العلامة مصطفى بنحمزة.. طالِب الاستزادة وعالِم الإفادة
الكاتب د.محمد البشاري
آثر العقل تناول مواضيع أكثر ترابطاً في الأسابيع القليلة الماضية، فكان آخرها مؤتمر الأزهر الشريف للتجديد الديني، وسبقه مؤتمر اتحاد العلماء في أفريقيا، نيلاً للحلم المنشود والآمال السامية في بناء مستقبل زاهر بكل معاييره، وسبق ذلك الإشارة إلى أهمية اكتساب المجتمعات لمنظومة الوعي الفكري الرصين والنقي من كافة الشوائب التي تفرضها بعض التحولات الطارئة.
ولما كان الوعي والجهود الراسخة مهمة العلماء والمفكرين، استحضرني أحد أبرز الجهابذة الأخيار في عصرنا هذا، حين قال: «حضارتنا لا تمثلها الحيطان والجدران، ولكن يمثلها علم وفعل الإنسان»، حيث كرّس هذا الرجل الذي يعيش في عقده السابع جل عمره، في سبيل البحث والعلم، استزادةً وإفادةً، تاركاً ما سنح له من فرص «مناصب» عليا استحقها بجدارة، ومُنطلِقاً بشغف نحو نصح العباد والأمر بصون البلاد، ليسطع نجمه من خلال ما قدم كالبحوث العلمية، والفتاوى المعاصرة.
الأستاذ العالم النحرير مربي الأجيال العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة، شخصية مقدَّرة جمعت بين جانبي التنظير والتطبيق، والإشارة لأهمية الإصلاح والإنشاء في تشييد حصونه، وبين وافر علمه واطلاعه وبشاشة وجهه وبساطته، ناهيك عما قدّمه عالم أصول الفقه ومقاصد الشريعة المغربي بنحمزة، الذي يشغل منصب رئيس المجلس العلمي في وجدة عاصمة المغرب الشرقي، ومدير معهد البعث الإسلامي للعلوم الشرعية، من محاضرات ومؤلفات أضافت كنزاً قيماً لمكتبة علوم الدين والشريعة، إذ كتب عن حقوق أصحاب الهمم، وشرح الأسباب التي تقف وراء تأسيس روح العداء عند بعض الغربيين نحو الإسلام والمسلمين، كما ألّف عن الأسس الثقافية لمنع تطبيق الشريعة، متخذاً من «المساواة» نموذجاً، إضافةً إلى التفاتته الهامة نحو معطيات ظاهرة التحولات الدينية والمذهبية، ومنشورات المجلس العلمي في وجدة، وتأليفه في مجال نظرية العامل في النحو العربي، ومقدمته الدافعة بتأصيل التسامح بين المسلمين، وأطروحته المقدمة لنيل درجة الدكتوراه، والتي حملت عنوان «تحقيق كتاب الحلية فيما لكل فعل من تصريف وبنية لابن عنترة»، كي يضيف إلى رصيده أيضاً كتاب الخطيب وواقع الأمة، وموضوع الحضور الإسلامي في مجال التربية، وكرامة المرأة من خلال خصوصياتها التشريعية، وغير ذلك من المؤلفات المهمة.
وقد برزت بشكل جلي حكمتُه وغزارةُ علمه ومواقفُه التي لا تتوقف عند الشعارات والتنظير، والتي كان قد ذكر فيها، على سبيل المثال لا الحصر، في موضوع التجديد: «ما هو تجديد هو تجديد، وما هو مجازفة وهون واتباع ليس بتجديد»، وحين قال: «التجديد دائماً يأتي من داخل الاختصاص، فلا يمكن لجزار أو فلاح أو نجار أو أستاذ في التربية الإسلامية أو البدنية على سبيل المثال أن يجدد في الطب، فلن يخرج بشيء، بينما إن اجتمع الأطباء فسوف يخرجون بشيء، فإذا رأينا علماء معينين في مختبراتهم سننتظر حينها شيئاً».
ويشدد العلامة المغربي الدكتور بنحمزة على أهلية الإفتاء، انطلاقاً من كونه منصباً شرعياً منضبطاً بأصولٍ، وضعها العلماء الأولون وكيّفها المعاصرون للنظر في النوازل دون تسيب أو تطاول من دون مؤهل علمي، لأن المسالة مسألة تخصص دقيق وتوقيع عن الله عز وجل، ولعل هذا ما جعل عدد المفتين حتى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة، لا يتجاوز الـ13 مفتياً.
إن المتمعن في سيرة العلامة مصطفى بنحمزة، الذي ألقى ثلاثة دروس حسنية رمضانية أمام العاهل المغربي محمد السادس، والذي تم توشيحه بأوسمة ملكية تقديرية، كان آخرها الوسام الملكي عام 2007، والمتتبع لإنجازاته.. يستشعر حاجة المجتمعات المسلمة، والمسلمين عموماً، لنماذج كفضيلته ورؤيته في الإصلاح الديني مع الحرص على التشبث بالثوابت، فهو عالم يحمل على كاهله مسؤولية شاقة يؤديها بصدق، ما جعله يؤْثر نصح المسلمين وإرشادهم على الجلوس لقضاء أوقاته كما أراد، على امتداد ثلاثة عقود، مساء كل سبت في مدينة وجدة، حتى قال فيه الشاعر سعيد عبيد في قصيده «ريح الأنبياء»:
لمساء السبت ريح الأنبياء والهوَا في وجدةٍ محضُ انتشاءِ
ها وفود الشرق سكرى قد أتت من جميع الشرق شوقاً للقاء
نحوَ بيتِ الله يَحدوها الهَوى كعِطاشِ العِيس تهفُو نحوَ ماءِ
قرفصتْ تمتاحُ مِن فَيْض الهُدى في خشوعٍ يا لَعذبِ القُرفصاءِ!
حَولَ نبعٍ من لُجيْنٍ خالصٍ لم يزَلْ ثراً هَتوناً ذا سَخاءِ
ترتوي منهُ صحارَى طالمَا أظمأتهنَّ عِجافٌ مِن جَفاءِ
الكاتب د.محمد البشاري