا، ولا تستعمل الجنود المدججين بالقنابل والرصاص، ولا يبحث محركوها وقادتها عن أفضل الطرق القيادية للظفر النهائي معركة بعد معركة، ولكنها مجازا حرب بالنيابة، أو لنقل إنها حرب صغيرة بأساليب معروفة، ومختلفة في ذات الوقت، وقواعد وضعية متفق عليها سلفا.
شيآن يضبطانها تواضعا واتفاقا، بل وتجربة وتاريخا، هما أولا، الجودة والإتقان في الفعل المحرك لآليات المعركة، وثانيا، حسن استعمال القوة الضاربة لهزم الخصم أو المنافس في الجهة المقابلة، من حيث أنه لم يعد عدوا لدودا، يصارعك وتصارعه من أجل السلب المطلق، والقضاء الشامل والنهائي، والانتصار لمبدأ البقاء للقوي الأصلح. لكنك في النهاية ستحييه، وسيحييك، طبقا لما اصطلح عليه – بنوع من الطوباوية- كمبدأ عام في دوائر هذه المعارك الصغيرة، بالروح الرياضية.
والروح الرياضية دعوة من المنتصر، أو القوي، أو المحظوظ، أو القادر بأساليب خاصة وملتوية، للمنهزم، أو الضعيف، أو الفاقد لما نسميه بالحظ (والحظ ليس سوى تلازم ظروف إخفاق معينة، في زمن ومكان معينين، تبعا لأسباب، وحيثيات ذات بعد نفسي، أو انفعالي، أو مادي خارجي… إلخ)، أو الخاضع لأساليب التدليس والغش؛ إلى أن يقبل بالهزيمة.
هذا في الحروب الصغيرة؛ وفي الحروب الكبيرة فقد حدث هذا على سبيل المثال مع اليابان في الحرب العالمية الثانية، عندما تمت هزيمتها بجريمة القنبلة النووية على هيروشيما وناكازاكي، ومع الألمان في الحرب العالمية الأولى، وبعدها في الحرب العالمية الثانية. تختلف الأساليب، وتتعدد الطرق، وتظهر في النهاية فكرة الانتصار كمبدأ يعلو فوق كل المبادئ الأخرى، وتتحدد منظومة القيم والقواعد الناظمة، بل وحتى القوانين المسيرة لما بعد الحرب (جمعية الأمم، ثم هيأة الأمم المتحدة)، طبقا للغة المنتصر، وقدرته على ضبط وتحديد الإملاءات والتوجيهات، ليجعلها قيما ومبادئ جديدة للهيمنة أولا، وللتوافق، وللسلم في نهاية المطاف.
بعد هذا، أتصور أنه لو انتصرت النازية، لكان العالم خاضعا لقواعد أخرى، ولكان الغرب خاضعا لهذه القواعد كلية وتفصيلا، تحت مظلة الحلفاء.
الحرب الصغيرة، حرب حقيقية، ولكنها بالنيابة عن محترفي الحرب وقادتها بالمعنى الكلاسيكي؛ فلا نظن أن مباراة في كرة القدم هي مجرد لعبة، ستنتهي بمنهزم ومنتصر، أو بتعادل بين طرفيها، وستسود الروح الرياضية بين الطرفين.
جمعيات المشجعين، وصحافيو المكتوب والصورة والصوت، ودردشات المقاهي، والشوارع، والفضاءات العامة، بمثابة طبول تقرع للحرب القادمة، ولعلها تتأجج أكثر، حينما يقودها أناس بسطاء، بوعي معرفي وفكري متخلف؛ أو حينما يراد لأسباب سياسية معينة خلق جو من الصراع “الكروي”، الذي يخفي صراعا سياسيا حقيقيا بين بلدين. والمثال الأوضح في هذا، ما حدث بعد حرب المالوين (أو الفوكلاند) بين إنجلترا والأرجنتين في دورة نهائي كأس العالم لسنة 1986، حينها انتصرت الأرجنتين، وصار مارادونا بطلا قوميا في الأرجنتين، ومخادعا ونصابا عند الإنجليز. وعندما تحدث مارادونا عن ذلك في سيرته الذاتية ” أنا دييغو”، فقد اعتبر هدفه الشهير باليد في تلك النهائيات، انتقاما من الأنجليز في حرب المالوين، بل “سرقة من محافظهم” (هكذا… !؟)، وقال أيضا، إنه أفضل هدف في حياتي، وكأننا بذلك الهدف هزمنا بلدا بكامله (وليس فريقا)، لأنهم قتلوا أطفالنا في الفوكلاند مثل عصافير صغيرة.
والمثال الثاني، والحي بيننا، هو ما عرفناه من صراع بين الأخوة الأعداء في رادس، بشتى الأساليب النظيفة وغير النظيفة.
إنها الحرب الصغيرة التي تقوم مقام الحرب الكبيرة.
كيف إذن ننكر هذا الصراع الخفي، وهذا البحث عن الفوز وعن التفوق. أليس في الأمر تخطيط، وقادة، ومبالغ مالية، وتحضير، وتدريب، وتربص، واستعداد لليوم الحاسم؟ ثم، أليس فاعلو ومحركو هذه المعركة الصغيرة من خيرة الفاعلين في الفرق الوطنية، وضمن المنتمين للوطن داخليا، وخارجيا (الفرق قلاع لكرة القدم؛ وقد يُعتبر فريق معين قلعة للأحمر، ويعتبر الآخر عالميا، ويعتبر الثالث دولة…وقس على ذلك)، لأجل الدفاع عن ألوان معينة (قد تكون هي ألوان العلم الوطني في الفرق الوطنية، بل إن الفرق نفسها لتلبس ألوان علمها الخاص)؟
أليس في ما ذكرناه من مصطلحات خاصة بكرة القدم، ما يحيل على الحرب؟ أوليس كل ما تحدثنا عنه يحمل دلالات الصراع المتأجج حد الاقتتال؟ فكيف نتحدث عن أفق للعلاقات الطيبة، والتفاهم، والأخوة، والروح الرياضية؟
إنها لغة رياضية ترتبط بالسياسة من خلال تحديد مجال الدلالة، والفهم للمصطلحات المستعملة في الخطاب، ومن خلالها نعلم أيضا أن تلك الدلالات، وتلك المساحة المحددة للمعنى تكون اتفاقية ومقصودة، حسب ما تمليه المصلحة القومية، وما تحدده السياسة العامة. لغة كرة القدم لغة تقرن الرياضة بالسياسة، وترفع لواء الصراع، حتى لا نقول الحرب، من خلال نوع الإلهاء المنظم عن الوضع الحالي والمستقبلي للبلاد، ومن أجل تأجيج حرب صغيرة خارجية، تخفي كل تلك المعارك التي لها علاقة بالوضع الداخلي المتأزم…
هذا الحالة من اقتران الحرب الصغيرة بالإلهاء وصرف الرؤى والتوجهات، عشناها بعد مباراة رادس؛ وجعلتنا نعتبر كرة القدم حربا حقيقية، ولكننا أسميناها حربا صغيرة، لاتفاق الأهداف والرؤى والأغراض المقصودة مع الحرب الكبيرة، بالرغم من أنها تعتبر صغيرة ومحدودة، لاختلاف الوسائل والشروط، والقوانين والأنظمة التي تضبطها عن الحرب الحقيقية بمعناها الكلاسيكي.