سِي عُمــر…مُــرّاكُـشِيُّ تــاوريرت !!
محمد شكير
اذا كانت تاوريرت الشرقِ تُـذكر في مَـحْـكِـيِّـها الشعبي ببلد جبـلِ الاربع والاربعين وليا (صالحاً) فانه لو كان الامر إلـيَّ لأضفت اليهم من باب الانصاف والاعتراف لاهل الفضل بفضلهم الولـيَّ الخامس والاربعين.
كان شخصا خمسينيا هادئا ومتثاقلا، تُـطل من وراء ظاهره وتَـشِـع من محياه حالـةُ طمأنينة لا تخطئها العين، وتَـشْـتَـمُّ منه طيبوبـةً فائحـة،ً وترصد عليـه إشـاراتٍ لائحـة،ً كلها توشي بتدينه العميق وتُـنبيء بدماثة خُـلقه وتُـحَـدث بلِـين جانبه، أحسبه من الطينة النادرة من حيث علمه وعمله الشريف وسَـمْـته الجميل، وأعُـدُّه رجلا من رجالات تاوريرت الذي عـرَفه الكثير ولم يعد يذكره الا القليل.
قال لي شاب من احفاد “فاتَـح”، وهو صاحب “استوديو الافراح” للتصوير الفوطوغرافي بتاوريرت، وقد كانت بين عائلته وعائلة سي عمر جِـيرة مُـساكَـنة، وجمعتهما صداقة ومودة وعلاقات أخوية :” انا تربيت على يديه في بيته، كان علاّمة لا مثيل له ووليا كبيرا، لا انساه ابدا…ونحن نطالب بالحفاظ على ذكرى المكان الذي كان يعرض فيه مكتبته لنتذكره به ونترحم عليه…”، كما صرح لي انه يحوز بعض مؤلفاته ويحافظ عليها ولا يفرط فيها ابدا.
الاشارات تقول ان سي عمر نجم فَـرْقَـد وقبسٌ وهاج وذِكْـر مشرق ومنار لأْلاء من ذاكرة هذه المدينة الزاخرةِ بالكنوز الحافلـةِ بالمفاجآت، أنار عقول كثير من ابنائها ورَوَّى قلوبهم في زمن صَـعْـب وفي صمت وجَـلَـد عزيز، فحاز نصيب الاسد إسهاماً واستحقاقا !
لا اعرف له سَـمِـياً او قرينا في هذه المهنة الشريفة وفي تلك الفترة غير “مُـرّاكُـشِيّ وجدة” المشهور الذي كان معاصرا له إن لم ازعم بسبق وتقدم صاحبنا زمانا وعلما وإشعاعا، الفارق بينهما ان مراكشي وجدة لم يزل صامدا وواقفا يقاوم حتى الآن بينما مراكشي تاوريرت قُـضي امره، واندرست او غُـيبت معالم آثاره، وطُـويت بموته صحـفُ اخباره، وغَـفلت عنه تاوريرت واهـلُـها ثم نُـسي.
ربطتني بسي عمر هذا، في اوائل سبعينيات القرن الماضي علاقة ثقافية وانا لم أزل تلميذا في اولى سنوات صفوف الاعدادي باعدادية علال العامرة، علاقة لا انساها ولا انسى صاحبها ابدا لِـما كان لذلك علي من افضـالٍ حيـنَـها أسَّـستْ لما بعدها من حياتي الفكرية.
هذا الرجل، رحمه الله، كان ينثر للجميع على جزء كبير من الرصيف المحاذي لمقهى “فاتَـح” رحمه الله(مقهى الافراح،الآن)، قبالة مُـصـوِّر “استوديو الافراح” حاليا، على ضلع الزاوية المُـفضية الى شارع عبدالله الشفشاوني بالحي العتيق بزنقة بئر انزران، كان ينثر هناك يوميا مكتبة سخية ومتنوعة تحفل بمعظم اجناس الكتب والاصدارات موضوعا وحجما وحالا، يقوم عليها طول النهار ترتيبا وعناية وبيعا،ليعيد لملمـةَ ورصَّ مكوناتِـها واشيائها الكثيرة مع نزول ظلام الليل في بَـرّاكة حديدية كبيرة رابضة هناك مستندة الى الحائط لا تتحرك ولا تتحول.
سي عمر، شَـعَـر ام لم يشعر، وقَـصد ام لم يقصد، فانه قد قام في الحقيقة بحركة بسيطة وعادية في ظاهرها، وعن حسن نية وبدون اجراء دراسـةِ جَـدْوى لتحديد خواتيـمَ ورسـمِ اهداف المشروع، في زمن لم يكن فيه لتجارة الكتاب رواج يُـغري ولا للثقافة والفكر سوق كبير ولا جمهورٌ متعلم واسع وعريض، ولكن في العمق وبالنطر الى الثمار والنهايات قد كانت هذه الحركة الثقافية التلقائية في ذلك الوقت وتلك الظروف مشروعا فـذّاً وبادرة فريدة وعملا جليلا وخدمـةً مباركة أدت دورا عظيما من حيث نتائجها ومآلاتها، لم يعرف فضلها حق المعرفة الا مَـن وفَـد عليها ووَرَد ماءها واغترف منها ونهل من مَـعينها.
كلما ذكرتُ قراءاتي ومطالعاتي آنذاك بتاوريرت الا وانبعث متجليا في ذاكرتي بصورته الهادئه ومحياه المشرق رغم بُـعد تلك الحقبة وكَـثرةِ تعاقب ايام الزمان عليها وتراكـمِ نقـعِ غبار السير فوقها وعلى ذكراها.
موردان ثقافيان آخران هامان ووحيدان كانا متوفرين بتاوريرت في تلك الحقبة هما مكتبة البلدية بدار الشباب خلف الملعب البلدي على طريق محطة القطار، ومكتبـةٌ عصرية لولد مولاي سليمان القائمة الى الآن بالحي القديم بزنقة لمريجة، والتي انشأها وادارها سي محمد بمساعدة اخيه سي عبدالله، اطال الله في عمريهما.
كانت هذه المكتبة الاخيرة في تلك الفترة في اوج الطَّـفرة والعطاء والنشاط بما وفرته للطبقة المتعلمة بتاوريرت من خدمات ثقافية وفكرية جليلة وبما كانت تَـعْرِض وتبيع من اصدارات دورية وجرائد سياسية ومجلات ثقافية عالية، وطنية ودولية، على راسها “مجلة العربي” الكويتية ذات النفع والصيت الذائع آنذاك ايام رئاسة ادارتها من طرف الدكتور احمد زكي رحمه الله، الذي صنع لها عصرها الذهبي بما اغناها به وضـمَّـنها من فائدة عظيمة، والتي لم يكن الاشتراك فيها لضمان الحصول على العدد شهريا الا بالاداء والتسجيل مسبقا في لائحة المشتركين كل شهر لدى المكتبة عند سي عبدالله وبقـدْر لم يكن يكلف اكثر من ثلاثة دراهم ونصف درهم (3,5) للعدد الواحد.
هذان الرافدان الثقافيان العصريان رغم حداثتهما واشعاعهما الكبير وايجابيات خدماتهما لم يكونا بمتعة وجاذبية مكتبة سي عمر الرصيفية !
بساطة العرض، وسهولة الوصول الى الكتاب، وحرية تصفحه ومعرفة مضامينه وحتى قراءة بعض فقراته، وانخفاض تكلفته لكون معظم النسخ قديمة ومستعـمَـلة، وسماحة سي عمر وصبره على الزبائن وتحمله للجميع، كان السر الخفي الذي جعلني لا امل من التردد عليه والتزود من فرصه والنهل من اطباق الوجبات المغذية المقدَّمة من طرف هذه المكتبة البسيطة الرائعة المفيدة.
مع ما كان لدي من اطلاع فان هذه المكتبة، المتواضعة في شكلها، كشفت لي معالم جديدة لم يكن لي بها اقل علم ولا ادنى خبر، وعمّـقَـتْ معارفي كثيرا في مجالات عدة، واثْـرت ثقافتي اكثر ووسعت افقي الفكري واغنته كمّـاً ونوعا الى ابعد نطاق بلا سقف ولا نهايات. وحـمَـلتني اثيريا لتسافر بي خارج كل الحدود والحواجز عبر جغرافيا المكان وامتدادات الزمان الماضي والحاضر ونخبـةِ اهله واسمائهم واحوالهم ومآثرهم.
فهنا توطدَتْ صداقتي اكثر بفرسان الصياغة البديعة والفصاحة العربية والبيان الماتع يتقدمهم الرافعي والمنفلوطي والمازني وعبد الرحمن شكري والعقاد، وازدادت صلتي انعقادا في هذا المكان بعبد المجيد بنجلون صاحب “في الطفولة”، وبنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وأضرابهم من كُـتاب القَـصص والروايات، وتمتعت بادب وادباء المهجر والرومنسية مثل جبران خليل ومطران وميخائيل نعيمة ومي زيادة، وجلست وأصغيت الى اهل الفكر والافكار والنظر العقلي وصفوة الادب في خيمة طه حسين وكوكبته، واستمعت الى كثير من الشعراء المبدعين كاميرهم شوقي وشاعر النيل حافظ ابراهيم والشابي والجواهري ونازك والسياب واقرانهم، وقرأت وتعـرَّفت نماذج من الادب العالمي كالبؤساء لڤيكتور هيجو ورسائل طاحونتي لـِ ألفونص دودي وتاجر البندقية لـ شكسبير ودُنْ كِـيشُـوطْ لِـ سرفنتيس، واطلعت على انواع من المطولات والسير والمغازي مثل الف ليلة وليلة وسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن والهلالي وغيرها، ولا انسى كتب مغامرات “جيمس بوند” البوليسية وقصص “زمْـبْـلا” بالفرنسية ومثيلاتها المصورة التي شغلت الشباب طويلا واستفادوا منها كثيرا في جانب إغناء قاموسهم الفرنسي وسهلت للكثير منهم امتلاك اسلوب ميسر للتخاطب بهذه اللغة.
كما شُـغفت يومها كثيرا بكتـيِّـبات اشعار وكلمات اغاني المطربين الذين كانوا يملؤون المحطات الاذاعية باغانيهم نهارا وبسهراتهم المطولات ليلا، ويملكون علينا اسماعنا ويتصرفون تصرفا مَـشاعا في مشاعرنا الغضة كشباب مراهقين حالمين، فبالقدر الذي اسهمـتْ به هذه الاغاني في ترقيق قلوبنا وتليين طبائعنا واحاسيسنا وتقليم اظفار غِـلظتها وتربيـةِ اذواقنا والسمـوِّ بها فنياً، استهلكت سُـدى،ً وبالقدر نفسه كثيرا من اوقات عمرنا الغالي وساهمت بقوة مع مرور الايام في اتجاه تساهلنا في كثير من واجباتنا الدينية، والتخفف من بعض ثوابتنا الخلقية، وبدءِ اعتلال عفاف انفسنا وتلوثِ طهارتها، مع انسحاب ذلك على المجتمع عموما، أذكى الامـرَ اكثر المضاميـنُ الرديئة والايحاءات الساقطة لمعظم تلك الاغاني وسلوكاتُ بعـضِ مُـغنيها.
مِـنْ هؤلاء المطربين المشاهير حينها عميدهم المذهل محمد عبد الوهاب واميرتهم الاسطورة ام كلثوم والساحرة فيروز وفريد وعبد الحليم وصباح وعبد الهادي والدكالي ورابح درياسة واحمد خليفي، الى جانب الطرب الغنائي الشعبي والمجموعات الشبابية كَـ جيلالة والغيوان ولمشاهب وإزنزارن والآخَـرين والأخريات، فلا احد يُـنكر مدى رواج الاغنية على حساب الكتاب في تلك المرحلة رواجا عجيبا أضَـرَّ بالقراءة وألهى عن المطالعة، ولا احد يجهل مدى إسهام الـمَـغـنى وخطـرَ دورِه في توجيه الرأي العام سياسيا ونصيـبَـه في تشكيل وعي المواطن ايجابا او سلبا وصلاحا او فسادا، وكلنا يذكر ولا ينسى، مغاربيا على الاقل، اغاني مثل “آهْ يا الصينية” و”كِـيـفْ اِديـرْ اَسيدي” و”جاري يا حــمُّـودة” التي عمرت طويلا وشَـغلت كثيرا وفعلت آنذاك في الناس فعلا خارقا لا يمكن ان ينساه احد من اهل ذلك الزمان !
والى جانب هذه المطبوعات الفنية الصغيرة وُجِـدت مجلة فنية كبيرة اسمها “الموعد”، مجلة رخيصة وزهيدة جدا ومتوفرة الى حد التخمة، تجدها في كل مكان وعند كل احد تقريبا، كانت تصدر من بيروت، وتُـعنى بعالم الفن والفنانين و”العائلات الراقية” والشخصيات العامة المشهورة في مختلف المجالات، وتحكي مغامراتهم وقصصهم الغرامية وتنقل وقائع مآدبهم ولياليهم الساهرة بالصورة المثيرة والكلمة غير البريئة، وتروج للاعمال الفنية المنـتَـجة في لبنان ومصر وسوريا خاصة، وكانت هذه المجلة تُـعَـد في تلك الفترة قفزة “نشازا” وعملا غير بريء يخدش الحياء العام والحشمة السائدة ويمس بأسس الآداب التقليدية المستقرة الجامعة ويتهدد كثيرا من القواعد الخُـلقية والدينية الثابتة والضوابط الاجتماعية العرفية الناظمة، ما جعلها حدثاً جديدا وحاجة مثيرة ومطلوبة ومرغوبة من طرف الصغار والكبار على السواء.
كانت مكتبة سي عمر صورة مصغرة لعالَـم كبير متفاعل يمتد من البحر الى البحر، او بستانا مُـسَـيجا بالاوراق والحروف والافكار، وداخـلَـه كـلُّ شيء يدب ويتحرك ويتكلم، يَـتضـوَّر ويَـنضج ثـمَـرُه تحت تأثير حرارةِ وَقْـع اوجاعِ مخاضاتٍ شعبية عسيرة، ويحكي آلامَ تجـرعِـه غـصـصَ خيباتِ آمالٍ واحلام عريضة عاطلة عجزت ان تتحقق، متطاوعا يعكس اختلاجات وانفعالات وِجدان العالم الاسلامي وحاكيا مستوى قوة نبضات قلبه الذي كان يتفاعل خارجيا مع أجواء آثارِ مرارةِ نكسة حزيران سبعة وستين (1967)، والمغرب داخليا كان يتلمض مُـخرجاتِ احداث “سنوات النار والرصاص” وتفاعلات الوقائع الاجتماعية والسياسية الكبرى التي صاحبتها او تلتها.
اقمت بجوار فضاء مكتبة سي عمر وفي كَـنَـف هذه الصداقة الثقافية الخالصة زهاء سنة ونَـيِّـف، استطعت خلالها ان اتحمل باهم ما صادفْـته بها وجادت به من فوائد وازواد طيبة، وبعد رحيلي توقف نبض ذلك النبع الـثَّـر وانقطع ذلك الخيط الاثيري الذي كان يربطنا وجرفَـنا تيارُ موج الحياة العالي والقى بنا في اماكن اخرى جديدة ومتباعدة انستنا في القديمات السابقات، وغبـتُ طويلا، وصرتُ لا اعرف عن صاحبي شيئا ولم اعـدْ اذكره الا في هذه السنوات الاخيرة اذا قادتني الطريق ومررت صدفة قرب مكان مكتبته الغائبة الحاضرة…فأرمقه بنظرة حبيبة حانية ملؤها الاحترام والاعتراف بالجميل، يطير في أثَـرِها قلبي مرفرفا ليعانق بحرارة ذكراه البعيدة وكأنها البارحة فقط !
فما اقصر الاوقات وما اسرع الايام والاعوام، ونحن غُـفْـل او نيام !
رحم الله سي عمر، مراكشـيَّ تاوريرت، وجزاه عنا خيرا واسعا ونعيما دائما…آمين. آمين…