القول الصراح، في الرد على مقالة ” رمضان مصباح”، أو الصخر الجلمود،في الجواب على مقال” إلى أي مغرب سنعود؟
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
القول الصراح، في الرد على مقالة ” رمضان مصباح”، أو الصخر الجلمود،في الجواب على مقال” إلى أي مغرب سنعود؟
تمهيد: نشر السيد رمضان مصباح الإدريسي، على جريدة وجدة سيتي الإلكترونية الغراء، مقالا تحت عنوان” إلى أي مغرب سنعود”؟ للإدلاء بدلوه في ملابسات وباء كورونا،ومخلفاته وآثاره على الدولة والمجتمع والناس،في الوطن المغربي العزيز، وأورد فيه منكرا من القول وزورا، في حق الدعاء، كما أدلى بأطروحات مجانبة للصواب في كثير مما ساقه في مقاله، ولذا وجب الرد عليه، إحقاقا للحق، ودفاعا عن أمور معلومة من الدين بالضرورة، وإني إذ أتجرد لهذه المهمة، تعظيما لشعائر الله جل جلاله، وذودا عن حرماته، أسأل الله عز وجل أن يلهمني الصواب، ويجنبني الزيغ والزلل، وأدعو صاحب المقال، أن يستشعر جلال الشهر الكريم الذي يظلنا، شهر رمضان الأبرك، ويعيد النظر في مقالته، ويؤوب إلى الحق، ويلزم جانب الصواب.
الرد على المقال:
افتتح صاحب المقال كلامه بإصدار حكم وتقرير عريضين في صيغة من الجزم، تدل على قدر مفرط من الاعتداد والغرور، وكأنه يصدر في كلامه عن علم يقيني لا يشوبه ارتياب، وكأنه وهو يعلن ذلك الحكم أو القرار، ينظر إلى لوحة أو خريطة نصب عينيه.
يقول:” إن الجائحة ،بوطننا وبالعالم ،إلى انحصار،ما في ذك شك؛وقد تؤول حتى إلى زوال تام في وجود المصل الزؤام.
وكأن صاحب المقال قد استجمع علم الدنيا والآخرة، وأحاط بما سيقع في مستقبل الزمان، ونحن نسائله، من أين اكتسب هذا العلم، ومن الذي لقنه إياه؟ وإذا كان يملك كل هذه القدرات الخارقة على استشراف ما سيأتي به الغيب، فهلا حدد للناس التاريخ الذي سينحسر(وليس “ينحصر” لأنها لا تؤدي المعنى الذي أراده صاحب التنبؤ) فيه هذا الوباء؟، وما دام يمثل كل هذه الطاقة الهائلة، ويختزن كل هذه المواهب العجيبة في الكشف والاستشراف، فلم تأخر إلى هذا الوقت، عن الإدلاء بهذه الحقيقة، التي كان الإدلاء بها في وقت مبكر، كفيلا ببعث الأمل في نفوس الناس، وإدخال السعادة عليهم، وهم يعيشون في ضيق من أمرهم. ولم تقاعس عن وضع هذا العلم النافع رهن إشارة المسئولين الذين يسابقون الزمن ويجالدون المحن، من أجل الوصول إلى بر الأمان.؟
ثم يشفع صاحب مقال:”إلى أي مغرب سنعود”؟ تقريره الجازم القاطع، ” ما في ذلك شك”، بقوله:” لكن هذا الخلاص لن يكون بالدعاء الديني – أي دين – الكسول والخالي من عناء البحث العلمي ،وهو من تفاصيل « اقرأ » التي سبقت « ادع”
فهو ينفي أن يكون الدعاء وسيلة للخلاص من البلاء، وينعته بالديني، إمعانا في الانتقاص والاستخفاف، وكأن هناك دعاء غير ديني، وكأن اصطباغ الدعاء بصبغة الدين، أو انتسابه للدين أمر مشين، ثم ينعته ب” الكسول”، وبالخلو من عناء البحث. وإن استلهام أبسط مبادئ المنطق السديد والفكر السليم، يدلك على تهافت الطريقة التي طرح بها صاحب المقال قضيته وإشكاله، مما يكشف لنا زيف هذا ” الإشكال” وأنه لا يعدو أن يكون إشكالا داخل دماغه، الذي يشكو من التباس الفهم واختلاط المفاهيم. هذا ناهيك عن لهجة الغرور والانتفاخ التي غلفت دعواه.
ولبيان ذلك أقول لصاحب المقال:
أولا: إن تطاولك على الدعاء، وتجريدك له من أي نفع أو جدوى، يعتبر جرأة كبيرة على الله جل جلاله، ومحاولة للتهوين من أساس عظيم من أسس الدين، وشعيرة كبرى من شعائره، وباب واسع يدخل العباد من خلاله إلى حضرة من بيده ملكوت السموات والأرض، من قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، من “إذا قال للشيء كن فيكون”.
ألم تعلم أيها الإدريسي، من خلال دراستك لعلوم الشريعة، أن الله عز وجل يرغب عباده في التوجه إليه جل جلاله بالدعاء، في مواضيع عديدة من كتابه العزيز، وفي سياقات متنوعة،منها قوله تعالى:” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” (البقرة: 186)، وقوله تعالي:” قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ” ( الأعراف:29)، وقوله تعالى:” وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ” ( الأعراف: 56)، وقوله تعالى:” وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” ( الأعراف: 180)، وقوله تعالى:” وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ” ( يونس: 106). وقوله تعالى:” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ” ( إبراهيم: 39)، وقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا” ( الإسراء: 110)، وقوله تعالى:” قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا” ( مريم: 4)، وقال تعالى : ” وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا”( مريم: 48)، وقال سبحانه:” قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا” ( الفرقان: 77).
فها أنت ترى يا إدريسي، كيف أن هذه الآيات البينات تعطيك بيانا شافيا حول موضوع الدعاء، من حيث حقيقته ومشروعيته ووجوبه، وكون الله جل جلاله قريبا ممن دعاه، بشرط الاستجابة له والإيمان به، وإخلاص الدين له، واستشعار حقيقة العودة إلى حضرته سبحانه وتعالى، ومن حيث إدراك ضرورة النأي عن الفساد في الأرض بعد إصلاحها، واستشعار الخوف منه سبحانه وتعالى، والطمع في رحمته، شريطة التحلي بصفة الإحسان، ومن حيث الدلالة على كيفية الدعاء، والأسماء التي بها يكون، ومن حيث خطورة دعاء من ليس من شأنه الضر والنفع، وأن الذي يدعو الله مراعيا شروط الدعاء، ما يكون له أن يقع عرضة للشقاء أبدا. وأن الله عز وجل يعرض عمن أعرض عن دعائه.
وألم تذكر أيها الإدريسي ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة حول حقيقة الدعاء، باعتباره هو العبادة، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ».
فهل يسعك، بعد كل هذا البيان، أن تنكر خطورة شأن الدعاء في البناء العقدي لدين الإسلام، فما ظنك بما يشكل جوهر الصلة بين العبد ومولاه، والذي بدونه لا يمكن الحديث عن شيء اسمه العبادة، وهل تعتقد أن الإنسان بدون عبادة صحيحة وثيقة يمكن أن يكون له وجود صحيح، وموقع ثابت في هذا الكون المترامي الأطراف الواسع المدى؟ ألن يكون سوى ذرة تائهة في صحراء الحياة، معرضة للضياع والاندثار؟ استمع وأنصت إلى قول الواحد الديان:” وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ” (الحج: 31)، والإشراك بالله هو كل توجه لما سوى الله بالتقديس، وهو توجه يسلك أصحابه في عداد المقترفين لظلم عظيم،كما هو منطوق قوله تعالى:” وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ” ( لقمان: 13).
لقد كتب الفيلسوف البريطاني كريسي موريسون كتابا قيما بعنوان” الإنسان لا يقف وحده”، وترجم إلى العربية تحت عنوان” العلم يدعو إلى الإيمان”، ولقد كتبه في معرض الرد على الفيلسوف البريطاني الملحد، جوليان هكسلي، ونقض أطروحة كتابه الذي عنونه بعنوان:” الإنسان يقف وحده”، وإبطال حججه الواهية التي لا تستند إلا إلى الهوى والفراغ. وخليق بالشباب أن يطالعوا هذا الكتاب، من باب التمرس على الفكر الناضج والحجاج المتين.
ثانيا: إن وصفك للدعاء بالكسول ينطوي على احتقار للدعاء، باعتباره جوهر العبادة، وباعتباره مما أمر الله به عباده، واحتقار لكل من يدعو ربه رغبا ورهبا، ويسأله مآربه وحاجاته، باعتباره ربا يقضي الحاجات، ويفرج الكربات، لأن بيده مقاليد السموات والأرض، وخزائنه لا تنفد. وإذا جاز أن ينسب الكسل للإنسان، لسبب من الأسباب، فلا يجوز أن ينسب للدعاء، فالدعاء، قد يمارسه كسول لا يأخذ بالأسباب التي أمر بها مسبب الأسباب، وقد يمارسه من تميز باليقظة وعلو الهمة والأخذ بما أمر به من بالأسباب، دون أن يحط بثقل تفكيره وثقته على تلك الأسباب، وإنما على من خلق الأسباب، علما بأن الأخذ بالأسباب، هو في عرف عقيدة الإسلام، داخل في مفهوم العبادة، لأنه مأمور به، وأن النكوص عن التماس الأسباب، يعتبر إخلالا بينا بأمر من أوامر الله عز وجل.
ثالثا: إن الذي أسقط صاحب المقال في هذا الخطأ الشنيع، هو خلطه بين الدعاء المأمور به شرعا، والذي لا يمكن أن يقوم التدين بدونه، لأنه جوهر أصيل فيه، وبين الجهد العلمي الذي يأمر به الشرع باعتباره وجها بارزا من وجوه العبادة، إلى جانب الكدح والعمل، بل إن طلب العلم، والمرابطة في ثغوره المتعددة والمتنوعة، هو وجه من وجوه الكدح التي ترفع مقام صاحبها عند الله عز وجل، مصداقا لقوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” ( المجادلة: 11)، كما أن المرابطة في محاريب العلم تباركها كائنات الأرض والسماء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” عن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال سمعت رَسُول اللَّهِ ﷺ يقول: (من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل اللَّه له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ.
فالدعاء شيء، وطلب العلم شيء آخر، على مستوى حقيقة وهوية وكيان كل واحد منهما، أما العلاقة بينهما فقائمة من حيث إن طالب العلم في الإسلام- مثله في ذلك مثل من يسعى في أي مجال من مجالات الحياة وإعمار الأرض- يسأل الله عز وجل العون والسداد والبركة والصدق والإخلاص، وهو يسعى في طريق التعلم والبحث، لأنه من دون عون الله قد يضل، وقد تداهمه الأهواء، وقد يداخله العجب والرياء، وقد يشط به سعيه في مختلف الدروب والأنحاء.
وهنا آتيك أيها الإدريسي لأوضح لك معقد العلاقة بين “اقرأ” وبين “ادع”، التي التبست عليك أيضا في معرض مقالك الذي ” أرقك” فيه السؤال ” إلى أي مغرب سنعود؟ فالعلاقة واضحة كل الوضوح، ولا إشكال ولا تعقيد في مسألة البدء بهذه أو تلك، فكلاهما مطلوب، فلا مانع أن يسبق الدعاء عملية الانطلاق في طلب العلم، أو في جهد البحث العلمي للكشف عن السنن التي وضعها الله عز وجل في هذا الكون الواسع والمدهش والرائع والجميل، الذي عمل المفسدون على مر التاريخ على إفساده، والنيل من تناسقه وجماله، وطهره ونقائه ، بل إن ذلك واجب بمقتضى مفهوم العبادة، فأن يبدأ طالب العلم، أو أن يبدأ الباحث، وهو يدخل إلى مختبره أو معمله، ببسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله معلم الناس الخير عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، هذا أمر يزكو به البحث، وتصحبه العناية الإلهية، ويؤتي أكله كل حين بإذن ربه، ويحسب عبادة لصاحبه، ينال بها خير الدنيا والآخرة، وتلك هي القراءة باسم الله التي أمر بها الله عز وجل منزل القرآن، ومعلم الإنسان البيان، لا القراءة وكفى، التي تكون باسم غير الله، فهذه القراءة هي التي نجم عنها خراب العالم، في ظل استحواذ الشياطين على مقدرات العلم، ونتائجه التي ساهم فيها الباحثون المسلمون بقسط كبير، ولكن تخطفها هؤلاء المردة المتجبرون، ليتخذوا منها معاول لتدمير الحضارة التي رفع الإنسان بنيانها خلال القرون، وذلك بسبب اختلال في موازين القوى، نجم عن تفريط المسلمين في موقع الشهادة على الناس، بسبب تفريطهم في إسلامهم الذي يضمن لهم قوة الشوكة، وعزة الجانب، ومطلب التمكين، لأن مناط التمكين كامن في إقامة ما أمر الله عز وجل بإقامته، في ظل خلوص النية وسلامة القصد. يقول الله تعالى:” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ” (النور: 55).
فأين الإشكال إذن بعد هذا البيان؟
ولا بأس أن أضيف هنا ما يزيد الأمر وضوحا وجلاء، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْر اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ – أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ -).
وفي سياق تمجيد للعلم والعقل، المجردين عن تأطير تعاليم الدين ومنهجه، يمعن صاحب مقال “إلى أي مغرب سنعود؟” في الانتقاص من قيمة الدعاء،بقوله:”
ما محل فيض الأدعية الكرونية هنا،إلا أن تكون تأكيدا على عضنا بالنواجذ على كوننا من المخلفين ،ومن المودعين على أرصفة كل القطارات المتجهة صوب محطات الحضارة.
وإلا أن تكون غذاءا وجدانيا ،فرديا وجماعيا ؛قد يفيد في مجاله ؛لكنه لا يقدم شيئا ناجعا – باستوريا – للإنسانية ،وهي في أمس الحاجة إلى من يعبر إلى المغارات الرهيبة،بالجزر النائية، و يقطع رأس الوحش،كما في الميثولوجيا اليونانية .
لا يجب أن يغرب عن بالنا أن أنوار العلم لاحت حينما غربت شمس الأجراس والأدعية.”
لقد اصطبغ الانتقاص في هذا الموضع بسوء أدب سافر مع الدعاء، وبتهكم صريح من كل من يرفع أكف الضراعة إلى الله الواحد القهار، مالك الملك، ومالك يوم الدين، بالدعاء، كي يرفع هذا البلاء النازل من السماء، فهو يطلق على الأدعية التي يجأر الناس بها لمن بيده ملكوت كل شيء، ” أدعية كورونية”، فهل يصح في ميزان الأدب والأخلاق، وميزان العقلاء، أن تنسب الأدعية التي يتوجه بها المسلمون إلى ربهم ومالك أمرهم، من أجل كشف الغمة عن الأمة، وإيقاف زحف كورونا التي زرعت الرعب بين الناس، وحولتهم إلى رهائن في منازلهم، والتهمت كثيرا من أرزاقهم، وأزهقت بعض أحبابهم، ونقعت الآلاف بسمها الزعاف، وجعلتهم طريحي أسرة المستشفيات، طلبا للعلاج والاستشفاء، هل يصح في هذه الموازين أن تنسب تلك الأدعية إلى كورونا التي هي عينها الداء، وهي موضوع الدعاء؟
ويزيد الكاتب العقلاني إمعانا في السخرية، ممن ينعتهم بالركون إلى فيض الأدعية، كناية عن الإكثار منها، عندما يصف ذلك بكونه مظهرا من مظاهر التخلف، والارتماء في “أرصفة كل القطارات المتجهة صوب محطات الحضارة”، إشارة إلى الدول الغربية. ومن العجب العجاب، ومما يثير فيضا من الاستغراب، أن مشاهد العجز والقهر التي ارتسمت خطوطها الكالحة على جغرافيا تلك الدول المنكوبة، وصور الانهيارات التي مثلت علامة بارزة على كرتونية تلك المجتمعات، وهشاشة بنياته، والتي دل عليها انبهارهم وتلاشيهم أمام مظاهر الموت الذريع الذي راح يحصد أرواح الناس بالألوف وليس المئات، في مقابل العشرات في أغلب أوطان المسلمين. وإذا نحن سايرنا صاحب المقال في المنطق المادي الذي يحتكم إليه في تصنيف الدول والمجتمعات، أفلا نجعل كثيرا من دولنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية في المراتب الأكثر رقيا وتحضرا، بينما نصنف الدول والمجتمعات الغربية في مراتب دنيا، لا لشيء، إلا أننا كنا أقل من حيث الخسائر والضحايا. ومع ذلك، فأنا لا أساير هذا المنطق، تجنبا للغرور، والاستسلام لخداع النفس التي تنزع إلى تزكية نفسها، والركون إلى الإعجاب والغرور. كلا، فإن تمكين كورونا منا يحمل رسائل بليغة ينبغي أن نعيها أشد الوعي، وأن نفهمها أبلغ الفهم.
وإن لنا الحق بعد ذلك في أن نسأل صاحب المقال، عن الشيء ” الناجع باستوريا للإنسانية” الذي استطاعت أن تنجزه دول الغرب المنكوبة أشد نكبة؟ لاشيء من ذلك قد حصل، بل إنها لا زالت تتخبط وتراوح مكانها. وفي حالة ما إذا اقتربت من إنجاز شيء من ذلك القبيل، فإن القرائن والحقائق في الميدان، لتقدم أبلغ الشواهد وأسطع البراهين، على أن نسبة هامة ممن يصنعون الأحداث على مستوى البحوث العلمية والمختبرية، من أجل العثور على علاجات أو لقاحات، من شأنها أن تدفع البلاء، وتوقف زحف الوباء، أو الجائحة كما سمتها منظمة الصحة العالمية التي تتخبط ماليا بسبب نكوص ” الدولة العظمى”- التي مرغت كورونا العتيدة أنفها في التراب، ومزقتها شر ممزق- عن دفع أقساطها، بسبب ما وجهته لها من تهم بعدم القيام بدورها كاملا في قصة كورونا، أقول، إن نسبة مقدرة من هؤلاء الباحثين المرابطين في ثغور البحث العلمي هم من المسلمين المشهود لهم بالتفوق والنبوغ.
ثم إني أسألك سؤالا آخر أيها الإدريسي، فهل لا زلت تؤمن بمصداقية الغرب، رغم ما حصل من فضائح أخلاقية، كانت مطموسة تحت بهارج الرخاء، فوكل الله كورونا بإخراجها إلى العلن ليعرفها القاصي والداني، إنها الجمع بين البراجماتية الضحلة والوضيعة، وبين الماكيافيلية الجدباء، أسلوبا للتعامل مع الشيوخ الذين أفنوا زهرة أعمارهم في رفع بنيان دولهم، فتحت ضغط وابل كورونا التي لم تمنحهم وقتا كافيا للتروي والتقاط الأنفاس، وضبط الحسابات، ما كان منهم إلا أن يقذفوا بهم إلى هاوية العدم، ويسلموهم لصاحبة القرون والتيجان، تنهش عظامهم وتمتص دماءهم، في مشهد مأساوي سيكتبه التاريخ بحروف الخزي والعار، عن مدنية مزورة أقامت أمجادها وسمعتها على جماجم وثروات وسواعد مجتمعات مقهورة سلبت إرادتها، وتعرضت لبيع رخيص في سوق النخاسة، وبالمزاد العلني.
يقول صاحب المقال:” وإلا أن تكون( أي الأدعية) غذاءا وجدانيا ،فرديا وجماعيا ؛قد يفيد في مجاله ؛لكنه لا يقدم شيئا ناجعا – باستوريا – للإنسانية ،وهي في أمس الحاجة إلى من يعبر إلى المغارات الرهيبة،بالجزر النائية، و يقطع رأس الوحش،كما في الميثولوجيا اليونانية .
”
لقد حرص السيد رمضان مصباح الإدريسي في توصيف مأساوي، يعكس بؤس التفكير وفجاجة الاستلاب – بعد تقديمه للعلم والدعاء، وكأنهما على طرفي نقيض- حرص عل تأكيد نفس المعنى في نهاية الفقرة ، بقوله:” لا يجب أن يغرب عن بالنا أن أنوار العلم لاحت حينما غربت شمس الأجراس والأدعية”
فالرجل يستصحب تاريخ أوروبا الأسود، وفصوله الرهيبة في موضوع الشقاق والفصام النكد بين الدين والعلم، وبين الدين والحياة، الفصام الذي لم تنفصل بموجبه أوروبا –فقط – عن دين خرافي مليء بالأباطيل والشعوذة، تمثله كنيسة متحجرة، ورهبان طغاة متجبرون، يقصون العلم، ويكبتون العلماء باسم دين ما أنزل الله به من سلطان، ولكنها أخرجت فكرة الدين، كيفما يكن هذا الدين، أخرجتها من رأسها، وأقصتها من حسبانه، فراحت تضرب في صحراء عارية من أية سلطة للقيم، إلا القيم الأرضية الجافة والمفصولة عن مدد السماء.
فأي علاقة يا إدريسي، بين وضع الدين عند هؤلاء التائهين، ووضع الدين عندنا؟ ووضع الدعاء عندهم، ووضع الدعاء عندنا؟ لا علاقة البتة، وقد أنبأتك قبل بموقع الدعاء عندنا، وشرفه وقداسته، ونفعه وبركاته. فنفع الدعاء، مؤكد – بشروطه – في شرعنا، سواء على مستوى الأفراد، أو المجموعات، أو الجماعات، أو الأمة.
وإن حياة الفرد المسلم والأمة المسلمة، لتحفها بركة الدعاء، وتحوطها من كل جوانبها، من الاستيقاظ حتى المنام، وفي الحرب والسلام، وفي كل الشؤون، على مدى الأيام والشهور والأعوام، ومن الميلاد حتى الممات، ولقاء العلي العلام. فالدعاء، يا إدريسي، هو حبل الله المتين الذي يربط الأرض بالسماء، وهو الغطاء الذي يصد عنها ضربات الأعداء، بعد استيفاء الشروط والأسباب، ورص الصفوف، وإخلاص الولاء لله عز وجل، واليقين في عونه وقدرته وقيوميته، وعنايته ورعايته.
وبعد كل هذه المزالق الفكرية التي سقط فيها صاحب المقال، يلقي نظرة على المشهد العام الذي ولدته كورونا على مستوى نهضة المجتمع بجميع مؤسساته وقطاعاته، والتضامن الذي حصل بين القمة والقاعدة، وما أفرز من إيجابيات، ومن عناصر مشرقة لاحظها كل الدارسين، يطرح السؤال الذي اتخذ منه عنوانا للمقال: ” إلى أي مغرب سنعود” ؟
يقول في معرض الجواب على هذا التساؤل: ” وعليه فإن سؤال :إلى أي مغرب سنعود لا يدفع فقط في اتجاه تحديد سبل تجاوز النكسة الاقتصادية المباغتة ،كطعنة خلفية غادرة؛بل يستدخل أيضا سبل صيانة « مكتسبات » الجائحة ،بكل اشتغالاتها السياسية،الاقتصادية،الاجتماعية والثقافية.
إنها كما عرضت خطوطها العريضة،غنيمة حرب كورونا ؛كانت دائما موجودة في متاعنا ،لكن دون أن ننتبه لها، لولا أن حمشتنا الجائحة ،فنهضنا ونهدنا ،لا نلوي على شيء عدا الوطنية « المستعادة ”
والحق أن هذه الفقرة من المقال، تمثل نشازا، ضمن مجموع فقراته، من حيث تعبيرها عن جزء مما ينبغي الاشتغال عليه، بعد أن يكشف الله عنا هذا الوباء بإذنه ورحمته ولطفه، في لحظة لا يعلمها إلا هو، ولا يجسر على التنبؤ بها أخبر الخبراء، فالذي أنزل الداء، هو الذي يملك إنزال الدواء، في الوقت الذي يشاء، في لحظة من صبح أو مساء، ومن الصلف أو الغباء، أن يزعم زاعم من الزعماء، أو دعي من الأدعياء، أن ذلك سيقع بدون شك، إلا أن يكون مستنده ما نعلمه من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ولطفه الذي عم الأرض والسماء، ولكن شريطة التأدب مع لا يأمن مكره إلا القوم الخاسرون، مصداقا لقوله تعالى:” أفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ” ( الأعراف:99).
وأن الذي يستدر ذلك من صاحب الشأن جل وعلا، هو إصلاح الحال، وإدامة طرق باب الحكيم الجليل لدرك النوال، فالدعاء الدعاء الدعاء، لمن فطر الإنسان وخلق الأرض والسماء.
وإني أرى من حقي أيها الإدريسي، أن أساهم في الجواب على السؤال الذي طرحته في رأس المقال، فأقول، بعون الله، إن المغرب الذي يجدر بالشعب المغربي الأبي الكريم أن يعود إليه، بعد أن فرضت عليهم كورونا تجربتها الرائدة في الطهر والتطهير، والبناء والتعمير، هو مغرب يستظل بشريعة الله الوارفة الظلال، التي يجد في ظلها الناس حقهم في الكرامة والعيش الكريم، ويبسط فيها رداء المساواة على الجميع، وينصب فيها ميزان العدالة الذي لا يضطرب له لسان، فيأوي الناس جراء ذلك إلى روح وريحان، في حضرة الرحيم الرحمان.
وجدة في 05 رمضان 1441، موافق 29 أبريل 2020