مناعة الروح والجسد
كمال الدين رحموني
هل تأتي الأزمات بالـــــــ”سيء” أو” الأسوأ” دائما ؟ وهل يصحَب الكوارثَ “الألمُ” والأشدُّ إيلاما” عادةً ؟ أم في كل محنة ثَمَّةَ منحة، وبعد كل عسرٍ ثَمَّةَ يسرٌ، ، وبعد كل شدة ثَمَّةَ فَرَج ؟ ” فإن كان الظنُّ بالأولى، فتلك العينُ الباصرة، وإن كانت الثانية، فهي العين البصيرة ، وقد قيل:” البصرُ للآفاق، والبصيرةُ للأعماق “.
والناس في مواقفهم من ” كورونا” أصناف، وَدَعْكَ من الصنف الذي لا يؤمن بالقضاء والقدر- وهم قليل- ، ولا يقتنع إلا بما “يهدي” إليه العقل، فَمِنْ مُستهتر بنسمات الروح، ومستهزئٍ بعالم الغيب، ومن عنيدٍ “يصارع” من أجل الاستمرار في نفق فكري مجافٍ “لما وراء الطبيعة” كما يسميه بعضهم. وحتى بمنطق العقل، في أزمة وباءٍ أذهل العالم، وأفزع البشرية، وحصد آلاف البشر ولا يزال، ومع ذلك يبقى جزء من العقل المؤلِّه لذاته مصِرًّا على التنكُّر لقواعد التفكير الرصين، في لحظة صفاء الذهن، وخلوة النفس. وقد يتفهَّم الواحدُ منا أن يظل هذا العقل مستمرا في “غيّه ” وتمرّده”، في الظروف العادية، لكن في ظروف استثنائية، تجاوزت كلَّ الطوارئ التي شرعتها قوانين البشر، على الأقل في القرن الماضي، فذلك ما يدعو إلى العجب. وجميعُ الناس اليوم، يعترف بهول الوباء، وشدة البلاء: العقلانيون والنّصّيّون، الحداثيون و”التقليديون” الحاكمون والمحكومون، الأعيان والبسطاء، دولُ العالم المتقدم، وأختُها من العالم الثالث. لكن، في النهاية، ولحدّ اللحظة، يعجز العقل عن التصرف الناجع في واقع طوّقته براثن وباء خفيّ، ليس له من “مقاومة” سوى مخلوق “ركّبه ” ربٌّ حليم في جسم عبد ضعيف، يسمّيه علمُ الطب جهازَ مناعة، يحاصر “الفيروس” بعد فترة اختباء في الحنجرة، فإذا راودته الرغبة في التسلل إلى رئة العبد، بدأت المقاومة التي تستغرق أياما أربعة أو خمسة، فإذا عاش هذا الجسم سليما من أمراض سالفة، بريئا من مؤثرات جانبية ، ظلت تشتغل في صمت في غفلة من صاحبها، ربحَ الجهازُ الرهان، وكان مصير الفيروس الإبادة، بعد التطويح به في جهاز هضمي مدجَّج بسوائل حمضية.
بالله عليكم: من المدبّر الحكيم الذي “صنع” الجهاز، وصاغ له دليل التشغيل، ثم ضمِن له نسبة نجاح عالية؟ أليس هو” الذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثم جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِن مَاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ” السجدة7-9 . هذه هي أولى الحلقات الغائبة في مثل هذه الأزمات: “قلَّةُ الشُّكر”. وأما الثانية، فـَقِلَّةُ التَّذَكُّر””، قال تعالى: ” أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ” النمل62، بشرط أن تعرف أنّ لك ربّا يكشف البلوى، ويُنزِل الْمَنَّ والسَّلوى (والمَنُّ كل ما يمنّ الله به على عباده من غير تعب، والسّلوى، كل ما يُسلِّي ويذهب الحزنَ والهمّ). فهل كان خالق هذا الإنسان، بل قُل: “الرؤوف الرحيم” ، هل كان يَترك العبدَ لذاته، يعاني الألم، وهو صاحب الفضل من قبلُ ومن بعدُ: إيجادا، وإمدادا، وتعهّدا، وتلطّفا، ثم ابتلاء وشفاءً ؟ وهل كان الرؤوف الرحيم يُرضيه أن يعيش العباد في جوع وخوف وفزع، وهو – سبحانه- ” الَذِي أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ ” قريش4. وقد يقول قائل: ” ما لكم كيف تحكمون” ؟، وأين جهد البشر في التصدي للفيروس؟ وماذا يفعل هؤلاء الأبطال من الأطباء والممرضين الأشاوس؟ وما ذا تفعل الدولة التي أَبْلتْ، وتُبْلي البلاء الحسن ، منذ الوهلة الأولى؟ وهي أسئلة مشروعة ، لها نصيبها من المصداقية. إن الذي أرسل الوباء، هو الذي أرشد إلى الأخذ بالأسباب، ومن هنا كان جهد الدولة بأطبائها العاملين، والمتطوعين، ورجال سلطتها – مشكورين- الذين يجوبون الشوارع والأحياء لتوعية الناس، كلُّ ذلك يندرج في الأخذ بالأسباب، وفرقٌ شاسع بين التوكل والتواكل. ومن حسن التوكل على الله أن يُقدِّمَ له المرءُ بالاعتراف بالتقلُّب بين الضعف والقوة، وهذه فطرة الخَلْق التي فطر الله عليها البشرية، فاللهُ تعالى هو القائل:” اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضُعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضُعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضُعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ” الروم54، والقوة والضعف، وصفٌ للمادة والمعنى، يسريان على البدن، من قوة الشباب إلى ضعف الشيخوخة والكهولة، كما يسريان على العقل، حين يتجاذبه القدرة والضعف على التفكير والاستيعاب من جهة، ومن جهة أخرى، تعتري العقلَ، حين يُفوِّت على نفسه فرصة الاعتبار بعد التفكُّر في آيات الله التي أرساها، باعتبارها سننا كونية، ثم أرسلها إلى أصحاب العقول لعلهم يتفكرون، ولذلك كان التحدي القرآني لعينات من المعاندين في تاريخ البشرية، ممن ظلوا يناكفون الحقائق العقدية، ويجادلون في أسماء سمَّوْها بأنفسهم ما أنزل الله بها من سلطان.
فهل يبقى من مسوغ موضوعي للبقاء على السّكّة التي وُضِع عليها العقل وحده، حتى غدا حائرا في التوصيف ، شاردًا عن التصرف، عاجزا عن التحليل والاستنتاج. ولو كان العقل وحده، يُسعف، لكان أولى به أولئك الذين سبقونا بمراحل حضارية طويلة، هؤلاء الذين ظلّ بعضُ مثقّفينا يستمدون منهم النموذج، ويستلهمون التجارب و يقدمونها للناس في الإعلام، عنوانا للتقدم والتطور. ولو تأمل العقل المحجورُ صاحبُه في البيت، وتخلّص من الأنا المعرفي، لو تخفّف قليلا من الآسر الإيديولوجي، ولو رَكَن إلى مناعة الروح والجسد، لما وَسِعه – وهو في الحجر الصحيِّ الإراديِّ- إلا أن يقول مع المؤمنين:
“يا حيُّ يا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ نستغيثُ. اللَّهُمَّ رحمَتَكَ نرْجُو، فَلا تَكِلْنا إلى أنْفُسنا طَرْفَةَ عَيْن، وأصْلِحْ لنا شَأننا كُلَّه، لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ.”.
والله من وراء القصد.