العسل المنيع
محمد شحلال
عندما كنا نقضي بعض شهور السنة على ضفة،،الوادي الحي،،(وادي زا)في الماضي،كنا على موعد مع موسم الاستمتاع بأنواع من الفواكه،وإشفاء الغليل في السباحة قبل العودة إلى،،البور،،حيث كانت الحياة تتميز بكثير من التقشف،ولا يسمح العبث بالماء.
وإلى جانب الأنشطة الترفيهية التي كنا نمارسها نحن-معشر الصغار-فإننا كنا نتحلق كذلك حول بعض الشيوخ لنسمع حكايات مشوقة،نتمنى لو يتأجل حل عقدتها حتى يغطي مسلسل الحكي كل أيام الإقامة في تلك الجنان الفاتنة.
كان من بين أشهر المراجع في هذا النموذج من القصص،شيخ طاعن في السن يدعى،،عمي صالح،،رحمه الله،وكانت أسرته على بعد أمتار من خيمتنا المستندة إلى ظل شجرة بطم ضخمة،وتطل عليها فاكهة الصبار التي سمحت لها جودة التراب بأن تتعملق فتظل ثمارها بعيدة عن متناولنا.
امتاز الشيخ بذاكرة متقدة ،وأسلوب جذاب في استعراض مخزونه من الأخبار والقصص التي لا تخلو من مسحة الأسطورة،لكنها ظلت بالنسبة لنا حقائق غير قابلة للجدال ،لأن الشيخوخة كانت مقياسا للمصداقية ! وكان الشيخ يجود بالجديد كلما تلقى مزيدا من كؤوس
الشاي الذي كان ،،غذاءه،،الأثير إلى نفسه.
وهكذا ،فقد كان ،،عمي صالح،،يذكر بإحدى الحقائق التي يعتز بها كلما فاض النهر بقوة أوائل الخريف،حيث يفسر هذه السيول الجارفة، بكون النهر له مائة وواحد من الروافد التي تستيقظ عندما تشتد الرعود وينزل المطر بقوة.
ليس هناك ما يكذب معلومة ،،عمي صالح،،لأن النهر لا يصل الينا في الواقع حتى تنضم إليه سيول العديد من الأودية ،وهو يعلو تارة ،وينخفض أخرى ، في حضن تشكيل من التضاريس المتنوعة.
غير أن القصة التي ظلت تأسر مسامعنا، هي قصة ،،أزرو ننعاش،،التي كانت تتردد كذلك على ألسنة كل الكبار الذين لا يختلفون إلا في الحبكة.
أما،،أزرو ننعاش،،هذا ،فهو عبارة عن جرف شاهق من صخور الغرانيت، يؤثث جانبا من ضفة واد يربط بين ،،دادة علي،، والوادي الحي.
كنا نتجشم مشقة الوصول إلى الضفة المقابلة له لنستمتع بمنظر أسراب من الغربان ،وهي تتغذى على فاكهة الصبار التي قامت بزرعها وسط الجرف عبر السنين ،حتى تحولت إلى غابة من هذا النبات الذي يعشق العيش في الحجر فيزداد لذة ،لكنه ظل حكرا على ذوات الأجنحة.
كانت الغربان والطيور تتلذذ بأكل الفاكهة وهي في مأمن من شر الإنسان ،حيث كان المكان منيعا،ويستحيل الوصول إليه،وكل محاولة لخرق حرمته،فإنها تعني نهاية مأساوية.
لم تكن الغربان لتستأثر بثمار عملها،بل كانت أثوال النحل تجد في تجاويف الجرف مساكن محصنة، لتتناسل الخلايا من غير أن تمتد إليها يد الإنسان وخاصة منذ الحادث الأليم الذي يتناقله الناس بمرارة.
يقولون بأن رجلا أسمر ممن دأب الناس على تسميتهم بالعبيد(إسمغان)،مر بجانب الجرف قديما فأثاره طنين النحل،وخمن أن يكون هناك عسل هائل بسبب وعورة المكان،لذلك أسرع نحو زوجته(ثيسمغث)وقص عليها الخبر،فاتفقا على الوصول إليه.
كانت فرحة الزوجة وحماسها قويين ،فاتفقت مع شريكها على إعداد ،،اللوجيستيك،، حتى يتمكن زوجها من بلوغ الهدف.
كانت الفكرة بسيطة :أحضرت الزوجة حزمة من الحبال فعقدتها إلى بعضها،ثم قام الزوج بربط بطنه إلى طرف الحبل،بينما تمسك ،،عبلة،،بالطرف الآخر،ثم يتدلى ،،عنترة،،حتى يبلغ مخابىء العسل.
وصل الرجل بسلام ليفاجأ بألواح من الشهد الصافي الذي يسيل له اللعاب ،ولم تصله يد مخلوق من قبل، حتى تكدست طبقاته،فانتزع القطعة الأولى التي تلذذ بالرشف منها بشفتيه السميكتين،قبل أن يشرك الزوجة في الفرحة من خلال التلويح بباكورة الغنيمة.
تناول قطعة الشهد ونادى ،،عبلة،،وراح يلوح بها لتشاهد عربون السلعة.
سبقها لسانها للتعبير عن فرحها،فصاحت:(ألالي ثيوا نوجرو)،،يافرحتي بظهر الضفدع،،وهو تشبيه من إبداعها.
لم يكن انتشاء الزوجة ليقف عن حد الصراخ ،فقد عززته بالتصفيق الذي جعل الحبل ينفلت من يديها ليصل،،عنترة،،إلى سطح الأرض جثة هامدة ،ضاعت معها معالم جسمه ،لتجهض فرحة العسل في بدايتها،وتعيش،،ثيسمغت،،بقية حياتها تندب حظها التعس ،وتتلقى سهام اللوم الجارحة من كل الجهات.
منذ ذلك الحادث الأليم ،صار للجرف اسم جنائزي: أزرو ننعاش.
لست أدري هل بقي الصبار صامدا ينتشي بمعزوفات النحل،أم أن الجرف قد خلا من الحياة كما خلت ضفاف النهر بعد تشييد سد،،لغراس،،الذي غير كل المعالم،وحول قرونا من الحضارة إلى أطلال تلتقي فيها جنائزية الجرف، مع صمت أبدي يعم المكان، ويطوي سجل الأخبار والقصص التي بصمت فترة من سعادة عابرة.