طقوس تدشين وزرائنا لمشاريع عادية يعتبر هدرا للمال العام وتعطيلا لمصالح المواطنين
المختار عويدي
وأنا أقرأ خبر قيام وزير التجهيز محمد عمارة بإعطاء انطلاقة أشغال تقوية وتأهيل الطريق الوطنية رقم 15، الرابطة بين جماعتي أفسو وصاكا، وأتفرج من خلال الصور على ما رافق العملية من بهرجة وطقوس تدشين، والتئام جمع غفير من المنتخبين والمسؤولين والمواطنين، ناهيك عن وفد السيد الوزير وعامل إقليم الناظور، الذين قدما إلى المكان في طابور من سيارات الدولة الفارهة، تذكرت ما فعلته الصين خلال محنتها الحالية مع فيروس كورونا القاتل، من تشييد لمنشآت اجتماعية واقتصادية جبارة في زمن قياسي، من قبيل مستشفى ووهان العملاق، الذي تبلغ مساحته 25 ألف م/2، وسعته 1000 سرير، والذي استكمل إنجازه خلال عشرة أيام، وكذا مصنع الكمامات الطبية خلال ست أيام. من دون أي هرج أو مرج، أو بهرجة أو ضجيج، أو مراسيم تدشين أو حملة دعائية جوفاء للمسؤولين. وأيقنت أنه لا زال يفصل بيننا وبين شعوب الأرض مسافة ضوئية. خاصة منها تلك التي تقدس العمل، وتناهض هدر الوقت والمال العام فيما لا طائل منه.
فللأسف لازالت مراسيم التدشين في بلدنا العزيز، تعتبر من الطقوس البئيسة البالية، التي تنم عن مستوى متجذر من التأخر والتخلف. فلا يمكن إنجاز مشروع ما، مهما كان سخيفا أو تافها، حتى لو تعلق الأمر بصنبور ماء في دوار مهمش منسي، دون أن ترافقه طقوس التدشين المقززة، وطبول البروباغاندا المقيتة. التي تمثل تجليا صارخا لهدر المال العام، ومستوى فاضحا لتضييع الوقت والجهد فيما لا يفيد. ولا تخفى على أحد المظاهر المستفزة التي ترافق طقوس التدشين السخيفة هذه، والمتمثلة في استنفار طوابير سيارات الدولة الفارهة التي تقل المسؤول ومرافقيه، الذين غالبا ما يخلفوا جميعهم وراءهم مكاتب فارغة، ومصالح معطلة للمواطنين. طوابير تسبقها صفارات الإنذار البائدة، التي تبث الفزع والرعب في نفوس المواطنين، وتذكرهم بسلطة المخزن، والمنبعثة من مختلف آليات الأجهزة الأمنية العديدة المرافقة، التي يتم استنفارها للسهر على أمن هؤلاء المسؤولين، علما أن مدننا قد أصبحت مسرحا للجريمة و”الكريساج” و”التشرميل” بكل أنواعه وأشكاله، في غياب وجود أمن القرب هذا، وهي أولى بهذه المظاهر الأمنية الباذخة.
إضافة إلى حضور العديد من المسؤولين المحليين والإقليميين والجهويين، الذين يأتوت مخيرين أو مكرهين لتسجيل حضورهم، والتصفيق لمَقدم المسؤول، والإنتظام في صفوف وطوابير طوييييييلة، لأجل السلام عليه، وربما الظفر بصورة معه، قد يتم استعمالها في تزيين المكتب، وإرهاب زواره. أو استعراضها في أماكن الإستقبال في البيت، وبالتالي المباهاة بلقاء المسؤول، وربما على واجهة حساباتهم الإجتماعية على شبكة الأنترنت..! بالإضافة طبعا إلى جموع المواطنين القادمين أو المجبرين على القدوم، تحت سياط وعيد وتهديد أعوان السلطة والإدارة، من مقدمين وقوات مساعدة وغيرهم، لتحية المسؤول وإبداء مظاهر الفرح والترحيب بمقدمه، وربما الهتاف بحياته. ناهيك عن بناء الخيام، وجلب الفرق الموسيقية والفولكلورية التي تساهم أهازيجها في تحفيز المواطنين على الحضور.
كما لا يخفى على أحد ما تسببه هذه الطقوس من تعطيل لمصالح الناس المختلفة، سواء الإدارية بسبب مغادرة المسؤولين لمقرات عملهم، من أجل المشاركة في موكب المسؤول عن التدشين، أو الإقتصادية نتيجة ما يسببه مرور هذا الموكب من إغلاق للطرق والشوارع وإرباك لحركة السير، وبالتالي لمختلف الأنشطة التجارية والمهنية. وغيرها من المصالح المتعددة للمواطنين. حتى أن مصاريف وتبعات مثل هذه الطقوس، وما تسببه من هدر مباشر وغير مباشر للمال العام والخاص على السواء، قد يفوق كلفة المشروع الذي تقام من أجله كل هذه البهرجة الدعائية بكثير.
وكلما “علا” شأن المسؤول القادم للتدشين (رئيس جماعة – رئيس جهة – قائد – عامل – وزير..) إلا وازدادت هذه الطقوس تعقيدا وإنفاقا وهدراً للمال العام، وإلحاقا للخسائر المباشرة وغير المباشرة بالمواطنين ومصالحهم المختلفة. وقد ينتج عن هذه الطقوس أحيانا، إغلاق شامل لأحياء بكاملها، وشلل لمختلف أوجه الحياة بها، من أجل التفرغ “لإنجاح” هذه الطقوس البالية.. !!
ولعل من أوجه السخافة والعبث لدى مسؤولينا، هي أنهم قد يقيمون لنفس المشروع أحيانا طقوس تدشين عند انطلاق الأشغال، وأخرى عند نهايتها. حتى قد أصبحت هذه الطقوس من فرط حرصهم على إقامتها، أو كادت أن تصبح، مكونا أساسياً من مكونات تدبير السياسة في هذا البلد العزيز، لما فيها من استعراض للسلطة والنفوذ، وما توفره من استهلاك إعلامي وبروباغاندا دعائية. لا ينقص سوى “دسترتها” وتخصيصها بباب، ينظم كيفية إقامتها وإجراءات تنفيذها. وطريقة تمويلها.. !!
ألم يحن الوقت بعد للقطع مع هذه الطقوس البئيسة البالية، والإقتداء بالبلدان التي تحترم مواطنيها، من التي تنجز المعجزات والمشاريع الجبارة في هدوء وصمت، من دون حاجة لإثارة مثل هذه البهرجة الدعائية التي تدعى “تدشيناً”. والتي لا يهمها من تشييد مختلف المنجزات العملاقة، سوى توفير شروط العيش الكريم لمواطنيها، من دون تصريف دعاية أو استهلاك إعلامي، كما هو الحال عندنا. ألم يحن الوقت بعد للتخلص من هذا الإرث الدعائي المقيت، وغيره من مظاهر استعراض السلطة، ومختلف الأمراض السياسية المتمكنة من مفاصل البلاد..!!