فيروس كورونا الحال والمآل
محمد بوبكري / ليفركوزن ألمانيا / وجدة سيتي
في هذه الكلمات سأحاول أن أتساءل وأجيب عن بعض الأسئلة الحتمية التي تفرض نفسها كما فرض هذا الفيروس نفسه على البشرية كلها.
ما هو مصير البشرية؟ ما مستقبلها؟ ماهي الأحداث والوقائع التي ستعرفها بعد هذه النازلة؟ وكيف ستؤول حركة التاريخ وصيرورة الدفع والتدافع؟ هل هناك آمال وآفاق وتطلعات؟ أم فقط تربصات وترقبات وحذر؟ هل ما يعرفه الناس اليوم ويعيشونه له علاقة بما يصطلح عليه “الحتميات التاريخية”؟ التي هي صيرورة طبيعية للحركة التاريخية المقيدة بسنن وقوانين ونواميس، تجعلها ذات صيرورة متجددة، وتنأى بنفسها عن الصدفة والاعتباطية، لأنها ليست خارجة عن إرادة الإنسان ووعيه وفاعليته، ولكونها جرت وتجري بين يديه، وليس من فوق رأسه؟ أم هو تحد لهذا الإنسان الذي أظهر تجبره وعتوه؟ فتوقفت نشاطاته، وأُسْكِنت حركاته، وأغلقت مصانعه وشركاته، وسدت مطاراته، وألغيت رحلاته، وانهارت بورصاته، وصدت في وجهه كنائسه وبيعه ومساجده وصلواته، وتغيرت في التعليم مؤسساته وجامعاته، وإن شئت قلت شلت حركة حياته…؟
هذه الأسئلة راودتني ولازمتني في كل لحظة من لحظاتي، وبدأت أتساءل وأنا صاحب الثقافة الدينية، والتربية الإسلامية، واستوقفتني آيات قرآنية، فجُلت النظر فيها، واستحضرت أفكارا لكتاب وشخصيات تعرف ما تقول، وتفقه ما تخط، وتذكرت مقولات لدكاترة وأساتذة ومحاضرين، فعدت أقرأ من جديد في كتاب الله تعالى تارة، وفي نهاية التاريخ، وصدام الحضارات تارة اخرى١، وأوقفت بعض أشغالي المهمة ظنا مني أن هذا أهم.
لنستقرئ التاريخ من جديد
مع انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية القرن الماضي، وبالضبط عام ١٩٩١، وتفكك ولاياته وانفصالها عن المركز-موسكو- كتب فوكوياما كتابا شهيرا تحت عنوان :”نهاية التاريخ” معتقدا أن الصراع انتهى بانتصار الحضارة الغربية الليبرالية، وهيمنتها على الحركة التاريخية ومسارها المستقبلي، وأن “الديموقراطية الغربية هي نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ”٢.غير انه لم يلبث الا قليلا فيرد عليه أستاذه صمويل هينتغتن بكتابه “صدام الحضارات”، والذي قال فيه: إن الصراع يبدأ الآن وبقوة، لكنه صراع القيم والأفكار، صراع المعتقدات والثقافات، صراع التقاليد والعادات، صراع المبادئ والأخلاق. فهو صراع حضاري، بآلياته الحضارية.٣
رأى هينتنغتن أن هناك ثماني حضارات مقابل الحضارة الغربية الليبرالية؛ وأهم هذه الحضارات: الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية، ورأى ضرورة الكشف عن مكامن القوة في الحضارتين معا.
فخلص الى مسالتين اثنتين ليستا في صالح الحضارة الغربية.
المسالة الأولى تكمن في: الخشية من اتحاد الحضارة الإسلامية، المكونة من الحضارات الثلاث: الحضارة الفارسية، والحضارة التركية، والحضارة العربية. وبالتالي انتهى الى ان أي نزاع بين الحضارات الثلاث سيضعف الحضارة الكبرى وهي الحضارة الإسلامية؛ وهذا الذي حصل.
المسالة الثانية تكمن في: الخشية من تقارب الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية، مما يقوي جبهتهما في ميدان التحدي والصراع، للوقوف في وجه الحضارة الغربية؛ ولذلك يقول: “مزاعم الغرب في العالمية تضعه بشكل متزايد في صراع مع الحضارات الأخرى، واخطرها مع الإسلام والصين “٤
إن كتاب نهاية التاريخ، وصدام الحضارات لم يأت بهما الرجلان من فراغ، وإنما هما نتيجة بحوث ودراسات وأطروحات، خصوصا حينما نعرف أن هنتنغتن ليس باحثا او كاتبا عاديا، فهو مسؤول كبير في الحكومة الأمريكية، و أحد المفكرين الذين يرسمون استراتيجيات العلاقات الخارجية. وقبلهما تحدث هيجل في فلسفته، وكارل ماركس، وماكس فيبر، وتوينبي، وإشبينجلر، وغيرهم من أعلام الغرب عن الصراع الحضاري والتاريخي، ومسالة البقاء وغير ذلك، كل هذا يؤكد أن ما يعيشه الناس الآن، وما سيعرفونه غدا إنما هو تدخل من هذا الانسان -بوعي وإرادة- في بنية الواقع القائم. وهذا لا يعني تحد لإرادة الله تعالى وقدره؛ بل هي سنته التي وهبها لهذا الانسان المستخلف في الأرض، لتسير الحياة وتتجدد، وإن كان هذا الانسان يعمل بهذه السنن وفق غريزته، وليس وفق فطرته. إذْ لو عمل بهذه السنن وفق الفطرة الإلهية ما أفسد بل أصلح وسار على الإصلاح المأمور به فطريا من قِبَلِ خالقه، “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” سورة الأعراف: 54
والمتأمل في الكون كله بمجراته وأقماره، وشموسه ونجومه وأنعامه ودوابه، وأرضه وسمائه، وجباله وبحاره، ونباته وأشجاره، الا وهو خاضع لهذا الخالق جل وعلا، إلا هذا الانسان، الذي يشكل الاستثناء. “أَلمْ ترَ أنّ اللهَ يَسْجُدُ مَنْ في السماوات ومن في الأرضِ والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس” سورة الحج: 18. والسجود ليس معناه إلا الخضوع والرضوخ والاستسلام والانقياد وإن شئت قلت هو مطلق الطاعة.
تصنيف الناس زمن كورونا
المتأمل في أصناف الناس وتعاملهم مع فيروس كوفيد 19 (19 covid) حينما نزل بساحتهم، يجدهم أنواعا وأصنافاً، بل أتمثلهم في تقسيم الإمام ابن رشد رحمه حول خطاب الله تعالى، فجعل الناس ثلاثة أصناف:
العامة: وهم الخطابيون من عامة الناس، يغلب عليهم طابع الترغيب والترهيب.
والخاصة: وهم الجدليون او الفلاسفة، الذين يغلب عليهم طابع الجدل وكثرة السؤال.
وخاصة الخاصةً: وهم البرهانيون او العلماء، الذين يغلب عليهم طابع الحجة والحكمة. وهذه الأصناف الثلاثة، عند ابن رشد تجمعهم الآية القرآنية: “ادع الى سبيل ربك بالحكمة (الصنف الثالث) والموعظة الحسنة (الصنف الأول) وجادلهم (الصنف الثاني) بالتي هي أحسن” سورة النحل:125 وهذا هو حال الناس مع هذا الفيروس.
عامة الناس الذين غلب على بعضهم طابع النكت والفيديوهات المضحكة، خصوصا زمن الحجر الصحي، وغلب على بعضهم طابع التضرع واللجإِ الى اللهِ سبحانه والاصطلاح معه، بدافع الخوف، والمطالبة بكثرة الدعاء والاستغفار، والابتهاج أحيانا برفع الأذان في بعض الدول المسيحية، والإعجاب بالفيديوهات وغير ذلك.
أما الخاصة، وهم فئة المثقفين والإعلاميين والباحثين، وهم في حقيقة الواقع فئات وليست فئة واحدة.
* فئة انطلقت تكتب كتابات من منطلق تخصصها، الديني والعقدي، أو الاجتماعي، او الاقتصادي، او النفسي.
* فئة انطلقت تكتب وتحلل من منطلق القلم الصحفي الذي يعتمد على ما تكتبه الفئة السابقة.
* وفئة تكتب فقط لتعايش الحدث، وليس في كتاباتها إلا الزبد الذي يذهب جفاءً.
* وفئة رَفعت أقلامَها وأَلجمت لسانَها، متريثةً الى أن ينجلي الغبار، وتَسْتَبِينَ الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لأن الخطبَ جللٌ. وهذا هو طبع العقلاء.
أما خاصة الخاص الخاصة، وهم فئة السياسيين والمخططين والمنظرين، الذين يقفون اليوم وقفة البحث والتنظير، والتحكم والسلطوية، ولمن يكون الأمر بعد زمن كورونا؟ وكيف يكون؟ وما مصير الشعوب؟ وحال كبريات الشركات العالمية والاقتصادات، إذ ليس طبيعيا أن يسكت الساسة عن اقتصاداتهم وأموالهم، والمال عصب الحياة.
السنن الحتمية
أول أيام هذا الفايروس، كتبت على حائطي الفيسبوكي، آية من سورة الجن، وقعت في ذهني وأنا أتأمل واقع الناس، هذه الآية هي قول الله تعالى:”أشرٌّ أُريدَ بمَن في الأرضِ أم أراد بهم ربهم رشداً”، بعد ذلك صرت بين الفينة والأخرى، حين اضطر الى الخروج، أتدبر المدينة كيف خلت من البشر الذي طغى وتجبر، فاستوقفتني آية من سورة الأنبياء:”فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا الى ما اترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون” أية ١٢-١٣
من خلال هذه الآيات، وما قرأته من كتاب نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وما استحضرته من معلومات وأفكار سابقة خلال المسيرة العلمية، وبعض المحاضرات واللقاءات العلمية في أوروبا مع بعض المفكرين والدارسين، أمثال الدكتور خالد حاجي، والدكتور مصطفى المرابط، ودكتور الرياضيات محمد الخمسي٥ وغيرهم ، أكاد أقول: إن قوانين المجتمع وما ستؤول اليه الأحداث والوقائع في المستقبل القريب، وما سينتهي اليه الصراع في العالم، وطبيعة التحديات الدولية، والتنافس العالمي بين القوى والإرادات، وسقوط دول ونشوء أخرى، وبروز اقتصادات بدل اقتصادات، وأفكار محل أفكار، كل هذا تتحكم فيه سنن الله تعالى التاريخية الحتمية، وهي المتمثلة في:
-أن الغلبة مستقبلا لا تكون بالعنف والقوة الخشنة، وإنما بالعلم والبرهان والقوة الناعمة، “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهِم حتى يتبين لهم أنه الحق” سورة فصلت: ” ٥٣ وهذا لن يكون سهلا ويسيرا، بل لابد من تضحيات وتحمل للبأساء والضراء.
نهاية الفتنة، وانجلاء الحقيقة، إذ الفتنة ما تمتحن به النفوس، وتكون لامحالة مما يشق عليها، وما تخلقه من التباس الأمور، واختفاء الحق الملبوس بالباطل، فالناس اليوم يعيشون فتنة لا يستطيعون تمييز الحق من الباطل، أهو فيروس قاتل؟ أم غاز هالك؟ هل هو انتقام إلهي؟ أم فعل انساني؟ فهذه الفتن “إذا أقبلت شَبَّهت، وإذا أدبرت نبهت، يُنْكَرْنَ مُقْبِلات، ويُعْرَفْنَ مدبرات”٦
-تأكيد ضعف المخلوق، رغم استعلائه، تمثله الآية ٦٥من سورة الانعام “قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم او من تحت أرجلكم او يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم باس بعض، انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون” وذلك بسبب الفساد والتجبر والعتو في الأرض، وعدم العودِ الى فاطر الكون ومدبره.
-سقوط وانهيار الحضارات البائسة، من السنن الربانية الحتمية عبر التاريخ أن أي حضارة إنسانية ركبها اليأس والقنوط من محاولات الإصلاح، واسود أفقها فإن قوسها يصير الى النزول والسقوط، وبالتالي الانهيار والزوال. وقد اعتبر احد المفكر الألماني -اسوالد إشبنغلر- في كتابه تدهور الحضارة الغربية، أن الحضارة كائن حي لابد ان يمر في مراحل العمر المختلفة: الصبا والطفولة والشباب والكهولة ثم الشيخوخة، والحضارة تصل الى مرحلة الشيخوخة، حينما تتحول الى مدنية .لأن الحضارة تقوم على الصيرورة (Becoming) التي تعطي الإبداع، بينما المدنية تقوم على الصير(Become) وبذلك تتحول الصيرورة الى صير، فينتهي الإبداع والعطاء والاستمرار…حينما يختفي الضمير الحي، والروح المبدعة، والعقل المعطاء، والقيم الفعالة السامية، ولا تبقى الا قيم المادة والمصالح الاقتصادية، ولا تسود الا لغة القوة والعسكر.٧ ويرى ان حيوية الانسان الحضاري تتجه في مجراها الى الباطن، بينما تتجه حيوية الانسان المدني الى الظاهر٨.
خاتمة
خلاصة الكلام، هو أن المستقبل لابد ان يقع، وستؤول اليه البشرية، وحتم وواجب على إنسان المرحلة أن يتحمل ما يمر به من محن وآلام وبأساء وضراء، لأن قوانين الحركة الاجتماعية، وسنن التاريخ فرضت عليه أن ينتظر المآل الذي سترسو عليه سفينة العالم الماخرة في بحر التيارات المتلاطمة، والصراعات المحتدمة، رغم الآلام والمصائب والمصاعب.
————————
الهوامش:
١-فوكوياما: نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص٨، ترجمة حسين احمد أمين، القاهرة،مركز الأهرام ١٩٩٣
٢- المرجع نفسه
٣-صمويل هنتنغتن: صدام الحضارات، ترجمة طلعت الشايب، تقديم صلاح قانصوه، ط ٢، القاهرة ١٩٩٩
٤- المرجع نفسه
٥-ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ٧/٤٤، دار احياء الكتب العربية١٩٦٥
٦-خالد حاجي أحد المفكرين والكتاب والباحثين المغاربة، له عدة مؤلفات بالعربية والفرنسية والإنجليزية
*مصطفى المرابط ، رئيس مركز مغارب وهو من اشهر المفكرين المغاربة بطروحاته وإبداعاته.
*محمد الخومسي، رئيس مركز نماء، مفكر وباحث بارز في الجانب الفكري بمنهج علم الرياضيات،
٧-اسوالد اشبنغلر: تدهور الحضارة الغربية،١/١٥ترجمة احمد الشيباني، بيروت دار مكتبة الحياة
٨- المرجع نفسه، ١/٩٧
بقلم الباحث محمد بوبكري
بتاريخ 12 أبريل 2020
ليفركوزن ألمانيا