التشارط النفسي والأخلاقي للحضارة عند أبي حامد الغزالي
الدكتور محمد بنيعيش
شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الأسس المنطقية للحضارة وحصر الأقيسة
إن الأسباب وراء تقدم حضارة أو تخلفها،في شكلها الإنساني وليس المادي أو العمراني المحض،لا تعدو أن تحصر طبيعتها في شكلين:يعرفان عند المنطقيين بالقياس الشرطي المتصل والقياس الشرطي المنفصل.
إذ الأول لا يقبل وجود وسائط للوصول إلى النتيجة، لأنه عبارة عن امتناع شيء لوجود شيء حال دونه وتحقيق غايته أو حضوره،أما القياس الشرطي المنفصل فإنه يحتاج إلى سبر وتقسيم وهو بدوره يحتاج إلى استقراء كلي يصعب نيله أو تحقيقه،اللهم إلا في بعض القضايا النظرية التي تعتبر من أوائل العقل وبديهياته!
إن موضوع الدراسات النفسية والأخلاقية عند المسلمين وعلاقتها بالمسار العام والسليم للحضارة الإسلامية، بل الإنسانية عموما، ليأخذ صورة القياس الأول ،أي الشرطي المتصل بالدرجة الأولى.
إذ أن معرفة النفس يضادها مباشرة الجهل بها،فلولا معرفة الإنسان لنفسه لما حدد دوافع نشاطه وسلوكه ولما أنجز مجتمعا راقيا وواعيا بذاته وبغيره ،ولهذا فإن علم النفس عند المسلمين كان ملازما ذاتيا وشرطيا متصلا بحضارتهم .
هذه المعرفة النفسية أيضا لها ملازم شرطي آخر يتفاعل معها جوهريا ويمثل عنصرها الأساسي وجانبها العملي الذي هو الحضارة بعينها،هذا الملازم يتحدد في الأخلاق وحسنها،وعندها يبدو القياس الشرطي المتصل مستقيما وواضحا من ناحية تطبيقاته العملية،يمكن أن نصوغه كالتالي:
أ) لولا علم الأخلاق لما كانت للمعرفة النفسية قيمة…
ب) لكن الأخلاق موجودة
ج) إذن فعلم النفس له قيمة
هذه الأخلاق لها ملازم شرطي في داخلها،لأنها تنقسم إلى الشيء وضده وهو: الفضيلة والرذيلة،والملازم هنا في امتناع وجود شيء بسبب وجود شيء آخر معترض مسألة بديهية،ولا يوجد مشترك أو حد وسط بين القسمين،لأنه إذا وجدت فضيلة امتنع وجود رذيلة وإذا وجدت رذيلة امتنع وجود فضيلة،و لا مكان لشيء اسمه فضيلة رذيلة، أو لا رذيلة ولا فضيلة…
هكذا إذن ،حينما نتعقب التسلسل المنطقي والعلمي فإن القياس سيفضي بنا إلى القول بأنه: لولا وجود العامل الخلقي عند المسلمين لما كانت هناك حضارة إسلامية ،لكن الأخلاق وجدت فالنتيجة هي أن الحضارة موجودة!
إن هذه النتيجة كانت الحافز وراء اختياري المتواضع لهذا الموضوع الهام جدا، والمطلب العام لكل البشر ذوي الضمائر الحية والناشدة لكمالها الخاص ومهد سعادتها.
فمن العادة النفسية أن الشيء كلما قرب من الشخص ولامسه إلا وقل اهتمامه به والبحث فيه ،لكنه بقدر ما ابتعد عنه واختفى عن حواسه ،ولو لم يكن ذا مطلب ملح وضروري في حياته العامة، فقد يسعى إلى تفقده والإلحاح بالسؤال عنه وإعطاء تصورات حول طبيعته وقيمته …إلخ
ففترة ما قبل القرن الخامس الهجري كان الجانب النفسي والأخلاقي فيها لا يشكل مدعاة للبحث والتنقيب بصورة مكثفة،ولئن كانت بوادرها قد أخذت تطفو على المجال العلمي بعد القرون الأولى من الهجرة إلا أن اهتمام الباحثين حينذاك كان في أغلبه نظريا وذا غاية معرفية فكرية أو فلسفية محضة ،أو حتى ذات أبعاد فقهية تتعلق بأحكام الأخلاق قبل حكمتها.
لكننا ونحن نطل على القرن الخامس الهجري إذا بنا نجد تحركات غير عادية ،وبحوثا مكثفة، واتجاهات مختلفة المشارب ومتحدة الغايات من تناول الجانب الأخلاقي والنفسي على نطاقه الواسع وبعمق، عز نظيره في تاريخ التنظير سواء من قبل أو من بعد.
كما أن الدراسة لم تعد تقتصر على اعتبارها مجرد ثقافة تكميلية أو ترفيهية لهذا العالم أو المفكر أو ذاك،ولكنها ستأخذ أبعادا تجريبية وعملية واستكشافية لغايات تصحيحية ووقائية وبالتالي ذات مناحي علاجية وإصلاحية…
في هذا القرن بالذات سيبرز على الساحة بصورة مثيرة ومؤثرة شخصية علمية تحمل هم الأمة بشكل جدي ما بعده من جدية،وبعنف إصلاحي ما بعده من عنف ؛عنف الحقيقة والمصلحة العامة وعنف الرحمة والمعرفة ،عنف يختلف كليا عن المظاهر المألوفة له ويحوله إلى رفق ولين وترويض للذات لكي تنال سعادتها وتسعد غيرها،من غير شوائب ذاتية أو نزعات سلطوية واستقطابية،وإنما هي كيمياء رفيعة المستوى وثمينة المحتوى وخالية من خواطر النفس والهوى…
هذه الشخصية لقبت في زمانها بحجة الإسلام وكتب عنها أصحاب الأقلام وتناولتها بالتحليل وأفانين الكلام …إنه أبو حامد الغزالي الطوسي الخراساني،مجدد القرن الخامس الهجري كما يعرفه المؤرخون ويقيمون أعماله وما قدمه للعالم الإسلامي من دراسات وعلوم،كان على رأسها: علم النفس والأخلاق؛ بكل ما يحمله هذا المصطلح من معنى وما يتضمنه من تخصص وعمق وسبر لأغوار السلوك الإنساني وخلفياته.
ثانيا:الغزالي بين النشأة والثورة النفسية على زيف المظاهر
قبل الشروع في كشف اللثام عن بعض الجوانب من شخصية الغزالي النفسية سيكون من اللازم كتقليد علمي التعرض ولو بإيجاز شديد وعلى شكل ديباجة إلى نشأة هذا المفكر أو العالم مع تحديد فترة ولادته وظروفه الخاصة.
فالغزالي كما يؤرخ له إسما ونسبا هو:محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي أبو حامد الغزالي …
ولد في الطابران من جهة طوس سنة 450هـ،و كان أبوه رجلا فقيرا من الذين يغلب على حالهم الصلاح والعفاف،كما أنه كان يعمل في غزل الصوف،حيث قد غلب عليه لقبه من خلال مهنته،في حين كان يحب أهل العلم ومجالسة أهل الفقه والاجتهاد ويسعى في خدمتهم،حبا وتمنيا للحاق بهم بشكل أو آخر،حتى إنه كان يتضرع إلى الله تعالى من أجل أن يرزقه ولدا يكون من العلماء في مثل الذين يجالسهم.
فلقد حقق الله له دعوته ورزقه ولدا لم يستطع رؤية ثمرة دعوته فيه ،بحيث سيتوفى عنه وهو مازال صغيرا،ولكنه لم تفته الفرصة لأن يوصي به ومعه أخاه أحمد إلى رجل صالح وصوفي ليتولى رعايتهما والسهر على تربيتهما.
فكان من حسن طالعهما أن التركة التي تركها لهما والدهما نفذت قبل كمال نضجهما، فنصحهما باللجوء إلى مدرسة توقف عليها الأرزاق ويتعيش منها طلبة العلم.
هناك سيتابع الغزالي مسيرته نحو التألق والتطلع للتحصيل؛ومن بعده للبروز كطالب متميز ونجيب حتى وصل إلى مستوى التتلمذ على يد إمام الحرمين أبي المعالي الجويني،الذي سيكون عاملا رئيسيا أو ممهدا قويا لربط علاقته برجال السياسة وبالتالي وصول صداه إلى الوزير نظام الملك في عهد الخليفة العباسي المستظهر بالله،بحيث سيفوض له التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد من سنة 484هـإلى 488هـ.
بهذا سيرتقي الغزالي سلم التواصل الاجتماعي إلى أن يصير ذا ثقة كبيرة لدى لخليفة نفسه،كما ستصبح له اليد الطولى في اتخاذ القرار وفرض رأيه وإسماع علمه وآرائه من عدة تخصصات وفنون،بل سيصير فكره خطابا رسميا للدولة والمعتمد في الرد على رؤوس الفتن ومحاربتهم بالقلم واللسان،كان من أبرز ما ألفه في هذا المجال كتابه المشهور والمسمى على إسم الخليفة نفسه:المستظهري أو فضائح الباطنية…
لكن سرعان ما سيتغير حاله بعد هذا التألق وسيسعى إلى التخلص من هذه الرسميات التي تكبل فكره وسلوكه معا،وذلك بهجرانه العملي للأجواء التي كان ينعم بها ظاهريا بينما تشقيه في نفسه باطنيا!
هكذا إذن وباختصار سيلجأ الغزالي إلى التصوف كمدرسة نفسية وأخلاقية ذات أبعاد علاجية من الأمراض المزمنة والدفينة،والتي قد لا يشعر بخطورتها أكابر العلماء بله الأغمار والعامة من الناس،كما يعبر عنهم في شتى كتاباته.
في حين كان الكل يظن أن أعلى المناصب الدينية هي ما وصل إليه من شهرة وبروز على المنابر والمجالس الرسمية،وإلقاء للدروس وغيرها من المظاهر التي يظن أنها هي عين الحظوة الدينية،حتى إنه قد دون الجدل الذي دار حول هجرته لدار الخلافة بهذا الإصرار والعنف الذي لا يرتجى معه مراجعة فيقول:
“…وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبر في نفسي سفر الشام،حذرا أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي المقام بالشام،فتلطفت بطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبد ،واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة،إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون الإعراض عما كنت فيه سببا دينيا،إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين،وكان ذلك مبلغهم من العلم،ثم ارتبك لناس في الاستنباطات وظن من بعد عن العراق أن ذلك كان من استشعار من جهة الولاة،وأما من قرب من الولاة وكان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب علي وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى قولهم،فيقولون هذا أمر سماوي وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة العلم،ففارقت بغداد…”.
فلقد كانت تلك المفاوز الشكلية التي يتهافت عليها الناس من عامة وعلماء في نظر الغزالي تمثل مسلكا إلى الهلاك والتغرير والعجب والكبر،وما إلى ذلك من المهلكات النفسية والمدمرة للعمل الديني وصرفه عن صورته المخلصة،وهو ما سيسطره كسيرة ذاتية وتعبير صادق وصريح يمثل مادة معرفية ودراسة نفسية إنسانية تقول وتعمل بما تقول بل تعيش وجدانيا ما تقوله وما تعمله! .ومن هنا فقد كان الغزالي يؤسس لثورة عالمية عملية في مجال السلوك والأخلاق ولم يكن مراوغا أو مغررا أو عقلا مستقيلا كما يزعم البعض،وإنما هو ملتزم بالموضوعية الشرعية والعلمية التي تقول كما في الحديث النبوي الشريف:”ابدأ بنفسك ثم…”.سنرى لاحقا ما سينتجه.