كهف كورونا
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
كهف كورونا
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
سالت أنهار من المداد، وحبرت آلاف من الصفحات في وصف كورونا ، تساؤلا عن أصلها ومصدرها، وتشخيصا لخصائصها ومميزاتها، ورصدا لآثارها ومخلفاتها، على صعيد النفس والاجتماع، والثقافة والسياسة والاقتصاد، وعلى صعيد العمران البشري في اتجاهه العام،وشبكة العلاقات، على مستوى الأمم والمدنيات، وما ستؤول إليه الأمور والأوضاع، بعد انحسار أمواج كورونا العاتية المتتالية، بإذن الله الواحد القهار. بل إن السؤال الأكبر الذي سيتصدر كل الأسئلة – التي رغم أهميتها وجسامتها تظل أسئلة فرعية جزئية – هو سؤال من نحن؟ وإلى أين المصير؟ أي السؤال الفلسفي الكبير، الذي تحدد الإجابة عليه طبيعة الوجود وطبيعة المسير والمصير.
فليس يداخلنا شك أو ارتياب، في أن العالم والإنسانية، على مستوى المشهد الغالب والعام، قد رزحا تحت ركام من عمليات التخدير والتخييل، ومن التضليل والتحريف، و من التمويه والتزييف، فنتج عن كل ذلك دخول رهيب ومريع، في غيبوبة تكاد تكون كاملة، عن سر وجود الإنسان في هذا الكون، من جهة، ومن جهة أخرى، عما يحاك ضده من المكائد والمؤامرات، أي غيبوبة عن حقيقة ما يجري على وجه هذه الأرض، من مبادرات ومناورات، تقدم كلها تحت عناوين وشعارات، ظاهرها مصلحة الإنسان وسعادته، وباطنها من قبله العذاب.
ويستثنى من حكم الغيبوبة – طبعا – أصوات صادقة مسكونة بحب الحق والحقيقة، تواصل دقها لنواقيس الخطر بالليل والنهار، وإرسال التحذير تلو التحذير عبر الأثير، بكل ما أتيح لها من وسائل وحيل، من أجل إيقاف زحف جحافل الفساد، وقطع دابر المفسدين، من خلال تجريدهم من أسباب قوتهم وبقائهم، وانطلاء أكاذيبهم وخداعهم.غير أن قرائن الأحوال، تفيد لحد الساعة، أن تلك الأصوات لا تزال تتعرض إما إلى موجات كثيفة من التشويش، لحجبها عن الوصول إلى وجهتها وغايتها، وإما إلى عمليات ماكرة من التشويه والتدليس، لإبطال قوة الرسائل الموجهة، وتجريدها من فعاليتها، ولو إلى حين.
لم تزل الوضعية على هذه الصورة من الاختلاط والاختلال، ومن الاعوجاج والانحراف، ومن اللاتوازن الذي ترسف الإنسانية جراءه في أغلال الخوف والجوع، والغبن والقهر، والاستبداد والطغيان، والاستعباد والامتهان، حتى أذن الله لكورونا أن تخرج من مساكنها ومخابئها، وتنطلق من معاقلها، لتنساح عبر المدن والقرى، والأمم والشعوب، في إيقاع ثابت، وبرباطة جأش، لا تخشى ردا ولا ثأرا، توقع أبلغ الخسائر، وتزهق آلاف الأرواح، وتحول معالم الاقتصاد وهياكل الحركة والإنتاج إلى خراب وأشباح. فالطابع الغالب هو الشلل والانبطاح، بما يشبه صورة جيش عرمرم، بوغت من كل جهة من جهاته، من قبل عدو شرس باسل،بل بالغ الشراسة والبسالة، وصدر إليه الأمر القاهر بالانبطاح أرضا، وكتم الأنفاس، والتجرد من كل عتاد وسلاح.
صدر الأمر للمجموع، لآلاف الحشود أن تدخل الكهف الكبير الذي يمتد من المشارق إلى المغارب، لتعيش حالة تحسب وترقب، وتنطلق في حالة استنفار، من أجل كفكفة غلواء هذا الإعصار، الذي يزرع الرعب، ويهصر في طريقه الأغصان ويقتلع الأشجار، ويذيق من بأسه الفجار والأبرار.
قالتها كورونا بلسان فصيح، وبلهجة آمرة قاهرة: ادخلوا مساكنكم، والزموا كهوفكم، أو لأشردن بكم، ولأحطمنكم يا من ظلمتم أنفسكم، وأنتم لا تشعرون، ولا يغرنكم ما في حوزتكم من مراكز ومختبرات، ومعاهد للأبحاث، ومن معامل وصيدليات، ومن كل ما تحتويه ترسانتكم الطبية والعلمية من عتاد وإمكانات، جندوا لمواجهتي ما شئتم من جيوش الأطباء والخبراء والمهندسين، لا لوم عليكم في ذلك، فهو أخذ بما أمر الله به من أسباب، ولكن اللوم كل اللوم، على ما قد تركن إليه نفوسكم المريضة من تبجح وغرور، بل إنه في جبلتكم من أشنع الأمراض وأقبح الشرور. اصنعوا ما شئتم من لقاحات وأمصال، أو من علاجات، قد تصادف ما أطويه من سم زعاف، وداء قتال. ولكن لا يخالجنكم شعور كاذب بالانتصار، أو الخروج من دائرة الأخطار، فحتى إن هادنتكم لبرهة من الزمان، فاعلموا بأن الحرب سجال، وأنتم لا تدرون على سبيل اليقين، متى القفول والرحيل، أو متى أعود لحط الرحال. فإنما هو أمر الواحد القهار العزيز المتعال. فالمعول يا هؤلاء على مراجعة الحساب، ونقد الذات الظالمة الهوجاء، وتحريرها من جبروت المعاصي والذنوب والأهواء، والتصالح مع فاطر الأرض والسماء، وجاعل كل شيء من ماء.
قالت كورونا هذه الكلمات بلسان الحال، ثم مضت إلى شأنها، تواصل تسبيحها، ممتثلة أمر ربها، وطفق أهل الكهف ينتشرون عبر تجاويف الكهف الذي ضاق بأهله، كل يبحث له عن زاوية يجد فيها راحته وسكينته، وبقي البعض خارج الكهف لتدبير أمر من دخلوا الكهف، من حيث توفير الغذاء والكساء، ومعالجة من سقط من المرضى، بعد الكشف وتحضير الدواء.
ومما جرى على طول الكهف وعرضه، أن كل منطقة من مناطقه، رسمت خطة لتدبير شأنها، وتطهير محيطها مما لحقه من آثار كورونا، فهي تسابق الزمن، من أجل إنهاء العملية بنجاح، والظفر بلحظة الخروج الآمن من تلافيف الكهف وظلمته، وضيقه وغربته.
وضمن هذا المسعى وعلى هذا الغرار، مضى أهل المنطقة الغربية من الكهف يدبرون أمرهم، من أجل الانعتاق من الأسر الذي التزم به بعضهم صابرين محتسبين، والتزم به البعض الآخر ضجرين متبرمين، ولات حين مندم كما يقال، وإن لسان حال الجميع يقول كما يقول المثل:” يداك أو كتا وفوك نفخ”. دخل أهل المنطقة الغربية المحاذية لعدوة الأندلس في بداية الأمر بنية أن يلبثوا في كهفهم شهرا كاملا، ثم اقتضت المصلحة أن يزدادوا شهرا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
والحق أن أهل هذه المنطقة قد عبروا عن مستوى لائق من التضامن وحسن التدبير، وأخرجوا أحسن ما في نفوسهم من حب الخير والإحسان، وبذل المعروف، وحمل الكل وإغاثة الملهوف، تضافرت في ذلك جهود من هم في أعلى السفينة ومن هم في أسفلها، في تناسق بديع، جلب لهم ثناء الجميع، وإشادة كثير من المتنفذين والملاحظين في المناطق الأخرى على طول الكهف وعرضه، ممن عبروا عن إعجابهم بمستوى الحزم واليقظة، الذي ظهر عليه أهل تلك المنطقة الغربية في مواجهة الجائحة، ومحاصرة الوباء. وقد ازدادت الصورة جلاء وبهاء، بتسجيل نماذج عالية، وأمثلة رائعة من التضحية ونكران الذات، ممن أبلوا البلاء الحسن، في اقتحام الأخطار، لإنقاذ أرواح من أصيبوا من أهل الكهف، فيعودوا إلى كهفهم سالمين، فكانوا حقا أبطالا من الطراز الرفيع، ويندرج تحت هذا الوصف أسراب من أخيار الكهف، ممن يرتدون بذلا بيضاء وزرقاء ورمادية وكاكية صفراء، بجميع رتبهم وأصنافهم. بل ومن يقتحمون الميدان، وينزلون يوميا إلى أوساط من يتلقون العلاج ممن نالتهم كورونا بشررها، لينقلوا الأخبار، ويتابعوا تطور الحالة الوبائية باستمرار، ويطمئنوا أهل الكهف القابعين في كهفهم باحتساب واصطبار، وينقلوا صورا حية عما يشبه الأشغال داخل خلية النحل حقا وصدقا، آناء الليل وأطراف النهار.
وحتى لا نغمط أحدا حقه، ضمن هذه اللوحة المجتمعية الجميلة، لا ننسى جنود الخفاء ممن يسهرون على إعداد الأقوات لأهل الكهف، عبر تحريك ماكينات المصانع ووحدات الإنتاج المخصصة لذلك، ويلحق بهم من يقومون بالنقل والتوزيع في مختلف المراحل والمحطات، فقد برهن كل هؤلاء وهؤلاء، عن ولائهم الصادق لأهل الكهف. ولا يستثنى من كل هؤلاء، أرباب الوحدات الأسرية الصغيرة، ممن يتولون جلب ما تحتاج له الفراخ من غذاء ودواء، وما إليها من حاجيات، و كذا المصونات من ربات البيوت والكريمات، اللائي يرفدن البيوت، بما يعددنه لإطعام الجياع، إنها حقا لوحة بديعة الحسن والجمال، تتناسق فيها الخطوط والألوان، وتخفي بين ثناياها كل ما هو أصيل وجميل في جوهر هذا الإنسان.
وجدير بالذكر أن طائفة من أهل المنطقة الغربية من الكهف، المحاذية للأندلس، تعاملوا مع ظهور كورونا في بداية الأمر بحس فكاهي عرفوا به على مر العصور، فراحوا ينشئون سيلا من النكت والمستملحات، التي تستدر الضحك ممن هم رهينو الحجر الممض القاهر، بما يساهم بنوع من التنفيس، في ظل أجواء الكهف الموسومة في كثير من الأحيان والحالات بالقنوط والاحتباس. غير أن ذلك الحس الفكاهي التلقائي، سرعان ما بدأ في الضعف والخفوت، مع مرور الأيام، و استطالة مدة الحجر، وانتشار الأخبار عن مزيد من الإصابات.
إذ ذاك، ومع سريان الخوف والاستيحاش، واستشعار هول أخبار الموت، في المنطقة الغربية، وغيرها من مناطق الكهف الكبير، غلبت كفة الدعاء والتضرع الصادق لمنزل الداء، رجاء إنزال الدواء، وإبراء الكهف مما يداخله من هم وكآبة وشقاء.
أجبر أهل الكهف على تغيير كثير من أنماط سلوكهم وتعاملاتهم، ووجدوا في ذلك غير قليل من المشقة والعناء، فلا حرية في الخروج والانسياح في الأسواق والجوطيات، ولا تجوال في الحدائق والغابات، ولا تزاور بين أفراد الأسر والعائلات، ولا ضم ولا عناق ولا قبلات، للأحفاد والحفيدات، والأسباط والسبطات، لقد انحبست الأشواق، وتصاعدت الآهات والزفرات. وبلية البليات، أن لا يزار الآباء والأمهات، ولا يعاد المرضى والمريضات.
واقسى الملمات التي خلفت جراحا عميقة في نفوس من ابتلوا بموت ذويهم في زمن كورونا، هو استحالة حضور الجنازات، واستقبال المعزين والمعزيات، فلا يزيد عدد المشيعين للفقيد على ثلة من أهله وعشيرته، فتحولت مصيبة الموت مصيبتين: مصيبة الموت،ومصيبة عدم إعلان المواساة.
هذا على صعيد الاجتماع البشري في شقه القرابي، وشقه التفاعلي والتكافلي، أما على صعيد التعبد وإشباع الروح، فإن أشد بلاء أصاب سكان الكهف، هو حرمانهم من دخول المساجد، في الغدو والرواح، لتغذية الأرواح، واكتفي من علاقة المسلمين ببيوت الله، برفع الأذان، الذي يلبى بإقامة الصلاة في الكهوف، حتى إشعار آخر، عندما تجنح كورونا إلى الموادعة والسلم.
إنه حقا لابتلاء وأي ابتلاء، أن تكتم العواطف والانفعالات، ويكتفى في تنفيسها بسكب الدموع والعبرات. إنه لزمن صعب بامتياز، سيرويه الخلف عن السلف، وسيشكل محطة فارقة ومنعطفا خطيرا في حياة البشرية قاطبة.
ويأبى الله عز وجل، وهو الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، أن يجعل لكورونا وجها واحدا هو وجه العناء والشقاء، فلا مناص إذن من أن يتسع أفقنا الفكري، وإدراكنا الروحي، لنبصر الوجه المشرق لكورونا، ولندرك مقدار عطاء الله لنا وراء ابتلائه لنا بكورونا.
فما هي عطايا الله لعباده من وراء ابتلائه لهم بفيروس كورونا المستجد؟ وما هي النقلة النوعية المتوخاة من وراء هذا الابتلاء، المفروض أن يحصلها الجنس البشري عامة، والأمة المسلمة على وجه الخصوص؟ وما هي إشارات هذه النقلة أو مؤشراتها؟
المؤشر الأول: إن المؤشر الأول، أو الرسالة الأولى الموجهة للبشرية كافة، هي أن تفهم حق الفهم، أن الذي يسير هذا الكون ويتحكم فيه، ويراقب كل صغيرة فيه، هو رب الكون الذي خلقه وأقامه على الحق، وأن القوة له سبحانه جميعا، وأن الرجعى وانقلاب الخلائق إليه في نهاية المطاف، وأن لا مفر منه إلا إليه، فهو سبحانه وتعالى الذي يقول في كتابه العزيز: ” وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ” (الأنعام: 59)” ويقول سبحانه: ” وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ”( الأنبياء: 16)، ويقول سبحانه:” مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ” ( الأحقاف:3).ويقول سبحانه: ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ” ( البقرة:165)، ويقول سبحانه:” فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ” ( فصلت: 15)،ويقول سبحانه:” قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم” ) الواقعة: 49)، ويقول سبحانه:” إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ( العلق: 8).
لقد ألقت كورونا هذا الدرس، بطريقة بليغة، من خلال إصابة الناس في أعز ما يملكون: أنفسهم وأموالهم، فحركت أشجانهم، وأصابتهم في السويداء، ويمكن أن نجزم من خلال القرائن وشواهد الأحداث، أن ما بعد كورونا على مستوى الوعي البشري، لن يكون اجترارا للوضع السائد ما قبل كورونا على الإطلاق. إن تحولا جذريا سوف يحدث لا محالة على مستوى الفكر والفلسفة والسلوك، وإن تيارا جديدا سوف يظهر على صعيد الإبداع الأدبي، في شتى فروعه وأجناسه، بل إن تغيرا عميقا سيحدث في ميدان المعرفة العلمية، وعلى صعيد اليقين العلمي، و إن مراجعة شاملة للمسلمات، ستفرض نفسها بلا ريب على العلماء، تحدث ثورة جذرية في ميدان الإبستيمولوجيا، أو فلسفة العلوم.
المؤشر الثاني: أو الرسالة الثانية: موجهة إلى الأمة المسلمة، فإذا كان من المفروض أن تكون الأمة المسلمة على دراية بمضمون الرسالة الأولى، وما تحتويه من حقائق وسنن، فإن واقع الحال عبر مراحل التيه والاستلاب، الذي تمكن من العامة بفعل مكر الليل والنهار، يبرهن على أن غيبوبة عن تلك الحقائق قد حصلت بفعل عملية رهيبة للتدجين والتخدير والترويض، وموجات عاتية للغو والتشويش والتشويه، و أنها لم تخطئ حتى أبرز الفئات المتنورة، المفروض أن تضطلع بأمانة الحفاظ على ميراث الأمة، وأن لا تترك بوصلة السير تفلت من بين أيديها، بما ينجم عن ذلك من ضياع ودخول في المجاهل والمتاهات. ومن ثمة فإن رسالة كورونا في هذا المقام، تتمثل في تحيين الحقائق والمعطيات والمعلومات في أذهان الأمة المسلمة بجميع شرائحها وقطاعاتها، وتحريرها مما علق بها من غبش، وما نالها من تحريف أفرغها من جوهرها، وحجم من فاعليتها، فنتج عن ذلك ما نتج من تحجر وكساد، ومن اضطراب وفساد.
هذا هو الشق الأول من هذه الرسالة الثانية، أما الشق الثاني منها، فيتعلق بحفز الطاقات المنبعثة والمتجددة إلى الانطلاق الثابت والموزون، في تنزيل الحقائق والتصورات، واستفراغ الوسع في توفير كل ما يمكن توفيره من شروط تحقيق ذلك التنزيل، وحشد الإمكانات المساعدة عليه، في خضم الإكراهات والتحديات.
المؤشر الثالث: أو الدرس الثالث: يتمثل في إحياء بعض عناصر منظومة القيم التي عاشت عليها الأمة عبر الأجيال، وشكلت شخصيتها المتميزة بين الأمم، وتعرضت للضمور والانكماش في خضم المد الثقافي الليبرالي المسموم، الذي استتب له الأمر عبر جهاز إعلامي رهيب، يقصف بلا هوادة، وينوع أساليبه ومواقعه، ويغير ألوانه ومنافذه، كل ذلك في تضافر بغيض بين أجنحة المكر وفصائله وأطرافه.
والأجمل في هذا الإحياء، أنه لم يتم على مستوى التنظيرات والأقوال، بل وعلى مستوى الأفعال والأحوال، في ضوء رؤية سديدة، ومبادرة حميدة طيبة، تشابكت فيها الأيدي، وتكاتفت فيها الجهود، ضمن ورش متعدد التخصصات، تحت لافتة عريضة للوطنية الحقة، والولاء الصادق الذي يصنع المعجزات، من أجل إنقاذ البلاد، والتقليل من خسائر كورونا إلى أقل ما يمكن.
إن عملية شحذ كبرى للعزائم قد جرت، وعملية صقل للمواهب قد حصلت، يمكننا أن نشبهها بالظاهرة المتحققة عند مواجهة الفئة المؤمنة – وهي في أوج تحفزها وعنفوانها- للفئة الكافرة، في ميدان الجهاد، وهو ما يصوره القرآن الكريم في قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ” ( الأنفال: 65).
لقد عمل كل طبيب، وكل ممرض، وكل تقني في المختبر، وكل مسؤول في الجهاز الصحي، وكل شرطي، وكل دركي، وكل عنصر من القوات المساعدة، وكل عنصر من عناصر السلطة وأعوانها، وقس عليهم باقي العناصر في كل ميدان له صلة بالتصدي للوباء، عمل كل واحد من هؤلاء، بطاقة عشرة من الناس، أو قريب من ذلك. وتلك منقبة سيسجلها التاريخ المعاصر للمغاربة بمداد الفخر والاعتزاز.
هذا عن الإطار الرسمي، ولا ننس الذين عملوا ويعملون في إطار جمعيات المجتمع المدني، بهمة عالية، ورغبة صادقة في جلب النفع للمحتاجين، وإسعاف الضعفاء والمحرومين، فقد كانت ولا زالت لهم أيادي بيضاء، وكانوا ظهيرا للإطار الرسمي، في تقديم ما استطاعوا من دعم وعون، لمن تضرروا بفعل الحجر الذي أجبروا بمقتضاه على ترك ما كانوا يبذلونه من أسباب، لتحصيل لقمة العيش، ولو في حدها الأدنى، أو ما دون الأدنى.
وليس يجوز بعد كل هذا الإنجاز الهائل الذي يتحقق في زمن كورونا، أن ينقلب المغاربة على أعقابهم، ويسقطوا في معصية نقض الغزل التي نهى عنها الله عز وجل في قوله سبحانه:” وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” ( النحل: 92).
فليس بمقبول في ميزان العقل والعقلاء، أن يبدد رصيد الثقة الذي تم تجميعه في هذا الزمن العصيب، ولا نقض عرى التلاحم التي أبرمت بين أطراف الشعب وشرائحه، بعد كشف هذه الغمة بإذن الله وعفوه ورحمته.
ولن يجوز بميزان القرآن نزول القوة والهمة إلى ما دون الضعفين، لقوله تعالى:” الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” ( الأنفال:66).
المؤشر الرابع: أو الدرس الرابع: إن مما ينبغي أن يفهم من بلاء كورونا، أنها جاءت للتطهير والتحرير،لغسل الأدران، وتنظيف الميدان، وتقوية الكيان، وذلك بإخلائه مما عشش فيه من مختلف الفيروسات الذاتية التي فعلت بالأمة الأفاعيل، من قبيل الغش والزور، والأنانية والمحسوبية والزبونية، والخيانة والتمييز، والفساد والميوعة والانحلال، والتطاول على حرمات الدين ومقدساته باسم حرية التفكير والتعبير، وتحت غطاء العصرنة والحداثة.
إن هذه الصورة المشرقة التي ولدها البلاء في المجتمع المغربي، ما ينبغي أن تنكسف بعد انكشاف البلاء، وإن هذا الصرح الشامخ الذي رفعت أعمدته عاليا في خضم المحنة ما ينبغي أن يصير إلى أنقاض وأشلاء.
المؤشر الخامس: اقتران حجر كورونا باعتكاف رمضان:
لحكمة أرادها الله الحكيم الخبير، العلي القدير، اقترنت الفترة الثانية من الحجر الصحي الذي اتخذ كوسيلة لتطويق كورونا، بحلول شهر رمضان الأبرك، ليكون للصيام مذاق آخر، بفضل جملة من العناصر التي تؤلف الأجواء الروحية المناسبة لتحقيق النقلة الإيمانية المنشودة، على مستوى الارتقاء بالأخلاق، التي هي عماد كل انطلاق، وأساس أي عملية للنهوض والنماء.
إن هذا الاقتران بين حجر كورونا واعتكاف رمضان، كان كفيلا بالسماح بتلافي كثير من المنغصات التي عادة ما كانت تسيء للمشهد العام على مدار الأعوام، بسبب اجتراء من أقفرت نفوسهم من نور الإيمان، ومكارم الأخلاق، على لوحة رمضان البهية الجميلة، من خلال تصرفات مشينة مخلة بالحياء.
المؤشر السادس: لطف الله ومنته، سبحانه وتعالى:
لقد كان بالإمكان لكل إنسان مغربي، أن يشاهد معالم اللطف الرباني ومظاهر مننه على هذا الشعب، من خلال تقليل خسائره وضحاياه، بالمقارنة مع الكم الهائل من الخسائر والضحايا التي تكبدتها دول أوروبا وأمريكا، فأربكت حساباتها وزرعت في صفوفها الرعب والهلع، وكسرت قرونها، وأصبحت تتلقى العون والإنجاد، ممن ناصبوهم العداء، وعملوا على محاصرتهم وخنق أنفاسهم حتى لا تقوم لهم قائمة. ولكن شاءت حكمة الله عز وجل في خضم هذا الامتحان العسير، أن يتفوق أهل المبادئ والقيم النبيلة ولو كانوا مصنفين فيمن هم أقل قوة، على من يضربون عرض الحائط بقيم الحق ولو كانوا أشد قوة وأكثر جمعا. فلله الحمد أولا وآخرا.
المؤشر السابع: كورونا ويقظة الفكر: ما من شك أن حجر كورونا، في ارتباط مع ما أحدثته من رجة قوية في النفس والمجتمع، حركت مكامن الفكر، وجعلته يطرح أسئلة ما كان يمكنه أن يلتفت إليها من قبل، ولئن وقع وطرحها فبفتور واحتشام، أو في تراوح بين إقدام ولإحجام.
من الأكيد أن كورونا ستسجل في سجل التاريخ، ضمن الأحداث التي أحدثت انقلابا هائلا، وشكلت منعطفا خطيرا ووازنا ترك ظلاله الكثيفة والوارفة على مسار الحضارة الإنسانية، على مستوى ضبط السير، وتصحيح المفاهيم، وتقويم الاعوجاج.
إن تراثا هائلا سيتم إنتاجه في كهف كورونا، وسيحمل كثيرا من عناصر الصدق والمصداقية، بفعل التلقائية والتحرر من الأصباغ ومن سلبيات الأنا المتعجرفة، وممارساتها الجوفاء.
إن لنا – ونحن نعيش هذه التجربة الفريدة بين جدران كهف كورونا- أن نستحضر قول الله تعالى عن أهل الكهف الذين هربوا بدينهم خوفا من بطش الطاغية دوقيانوس: ” وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا ” ( الكهف:16) .
فعسى أن نستدر رحمة الله عز وجل، ونحن في كهف كورونا وكهف رمضان المبارك، ونسأله جل جلاله، أن يهيء لنا من أمرنا مرفقا، في ظل التمسك بدينه وتطبيق منهجه.
إن أهل الكهف – وهم فتية آمنوا بربهم وزادهم هدى – لما كتب لهم الخروج من كهفهم، بعد أن لبثوا فيه ثلاثة قرون من الزمان، عاشوا تجربة فريدة رهيبة، واختلطت عليهم الأشياء، ووجدوا كل شيء قد تغير، وعز عليهم أن يجدوا الأسباب التي شدتهم لذلك الواقع- وضحوا بها مع ذلك هروبا بدينهم- قد زالت ضمن ما جرى زواله في خضم القرون الثلاثة التي انصرمت من الزمان وهم في الكهف نيام.
ولم يكن أمامهم إلا العودة الآمنة إلى الكهف ليرقدوا رقدتهم الأخيرة تحت رحمة الله وعنايته.
إن أهل كهف كورونا مطالبون بعد الخروج الآمن بإذن الله، من كهفهم، أن يستصحبوا ما حصلوه من فوائد، وجنوه من دروس وعبر، خلال حجر كورونا، ويضيفوا إليه ما سوف يجنونه – بإذن الله – من فيض رمضان ورحماته وبركاته، فيجعلوا كل ذلك خميرة للخير، يوظفونها في تنفيذ خطة شاملة للإصلاح، تحت راية الإسلام التي لن يتم صلاح ولا إصلاح في ظل غيرها من الرايات. ” وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (يوسف: 21).
وجدة في 14 رمضان 1441 موافق 8 ماي 2020