عالم ما بعد كورونا
د.محمد بالدوان
كتبت سنة 2017 مقالة في موضوع “عالم ما بعد اوباما”، متحسرا على الفرص السياسية التي اهدرت في عهده، ومنذرا بسياسات تأتي بعدها عنوانها حدة الصراعات والازمات. وما أن اعتلى ترامب كرسي البيت الابيض، بدأت السياسات الدولية تشهد تحولا غير مسبوق، من ضغط دولي لإقرار حل شامل وعادل في فلسطين إلى توقيع اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والترويج لصفقة القرن، ومن اتفاق نووي مع ايران الى دق طبول الحرب عليها من جديد، ومن عالم ينعم بالتجارة الحرة الى عالم يختنق برفع الرسوم الجمركية.
لكن يبدو أن سياسات تأجيج الصراعات وتوليد الأزمات لم تؤت أكلها المنشود بعد قطع العالم اشواطا في العلاقات القائمة على تعدد الاقطاب، اذ صار مستحيلا العود إلى ازهى فترات القطبية الواحدة في تسعينات القرن الماضي.
في هذا السياق ستطفو ازمة كورونا التي أخذت بعدا عالميا، بعد اعلان اول حالة اصابة في أوهان الصينية يوم 11 دجنبر 2019، ثم ظهرت تفسيرات لظهور الفيروس اهمها ارتباطه بالخفافيش، قبل أن ينطلق تبادل الاتهامات بشأن انتشاره بين بكين وواشنطن منصف مارس 2020. وأيا كان مصدر الفيروس وكيف ما كانت آفاق القضاء عليه، فإن في الكواليس استراتيجيات تشتغل لتوظيف تداعياته الصحية المؤكدة في الاجندات السياسية التي كانت قائمة قبل جائحة كورونا.
تأتي في المقام الاول الولايات المتحدة، المستفيد الاول من الجائحة، ولن يشوش على استفادتها كثرة المصابين عندها لأن لها امكانيات كافية لتجاوزها، فهي طالما اسست سياساتها، بقيادة الجمهوريين، على التأزيم الاقتصادي والتثوير الاجتماعي والاضطراب السياسي لخلق مناخ يسهّل سيطرتها على الانظمة السياسية والمسالك الاقتصادية في العالم.
تتبعها الصين، إذ قبل كورونا كانت قوتها الاقتصادية مهددة بالمناخ الذي سعت إلى تعميمه الولايات المتحدة والمتمثل برفع الرسوم الجمركية، وبعد مناوراتها القصيرة مع الولايات المتحدة كثفت الجلوس مع ترامب، حتى ان الاخير قال في احدى خرجاته الإعلامية ليس على الصين سوى أن ترضخ، فانتهت المناورات بإبرام اتفاق يضع نهاية للحرب التجارية في يناير 2020.
إن الحدث الأخير يشي بأن الطرفين اتفقا على ملفات أخرى تشغل بال السياسة الخارجية الامريكية، وبلورا خطة ما، قبل انتشار فيروس كوفيد19، وما تراشقهما الاعلامي الا تضليل اعلامي أو صراع على جزئيات الاستفادة من عالم ما بعد كورونا، والراجح ايضا أن سعي الصين لمساعدة أوروبا المتضرر الاكبر، يخفي عروضا سياسية قد تقبلها أروبا من الصين ولا تقبلها من الولايات المتحدة، وما يعزز هذا المسار انطلاق حملة اعلامية واسعة تعبر عن فقدان الثقة في الاتحاد الاوروبي الذي ظل طرفا متوازنا في تسوية صراعات الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية.
استحضارا لهذه المتغيرات ذهب بعض الاستراتيجيين إلى أن بعد ادراك الولايات المتحدة صعوبة ترويض العالم على اختياراتها السياسية، ركزت على الصين باعتبارها القوة الاقتصادية الاولى حاليا، وبمعيتها يتم بسط النفوذ على العالم وفقا لأجندة سياسية محسوبة.
وإذا كان العالم سيتعافى من جائحة كورونا في أقرب الآجال، فإن اقتصاد الدول سيظل مريضا لوقت أطول، وهنا يتعين على القوى الوطنية والتحررية بعث قيم التضامن، وانهاء الريع، وتوظيف رؤوس الاموال لتفادي الانهيار الاقتصادي، وتكثيف التماسك الاجتماعي، وتعزيز الثقة السياسية، للحفاظ على سيادة القرار الوطني في مواجهة تحديات عالم ما بعد كورونا.