بين مدرسة كورونا ومدرسة رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
بين مدرسة كورونا ومدرسة رمضان
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
يستشرف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، هذا العام، حلول شهر رمضان بطلعته البهية، وإشراقته السنية، وهم في غم وهم، ران على قلوب الجميع، بسبب بلاء كورونا الذي عم الأرجاء، واكفهرت لسحابته أطراف الأرض والسماء.
شاءت الأقدار الإلهية، أن يحل هذا الضيف الكريم بأرض الله، والأوضاع في أوطان المسلمين غير الأوضاع التي كانوا يستقبلونه فيها منذ أعوام مديدة. كانوا يستقبلونه وهم في تجارتهم ومعايشهم منهمكون ، وفي سوحهم يركضون، وكانوا في غالب أمرهم، عندما تستشرفهم نفحاته الزكية، وتلامس وجوههم نسماته الندية، يهرعون إلى المتاجر والأسواق، ليملأوا جرابهم بما سيحتاجون إليه من طعام وإدام- كل حسب وسعه – وربما كان من يعدون له عدة القلوب والأرواح، أقل بكثير ممن يعدون له عدة الهياكل والأشباح.
لكن المسلمين سيدخلون اليوم رحاب شهر الصيام، في وضع نفسي مأزوم، نتيجة ما خلفه فيروس كورونا في صفوفهم من جراح وآلام، وما هدهم به من سيء الأسقام، فراحوا يجأرون إلى العزيز العلام، أن يدرك برحمته الأرواح والأجسام.
سيدخلون مضمار هذا الشهر الكريم، وقد انفرطت الجموع، وأقفرت الربوع، سيدخلونه، ووضعهم الغالب العام، هو الانحجار في البيوت والخيام، وكف الأيادي والأقدام، عسى أن تخطئهم جحافل كورونا، فلا تصيبهم في مقتل، وقد فوقت حمر السهام.
سيدخل المسلمون أجواء هذا الشهر العظيم، وقد أبعدوا عن فضاءات المساجد، فلقد خلت – وواأسفا – منذ شهر ونيف، من كل عالم وعابد، فكيف السبيل يا من له كل الثناء والمحامد، كيف السبيل يا دليل كل راغب وقاصد، كيف السبيل يا ولي كل راكع وساجد، يا عالما بكل غائب وشاهد، يا قيوم السموات والأرض، يا خبيرا بكل شارد ووارد، كيف السبيل يا عظيم يا جليل، إلى الفكاك من بلائك الوبيل، كيف السبيل يا ملاذ كل خائف ذليل، كيف السبيل يا شافي المكروب والعليل، يا من بيده أزمة الأمور، يا من له الحساب والنشور، ومن إليه يفزع المظلوم والمغدور، كيف سبيلنا إلى جبر الكسور؟
هذا هو لسان حال كل المسلمين، وهم يلجون حمى خير الشهور، يلجونه بنفسية الخائف الكسير، الذي لا زاد له إلا الإقرار بجرمه الكبير، بنفسية المجدب الفقير، الذي ليس في حوزته نقير أو قطمير، وكلهم يرجو عطاء الواهب القدير.
يدخل المسلمون في حضرة الله الرءوف الرحيم، وهم يعلمون علم اليقين، أن لهم ربا يغفر الذنوب، ولو كانت كزبد البحر، يعلمون أن لهم ربا رؤوفا يقول فيما يروي عنه رسوله الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم:” يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي وصححه ابن القيم وحسنه الألباني.).
فهل استغفر- يا ترى – العباد؟ هل وفوا بشرط الشروط الذي به يدخل في حماه كل مستغفر أواب؟ عدم الإشراك ؟ أم ترى العباد قد تنصلوا من الشرط تنصل البهائم من الحبال والأوتاد؟ فراحوا يسدرون إما في الغي والطغيان، ويتنكبون سبيل الحق والرشاد؟
وإما في الخضوع والخنوع لكل ظالم جبان؟ وصم الجوارح والآذان، عن قول الواهب المنان:” إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ” ( النساء: 97).
وعن قوله سبحانه وتعالى:” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( النور: 55).
فهل وفى المسلمون بشرط الاستخلاف يا ترى؟ كلا ثم كلا.
لكأني بكورونا، قد سلطها رب العباد على العباد، للاختبار والتمحيص، ليميز الله الخبيث من الطيب، من أجل أن يعرف الناس أقدارهم وأحجامهم الحقيقية، باعتبارهم عبيدا ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، وأن الحول والقوة لله الواحد القهار.
لقد أعطى الله عز وجل فرصة ذهبية سانحة للمستضعفين، لجموع المسلمين المهيضة الجناح، بإذلال المستكبرين وكشف عوارهم، حتى يعرفوا أنهم لا يعدون أن يكونوا نمورا من ورق، ولا حقيقة لما يتبجحون به من قوة وصولة، وأنهم عند ملاقاة أولياء الله، ما يكون لهم أبدا أن يصمدوا ولو لجولة. ألم يقل القاهر الجبار عز جاره وجل جلاله:” لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (آل عمران: 111). وقوله جل جلاله: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( محمد: 7). فهل نصر المسلمون الله ؟ كلا، ثم كلا، فحاشى الله أن يخلف وعده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
لقد سمعت أن مما ورد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من بعض التعليقات مما يرد مورد الإحماض و التنكيت، أن بعضهم قال: بأن الإنس قد صفدوا هذا العام قبل أن يصفد الجن. وقد استحسنت هذا المعنى ورأيته مطابقا للواقع. ألم يمعن الناس في المعاصي، ويغرقوا في لجة الفسوق والفجور؟ ألم يقع التطاول السافر على حرمات الله وأحكامه من قبل من احترفوا الزندقة تحت لافتات ومصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان؟ ومن المفارقات العجيبة أن شياطين الجن تخنس عندما يستعاذ بالله منها، بينما شياطين الإنس، مهما ألقمتها من أحجار، فإنها تظل تكابر وتعاند، ولا تمل من الإصرار، وقلما تلوذ بالفرار، وإن وقع ولاذت، فلتعود بليل أو نهار. أو لم يأتك خبر هؤلاء الفجار، وقد عاودوا الدفاع عن معلني الإفطار؟ فهل بعد هذا الاستهتار من استهتار؟
إن من الأكيد أن كورونا قد كبدتنا كثيرا من الخسائر في الأرواح والأموال، ونشرت في ربوعنا ما لا يحصى من أشكال المعاناة والأكدار، ونالت من الصغار والكبار، ولكنها سنة الله في الابتلاء، فإنها لا تستثني من طريقها الأبرار في جميع الأحوال:”
فالله سبحانه وتعالى يقول:” وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” : ( الأنفال:25).
وعن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي ﷺ دخل عليها غضبان يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بين أصبعيه السباحة والوسطى فقالت له زينب رضي الله عنها: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث!
وكم هو بالغ القسوة صرفنا عن بيوت الله في هذه السنة، وحرماننا من بهجة التراويح، وشهودها في الأماسي والأسحار، كم هو بالغ القسوة أن يشمت فينا شانئو المساجد ممن لا يخفون كراهيتهم لبيوت الله الواحد القهار، ولروادها الأخيار.
ولكن حكمة الله بالغة، فهو القائل سبحانه:» وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ: ( البقرة: 216) .
إن الذين صفت قلوبهم وخلصت سرائرهم يفهمون عن الله ما يتلقونه من رسائل وعظات، ويستوعبون ما يلقى إليهم من إشارات وآيات، فيسارعون إلى تطهير النفوس وتجديد الذوات، فيعبرون إلى بر الأمان، ويسعون بكل صدق وإخلاص، إلى تدارك ما فات، والإقلاع عن الآفات.
لا ينكر المكابرون أن رمضان قد مر بنا أعواما مديدة ، ولكن وواأسفا، لقد ظللنا نراوح مكاننا، ولطالما انطبق علينا معنى السقوط في ما نهانا الله عز وجل عن السقوط فيه، عندما قال جل جلاله:” وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( النحل: 92).
إن إسلامنا من مدرسة كورونا إلى مدرسة رمضان هذا العام، هو آية من الآيات، عسى أن نفهم معناه وندرك مغزاه، ونخلص في سيرنا إلى من هو ” فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ” الزخرف: 84) وصدق الله القائل:” وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ :” ( يوسف :21).
وجدة في 23 – أبريل، 2020