“تَبَــرٌّعٌ” أو “بَراعةٌ” أو همَا معًا؟
كمال الدين رحموني
في اللغة، نوع من التجاذب والتمايز بين لفظي: “التبرّع” و “البَراعَة”. وهذا التشارك بين اللفظين، يصاحبه تمايز في الوظيفة باعتبار الأول ، يستوعب صاحبه بالأجر والفضل، ويعمّ المجتمع بقيم التضامن، والإحساس بالآخر. أما “البراعة” فَنفْعُها عائدٌ على الذات. وبالغوص في المفهومين يتضح القصد. “التّبرّع” في دلالته يقلّل من حضور الذات” المُعطي”، في مقابل حضور الجماعة، فالذي “يتبرّعّ، يُلغي الذات، ويستحضر ضمير الجمع، التبرع عطاء عن طواعية، واختيار من غير سؤال، وفي النهاية، هو تفضُّلٌ دون عِوَض.
أما البراعة، فشيء آخر، فتقول: ” فلان تبرّع في مهنته، أي تميّز فيها وتفوّق وفاق نظراءه، وهذا المعنى قريب من اللفظ الدّارج:
” فلان مْبَرَّعْ مع راسُو”. من هنا ندلف إلى خبر تداولته صحافة هذا اليوم، بخصوص “إعفاء الشركات المتبرعة لصندوق “كورونا”، من الضرائب، وإثارة حفيظة الحقوقيين، والدعوة إلى التراجع عنه”.
وإذا صح الخبر وتأكّد، فهل يمكن القول: إن السذاجة غلبت علينا وكنا قوما “ضالين”، في التقدير، “مسرفين” في التفاؤل ؟
وإذا صح الخبر، عرفنا لماذا لا يوجدُ مثلُ هذا عند غيرنا، حين ظننّا أنه شيء يميز بعض المغاربة لأنهم “تخلَّوا” عن شيء من أموالهم للتبرع لصندوق “كورونا”.
وإذا صح الخبر، أدركنا أن الفرق كبير، بين من يعطي لله وللوطن وللفقراء، ومنهم ” يحسبهم الناس أغنياء من التعفّف”، هؤلاء الذي أقعدهم الوباء، وشَّل حركتهم، وحال بينهم وبين كسب قوتهم، وبين من يعطي لا يريد جزاء ولا شكورا، إلا من رب المنُفقين الذي ادّخر لهم رصيدا عظيما من الأجر، في قوله سبحانه: ” الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. البقرة 274
وإذا صح الخبر عرفنا أن الدولة في الغرب الديمقراطي، تُحكم بالقانون، لا بالعواطف وردّات الفعل، حتى في لحظات الأزمات، كأزمة الوباء الحالي، فالكلمةُ فيها للمؤسسات، لا للأفراد، للمنظومات التي تحترم الرأي العام، وتخاطبه خطابا يبتعد عن الإثارة، والعاطفة، والكل يلتزم بأداء ما الواجب، من مستحقات ينظمها القانون، ولا أحد فوق القانون، ولا أحد يستغل مشاركته وإسهامه، أو وظيفته، للتملص في الظروف العادية، أو في مثل هذه الكوارث، ليجعلها مطية للتهرب أو الاستفادة من الإعفاء الضريبي، أو غيره من الامتيازات.
وإذا صح الخبر تأكدنا أن التعامل بــ”الحيلة” لا يزيد سوى في مضاعفة المعاناة في البلد وساكنيه، ويرسخ غياب العدالة والمساواة في المواطنة والحقوق، ويعطي الانطباع الواضح بأن هذا الأسلوب في “العطاء” و” الإسهام” بهذه الطريقة، يعرّي واقعا أُريدَ له أن يظل مستترا، ويكشف- وهذا الأخطر- طبائع نفوس، أصحاب “الثروة”.
وإذا صح الخبر، تبيّن أن “كورونا” بقدر ما كانت وبالا، على البلد وضعفائه، فقد غدت “مكسبا”، إضافيا باعتبار حجم الاستفادة من هذا “الامتياز”، بدعوى “التبرّع”، والمتوقّعُ أن الجَنْيَ سيكون أضعافا مضاعفة.
وإذا صح الخبر، فلْيُعِدْ هؤلاء النظر، في بعض المفاهيم والشعارات التي تعلو في لحظات الرخاء، ولْيُدركوا أن الانتماء إلى الوطن حقيقة، والاعتزاز به، لا يعني أن نأخذ من هذا الوطن، بقدر ما يعني أن نعطيَه، ما وسِعَنا العطاء، أن نبذل له من أموالنا، من أرواحنا، من أنفسنا من أوقاتنا…فلحومُ أكتافنا، امتيازاتُنا، أموالُنا…، كل ذلك من خيرات هذا الوطن، الذي يئنّ في صمت من وطأة وباء مُفزع.
وإذا صح الخبر فإن القول المعروف، وما يفعله شرفاء هذا الشعب، من فعاليات ومجتمع مدني- والذين لا يجدون إلا جُهدَهم البدني، فلا يستصغرونه، ومبادراتِهم الفطريةَ في التفاعل فيستعظمونها، ما يفعله هؤلاء الشرفاء، خيرٌ من صدقاتٍ يتبعُها أذى، ومن أشدّ الأذى، أن يأخذ الإنسان شيئا على ما أعطى، وهو مُسْتغنٍ، والقرآن الكريم يَلفتُ النظرَ إلى قيمة القول الطيب، وأفضليته على أعمال البرّ، فالإنفاقُ الذي يُتبعه صاحبُه منّاً وأذىً لا خيرَ فيه ، فَيَكفيه كلمةٌ طيبة، وقولٌ معروف، وهو المعنى في قول الله تعالى:
” قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ”.البقرة262 .قال القرطبي في تفسير الآية: ” والقول المعروف…خير من صدقة، هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لا شيء ، لأن ذكر القول المعروف فيه أجر، وهذه لا أجر ” الجامع لأحكام القرآن 3/309 . والمَنُّ لا يحتاج إعلانا، ولا تصريحا، وإنما قد يُترجمُ، بأفعال تجعلها ” كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ” النور39. فهل يحق الجزاءُ في الآخرة لمن أخذ على “العطاء” في دنياه؟
وإذا صح الخبر، فإن الذي يأخذ ويستفيد مما أسهم به في الصندوق، فكأنه يمنّ على وطنه ومواطنيه، ومن ثَمَّ ليس له من الأمر شيء، فكلُّ مَنٍّ بالصدقة والإنفاق مع ابتغاء المكاسب المادية، هو إحالةٌ ضمنية على غياب البعد العقدي لدى المَانِّ، وانتفاءٌ لحضور اليوم الآخر لديه، وكأنه يعيش لدنياه، لا لآخرته، ولذلك كان التحذير الإلهي، لطرد الأثرة والشح، لتصحيح المفاهيم، وكما يحب المرء أن يتصف بــــــ”البراعة”، في الظروف العادية، كذلك يحسُنُ أيضا، -وبشكل أكبر-، أن يتصف بـــ”التبرّع” متجردا فيه لربه، وفي الظروف الحالية خاصة.
والله من وراء القصد.