في زمن “الحجر الصحي” : خواطر من وحي كِمَامة
كمال الدين رحموني
قُدِّر لي – اليوم- خروجٌ حاجي، بعد فترة غير يسيرة من الإقامة الطوعية في بيتي الذي جعلته مأوىً وسكنا، فهو كما أُثر عن الإمام مالك –رحمه الله- “جنّة الرَّجُل بيته “. ولكنّ الالتزام بالمكوث بالبيت في زمن “الحجر الصحي”، فاق كل التقدير والتنظير والتقرير. وتذكّرت ساعتها نعمة الحرية التي أرادها الخالق للعبد حين جعله حرا في إقامته، طليقا في مسكنه، مُختارا في تفكيره، واعتقاده، وفي الوقت نفسه، تذكّرتُ أناسا حالت ظروف السجن بينهم وبين أن يسْرحوا فرحا ومرحا في بلاد الله، لا يُصادر حرِّيتَهم سوى مُوجِب من موجبات العقاب الدنيوي، مع الفرق البيّن بين مفهوم السجن الذي تعارفه الناس، وبين السجن في مفهومه الصحيح، فقد جاء في الحديث الشريف: ” الدّنيا سِجْنُ الْمُؤْمِن وَجَنّةُ الْكَافِرِ” صحيح ابن حبان، ولِكُلٍّ فهمٌ هو مُوَلّيه. وكم ناني العجب والغرابة، وأنا أقتني “كِمامة” أضعها لأول مرة. وبالمناسبة، فالصواب لفظ الكِمامَة، بكسرِ الكاف، دون تضعيف الميم، وهي ما يُوضع على فَم البعير لئلاّ يَعَضّ، أو لئلا يؤذيه الذباب، ومن ثَمَّ توظَّف في ظروف الوباء باعتبار وظيفة المنع من انتقال العدوى، ولاشك أن أذى الوباء أدهى وأخطر. لم يكن الشعور عاديا كعادتي في الظروف العادية، حين كان النظر أحيانا يرمُق واحدا من الأطباء أو الممرضين، يضعُها ، وكنت إخالُ الأمرَ يسيرا، هي مُجَرّد قطعة من القماش أو لا أدري… من صميم عمل هؤلاء المختصين. ولكَمْ ظلّ يدور بخَلَدي في اللحظة، لو أنني حاكيْتُ ارتداءها من قبلُ، ولو من باب التجريب، أو التقليد، لكن وللأسف، لم يحصُل هذا حتى في الأحلام التي ظلّت تداعب الجفون خلال الزمن الطويل الذي انقضى من أعمارنا في رحاب نوم طال زمنه، واختل بدوره باختلال حياتنا الطبيعية، فهل ننساق اليوم أيضا، ونُمْعِن في العناد والتغافل، أو التظاهر بالقوة والاستغناء التي ظلّت تطبع تصرفاتنا، فقد جاء الوباء ليُعرّفَ كلَّ واحد منّا نفسَه وقدْرَه ، دون مُواراة أو مُداراة، أو إطراء أو ثناء. حضر الوباءُ ليزلزل منظومة السؤال التي ظلّت تسْرَح بنا في عوالم النّظر والرغبة في المعرفة، ليُسائل كل واحد منا:
– أيها الإنسان: كم وزنُك في ميزان الحياة، قبل أن توزن في ميزان العدل الإلهي، حين تُعرض على ميزان له كِفّتان متكافئتان عند مَنْ يزن بالعدل، ولا يُظلم عنده أحد، يوم تُعرض على ربك لا تخفى منك خافية. – أيها الإنسان: أنت الذي كان يشارُ إليك بالبَنَان، ويُحتَفَى بك أمام الخلّان والأقران، ويُحتفَلُ بك حين تصلُ ثروتُك “المليار”، ويُثْنَى عليك وأنت الحاذِق الأريب، صاحبُ الحسَب الحسيب، فأين أنت، وكم حجمُك، وكم قدرُك، وأنت الذي لم تعُدْ قادرا على الحركة كما تريد، وحيثُ تريد، كما كنت من قبل؟ لم تعُدْ تتجرأ على الانتفاخ كما ينتفخ الكير، حين تأخذه عزَّةُ النفس والمال والجاه؟ أين أنت الذي كنت تمشي على الأرض التي منها أُخْرِجْتَ، وعلى ظهرها حُمِلْتَ ، وظللتَ
فوقها تجاهر بمعاصيك، وأنت تعلم أنك لا محالة عائد إليها ؟ هل أدركت كم أنت قليلٌ، ومن قلّتك أنك عجزتَ عن فعل ما تريد، ومتى تُريد، وكيف تُريد، بل أصبحتَ طوْعَ وباء قلَّمَ كبرياءك، وحَجّمَ طموحاتِك ومشاريعك، فإذا بالوباء يصدُّك ويُلجِمُك، ويقرَع سمعَك ويُجلجِلُ كيانك، ليَرُدّك إلى مَنْ وَسِعَكَ برحمته – سبحانه-. – أيها الإنسان، ما أضعفَك، ما أَصغَرك، وما ألطَفَ اللطيفَ بك، وما أحلَم الحليمَ بك، حين تعصيه ويستُرك، وتظنّ أنك كلما ازددت معصيةً زادك الله من نعمه، وقد ذكر ابن الجوزي في سِفْرِه” صيد الخاطر”، أن رجلا عاصيا من بني إسرائيل، في لحظة زهوٍ واختيال وارتياب، توجّه إلى السماء، قائلا:” يا ربّ كم أعصيك ولا تُعاقبني: فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان، أَنْ قُلْ له: وكمْ أعاقبُك وأنتَ لا تدري، أما حرمْتُك لذَّةَ طاعتي ومناجاتي”! يا ألله، يا له من عقاب معنوي لا يشعر به العبد الغافل! ألهذا الحدّ يتضاءل الإنسان في زمن الرخاء وهو لا يدري، فكمْ من مُعذَّب قبل الوباء وهو لا يدري؟ أفلا يكون الوباء بشيرَ خير ليستيقظ العبد من نومه، من غفلته، وقد أُثر عن الإمام علي رضي الله عنه، أنه قال:” الناسُ نيامٌ إذا ماتُوا استيقظوا”؟ أفلا يكون من رفْق الله بنا، أنه أراد لنا أن نصحوَ يقينا، فأرسل هذا الوباء، من قبْلِ أن يأتِيَنا يومٌ لا مَرَدّ له من الله، ليقول: أيها الناس، أفيقوا من رقْدتكم، تَخَلّصُوا من غَفْوتكم، تأمّلُوا وانْظُروا، مَنْ حولكم في زمن الوباء، وانظروا مَنْ كان قبلكم، كما قال الله لمن سبقوكم:” قُلُ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا يُومِنُونَ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ الْمُنتَظِرِينَ” يونس101-102. أفَلَيْس الوباءُ رسولَ رحمةٍ لكي لا يظلّ العبدُ سادراً في حاله التي لو عُرضتْ في شريطٍ، ودُعيَ للمشاهدة والحُكم، لأنكر أن يكون هو بَطَلَ هذا العمل، لكنه باليقين هو البطل، ليس لأنه حاز مقوّمات البطولة الزائفة، وإنما لأن البطولة الحقيقية حين يُقبل على ربه نقيَّ السريرة، أبيضَ الصّحيفة، خفيفَ الأوزار ، ثقيلَ الزّاد، يومَها يُدرك أنّ الابتلاء بالوباء وغيرِه في الحياة، ثوابُه أكبرُ منه، كما يقول الإمام الغزالي: “لأنّ مصائب الدنيا طريقٌ إلى ثواب الآخرة، كما يكون الدواءُ الكريه نعمةً في حق المريض، فمَنْ عرف هذه الأمور تُصوِّرَ منه أنْ يَشكرَ على البلايا.”إحياء علوم الدين. أفلا نعلم – إخوتي الكرام- أنّ خطورة الوباء وإن عظُمت، فليست تُوازي المصيبةَ حين يُبتلى المرءُ في دينه؟ وهل كانت المطهّراتُ التي هُرِعنا إليها للوقاية من الوباء، تُكافئ المطهّراتِ الربانيّةَ التي جعلها الباري في متناول العبد: أوّلُها الصلواتُ الخمس التي نُؤدّيها، أو نُهْمِلُها، أو نَجْمعُها. وصَلاتُنا الأسبوعية، هل كنّا – قبل الحجر الصحي- نُواظب عليها، ونسعى إليها في بيوت الله، لكننا – الآن- أدركنا قيمتها، وقد حُرِمْنَاها مع الجماعة. ورمضانُ الذي كنّا نهيِّئُ له مراسيم الاستقبال، بما لذّ وطاب من النّعم المباحة، وكانت أنفُسُ بعضِنا تستقبله على مَضض، لأننا كنّا نتصوّر أنّ رمضان يقطَع لذّاتنا، ويَحُدُّ من شهواتنا، ويَقلِب ليلَنا نهارا، ونهارنا ليلا، ها هو قد اقترب، ولم يتَبَيَّنْ بعدُ، هل يكون رمضانُ كسائر الأعوام، أم سيحرمُنا “الحجر الصحي” منه، رغم أنوفنا، فنظلّ قابعين صائمين صوم العادة، وربما نائمين نهارَنا، فإذا حان وقت الإفطار قمنا متأوهّين متثاقلين إلى مائدة طعام، ليست كموائد الرحمن
السالفة، ثم نصلّي في بيوتنا وحدَنا، دون إخواننا من المؤمنين الذين كنّا نُجالِدُهم الصبرَ على الوقوف بين يدي ربّ كريم، والمنادي ينادي ” كلَّ ليلةٍ: يا باغِيَ الخيرِ هَلُمَّ، ويا باغِيَ الشرِّ أَقصِرْ” النسائي، فنتزاحم في صلاة التراويح، نَبثُّه -سبحانه- همومَنا، ونشكو إليه ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، ونحن الذي اعتدنا في ليالي رمضان على كثير من الحركة، فإذا بالوباء يوقف النشاط، ويفُتّ من الهمّة ويقلّل من العزيمة. فهل نسينا هذه المطهّرات الربانية الثلاثة التي تمحو الخطيئات والهِنات والسيئات، والغفلات، أو ربما لم ننْسَها، بل نحفظها بعقولنا، لكننا ضيّعناها بجَناننا، وفرّطّْنا فيها بأفئدتنا، فظلت عباراتٍ بلا معنى ، وحتى إن استحضرنا معانيَها، تأبى إلا أن تبقى كلماتٍ يلُوكُها اللسان، مع أنها في ميزان العبد مذكّرات ومكفّرات؟ فأي كلمات هذه التي كان يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرويها أبو هريرة رضي الله عنه؟ كان يَقُولُ: “الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ”. مسلم. كلماتٌ قليلات من رسول حريصٍ رؤوف رحيم، أنسَتْنا النفسُ العملَ بها في حياتنا العادية، فكيف بنا الآن وقد حاصرنا الوباء، وأعمتنا الغلواء، وغرَّتْنا الشحناء، حتى جاء الوباء؟ فلْنَلْتَمِسِ النجاةَ، فلن نجد ملجأ من الله إلاّ إلى ربّ الأرض والسماء. هذه خواطر، من وحي كِمَامة ، أمْلتْها ظروف وباء طارئ، نسأل الله –تعالى- أن يُعجّل برفعه عن بلدنا وعن المؤمنين، وعن الأبرياء من الناس أجمعين.
والله من وراء القصد.