رمضان وصناعة النموذج المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
رمضان وصناعة النموذج المسلم
بقلم : عبد المجيد بنمسعود
مما هو معلوم من الحقائق عن دين الإسلام، أنه جاء لخير الإنسان والإنسانية، في كل زمان ومكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهو خاتمة رسالات الله إلى خلقه، أنزلها على خير خلقه، وخاتم رسله أجمعين، سيدنا محمد، عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وإن اللفظ الذي يتسع لكل معاني الخير التي جاء الإسلام لكي يفيضها على الإنسان، ويؤطر بها المجتمع الإنساني، بما هو في حكم السياج المنيع الذي يحمي وجوده من كل الغوائل والمنغصات، ويصد عن زرعه كل الأدواء والطفيليات، هو لفظ الرحمة، فما من حكم، أو توجيه، أو أمر أو نهي، أو نظام من النظم، في كل شأن من الشؤون، أو جانب من جوانب حياة الإنسان، أو سرد للقصص، أو ترغيب أو ترهيب، أو وعد أو وعيد، أو غير ذلك، إلا وجاء يعكس وجها من وجوه تلك الرحمة التي تستهدف الإنسان، وتستهدف المجتمع، وتستهدف إقامة صرح الإنسانية الشامخ المنيع، الذي يتفيأ فيه الإنسان ظلال السعادة والأمن والاطمئنان، ويجد فيه وضعه الفطري السليم الذي قوامه التوازن والرضا، والثبات والرسوخ والاستقرار. وهذا هو السر في أن الله عز وجل رهن إرسال خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، بمقصد الرحمة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى:” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء:107). ومن ثم فإن كل تنكب للطريق الذي جاءت هذه الرسالة لترسي دعائمه، وترسم معالمه، وكل بعد عن تعاليمها وبنودها، وقيمها وأحكامها، لهو نكوص ذميم ونأي بغيض، عن طريق الرحمة، وهو- لذلك- شروع مأساوي شنيع، في الانحدار إلى هاوية التعاسة والشقاء، وسقوط مدو في دركات العذاب، وفي حبائل الشيطان، التي يظل يتخبط فيها، إلى اللحظة التي يتم فيها الانتقال إلى المصير الأبدي المشؤوم، عند قيام الساعة، وصدور الأحكام النافذة من محكمة العدل الإلهية، والتي لا يلابسها ظلم ولا تمييز، ولا تشوبها شائبة خطأ ولا نسيان.
فالإسلام يستهدف من خلال مبادئه وأركانه، ومن خلال نظمه وأحكامه، ومن خلال قيمه وأخلاقه، ومن خلال ما ينسجه عبر كل ذلك من شبكة ثقافية واجتماعية متينة الحبك والصنعة، محكمة المقاصد والأهداف، يستهدف صناعة الإنسان القوي في بنائه النفسي، من خلال متانة بنائه العقدي والأخلاقي والتربوي. وإن ذلك البناء الراسخ ، لكفيل بأن يؤهل الإنسان المسلم للقيام بكل المهام الاجتماعية والحضارية التي ترقى بالمجتمع، وتحصنه ضد كل عوامل الضعف والوهن، والتلاشي والانهيار، وتؤهله ليس فقط للقيادة والريادة، وإنما لما هو أسمى وأرقى من ذلك في منظور الإسلام، وهو الشهادة على الناس، مصداقا لقول الله تعالى في وصف طبيعة الأمة المسلمة، ووظيفتها في هذا الكون:” وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” ( البقرة:143).
لقد تحقق هذا المطلب العزيز في حياة المسلمين، في فجر الإسلام، وفي عصوره الذهبية، عندما كانت المرجعية التي تحكم حركة المسلمين في الأرض، وترسم خريطة مشيهم في مناكبها، واستكشافهم لمجاهلها، وتصوغ بوصلة خوضهم في بحارها ومحيطاتها، هي القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والسيرة الطاهرة العطرة. وعندما شرعت الأمة المسلمة في الانسلاخ من مرجعية الإسلام، في تكاملها وكمالها، باعتبارها قوة دفع ومصدر إلهام، وعامل توحيد وتآلف وانسجام، وإطار ضبط وتثبيت للأقدام، كان ذلك إيذانا للشروع في رحلة التيه، التي تناسلت عناصرها، وتفاقمت موجباتها طردا، مع ازدياد الإمعان في نقض عرى الإسلام، والتفلت من نظمه وقيمه، إلى أن تم لها الاكتمال المشؤوم في هذا الزمان النكد الذي كتب لنا أن نشهد مشاهده الكالحة، وفصوله السوداء، بشعور عارم من الحزن والأسى.
غير أن من خصائص الإسلام، أن جذوته لا يمكن أن تنطفئ أو تطفأ، فذلك مما يتنافى مع مراد الله في الأرض، ومع جوهر استخلافه لنبيه آدم عليه السلام، وذريته من بعده، و يتنافى مع جوهر بعثة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ورسالته الخاتمة إلى الناس كافة، وهذا ما ينطق به قوله تعالى: ” يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” ( التوبة:32).
وإن هذه الحقيقة الخالدة، هي التي يتولد عنها الاعتقاد الراسخ لدى المؤمنين بالإسلام، وحاملي لواء الدعوة إليه عبر العصور، بوجوب استفراغ الوسع في العمل على التمكين له في واقع الناس، بجميع الوسائل والخطط الممكنة، وفاء بعهد الله عز وجل، الذي شرط ذلك التمكين، بإخلاص العبودية له سبحانه وتعالى، مصداقا لقوله جل وعلا:” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” ( النور:55)
إن بعث الإسلام، وإعادته ليحكم حياة الناس، ويؤطر حركتهم لعمارة الأرض وفق منهج الله عز وجل، أمانة عظمى على عاتق كل مسلم، يردد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويلهج بها صباح مساء، وإن مسؤولية ذلك البعث لتفرض نفسها على مستوى الأفراد والجماعات، وتتأكد بالنسبة لصنف خاص داخل دائرة المسلمين، يمثل النخبة الممتازة، شريطة الحفاظ على مناط الامتياز، وذلك الصنف هم العلماء، الذين ينبغي أن يقودوا ركب البعث والتجديد، ويقدموا فيه المثال الساطع، والقدوة الحسنة، بفضل ما يملكونه من فضيلة الفهم عن الله، والفقه لمقاصد دينه، والوعي الحاد بخطورة التخلف عن واجب البلاغ، والاستماتة في القيام به على الوجه الذي يبرئون به ذمتهم أمام الله، وحتى لا يؤتى ثغر الإسلام من قبلهم.
وإن الطريق ليظل مشرعا مفتوحا أمام كل الجهود الرامية لتجديد الإسلام في نفوس الناس، وتجديد نسيج الحياة من خلالهم، وإن الله عز وجل ليمنح مدده وعونه، ويضع يده وبركته مع كل من يجدون لإنجاز هذا المشروع الحضاري العظيم، لإحياء موات العالم، وإعادة إعماره، بعد ما ناله من الخراب المهول، على أيدي المفسدين، وعصابات المجرمين.
وارتباطا بهذا الهم الكبير، والطموح العظيم الذي يراود كل مسلم آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبسيدنا محمد نبيا ورسولا، أطرح سؤال رمضان الأبرك، ودوره في صناعة النموذج، على مستوى الفرد والمجتمع. فما الذي يقدمه شهر الصيام من أجل تجديد نسيج المجتمع المسلم، والأمة المسلمة، بما ينعكس في نهاية المطاف على السير العام، وعلى موازين القوى في العالم.
من المعلوم لكل عارف بدين الإسلام، فاهم لأسرار رؤيته، أن ما من ركن من أركانه، أو تشريع من تشريعاته، إلا ومن وراء وضعه أو تشريعه مقصد واضح يتوخى بلوغه وتحقيقه، من الصلاة إلى الزكاة، إلى الصوم إلى الحج، وقس على ذلك كل تشريع يتعلق بممارسة من الممارسات، أو مؤسسة من المؤسسات، فمنظور الإسلام الحنيف، تأتلف في ضوئه مقاصد التشريعات جميعا، لتشكل ذلك النظام البديع، والنسق الرائع الجميل، والمجال الرحب الواسع، الذي تتوفر فيه شروط الخلق والإبداع، ومناخ الأمن والأمان، وتنتفي منه عوامل الخوف والحزن، وعوامل البؤس والحرمان.
وإن شهر رمضان في حياة الإنسان المسلم، والمجتمع المسلم، بفضل فرض الصيام فيه، باعتباره زمنا ذا قدسية عظمى، وقدر كبير، لحدوث ذلك الحدث العظيم فيه، المتمثل في نزول القرآن الكريم، في أعظم ليلة فيه، وهي ليلة القدر، ليعتبر محطة بالغة الأهمية لإنجاز عملية البعث والتجديد، لما يوفره من أجواء روحية بالغة السمو، من شأنها أن تساعد على انبعاث استعدادات الخير والصلاح في نفوس المسلمين أفرادا وجماعات. فرمضان هو بلسم للنفوس والأرواح، فيه ترمض الذنوب، ويجدد فيه الإنسان المسلم، والمجتمع المسلم، والأمة المسلمة العهد مع الله جل جلاله، مستثمرين كل تلك الأجواء التي ترفرف فيها الأرواح بأجنحة التوبة، وتروض الأجسام بالامتناع عن الشهوات المباحة في غير زمن الصيام، بما يكسبها صلابة، واستعدادا لتحمل المكاره والصعاب، كلما اقتضت ظروف الحياة التي من شأنها التقلب ذلك.
إن رمضان، بفضل توثيق صلة المسلمين صلتهم بكتاب ربهم فيه، يعتبر محطة للتزود بزاد روحي قوي، فبزيته تسرج قناديل الأرواح، وبمائه المقدس، تزال الأدران، وينقى القلب والوجدان، وتفرج الكروب والأحزان. وبالمداومة على تلاوته، مع التدبر، تتفتح القرائح والعقول، لاكتشاف مكامن الهدى، واستكناه الأسرار، واستشفاف معالم الميزان. ففي بيئة رمضان، وفي أجواء شعيرة الصيام، وما يصاحبها من جلائل الأعمال، يعاد تأثيث الفارغ من الأرواح، وإغناء العامرة، وإصلاح ما فسد من الأحوال، ومن خلال محكه الدقيق، ومقياسه الصارم العتيق، وداخل مختبره المحكم، تكشف الأجسام الجافة، والنفوس المريضة الخربة، والدماء الملوثة القفراء. في بيئة رمضان، يصفد مردة الجن والشياطين، وتفك عن القلوب ذات القابلية الأقفال، وترفع أكف الضراعة للواحد المتعال. يقول الله تعالى:” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
إن من شأن تكثيف جرعات القرآن التي يتلقاها المسلم في هذا الشهر الكريم، أن تزيد عقله صفاء، ومن شأن الامتناع عن المشتهيات، أن يزيد إرادته وعزيمته قوة ومضاء، وأن يزداد قلبه تفتحا لتقبل معاني الوحي، واستعدادا لحسن تمثلها، وتحويلها إلى سلوك وأفعال.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:” “: إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ( أخرجه الترمذي وصححه الألباني ).
إنها بصائر من رب الناس – جل جلاله- عظيمة، وبشائر كريمة إلى عباده المؤمنين، بسعة خزائنه وشمول رحمته، ونداء من رسول الرحمة – عليه الصلاة والسلام – إلى أمته، لاغتنام هذه الفرصة الغالية التي لا تقدر بثمن، والإقبال الصادق على الخير، لاستحقاق فضل الله ومننه، ونيل وسام العتق من النار، وإنه نعم الوسام، الذي تتضاءل أمامه كل النياشين والأوسمة المرتبطة بالدنيا الفانية، والتي لن تكتسي قيمتها، إلا إذا كانت عنوانا للأعمال الصالحة التي يزكو بها صاحبها، و يستقيم بها سير الحياة العام.
إن رمضان مدرسة فريدة من نوعها بين المدارس والمعاهد والكليات والجامعات، لأن فيها من التداريب والتخصصات، ومن المعارف والمهارات، ومن الدبلومات والشهادات، ما ليس في كل هاتيك المدارس والمؤسسات.
فالمتخرج من مدرسة رمضان، وقد دخل إلى رحابها وأروقتها، وتنقل بين حلقاتها واسطواناتها، يحدوه حادي الصدق والإخلاص، في ابتغاء ما عند الله، يتخرج بمهارات عالية، ومعارف سامية، ودرر غالية، موقعة كلها ممن فتح أبواب تلك المدرسة لكل مقبل راغب، وهي تتفاوت في مستواها وإتقانها وفاعليتها، بحسب درجة الاجتهاد، وخلوص النية، وبحسب قوة التشمير، وبذل الوسع، من أجل فهم الدروس، وحسن تمثلها، وترجمتها إلى سلوك ملموس، ينسجم مع النموذج والمثال، المتوخى من إرساء تلك المدرسة الفريدة الغراء.
مهارة الإخلاص في عبادة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، ومهارة الصبر، الذي يوفى أصحابه أجرهم بغير حساب، ومهارة الصدقة والإنفاق، التي تطهر أصحابها من الشح والانغلاق، وتفتح لهم عند الله واسع الآفاق، ومهارة التدبر لآيات الله الواسع الخلاق، التي تمكنهم من كشف الأسرار، والغوص وراءها في الأعماق، ومهارة التكافل المدرة للأرزاق.
كل هاتيك المهارات الغالية النفيسة، وغيرها مما تتخلق بذوره في تربة رمضان الخصبة المعطاء، وأجوائها العطرة الفيحاء، هي في بورصة رمضان، مما ترشد به الحياة، وتزكو به الأخلاق، ويتوج أصحابها في ختام رمضان، بالجائزة الكبرى من رب رمضان، الولي الحميد، الوارث الخلاق.
هذه المهارات العالية، المستبطنة لقيم أخلاقية سامية، هي القمينة- وأخواتها، مما يؤهل لاكتسابها ركن الصيام، في شهر رمضان- بصناعة النموذج، على مستوى الفرد والمجتمع، ومن ثم على مستوى الحضارة المنشودة التي تتحقق فيها آدمية الإنسان، بعيدا عن الشره والبغي والطغيان وقسوة القلوب، وعن الشح والأنانية والاستئثار البغيض، وعن الاندفاع والانفعالات الهوجاء، وعن السطحية وبلادة الإحساس، وغيرها مما يصنع النموذج الرديء، ومثل السوء، الذي يشقى به الإنسان، وتنحط به الحياة، وتنحدر إلى أسفل سافلين.
إن أي نموذج تنموي يتوخى إرساؤه في المجتمع المغربي، أو أي مجتمع للمسلمين، بقصد تجاوز حالة التخلف والركود، وصنع الوفرة والرخاء، دون الأخذ بعين الاعتبار خميرة الخير التي يربيها شهر الصيام، بفضل الصيام والقيام وتوثيق الصلة بكتاب الله، فهما وحفظا وتمثلا، وتحققا وتخلقا، وبفضل انفتاح النفوس فيه لجلائل الأعمال والقربات إلى الله، لمما يفتقد إلى شروط النجاح، وهو شبيه بمن يحرث في البحر، أو يلقي بذوره في أرض قاحلة جرداء.
ألم نقرأ أو نستمع وننصت لقوله تعالى:” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”(الأعراف 96)، وهل ترتفع شجرة الإيمان والتقوى الباسقة، وتتفرع غصونها الوارفة الظلال، وتتدلى ثمارها الحلوة الجنية إلا في زمن رمضان؟، وهل تسقى تلك الشجرة المباركة إلا بماء القرآن العذب الزلال؟، ألا نتدبر قوله تعالى:” قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” ( المائدة: 15 و 16)؟
وهل هناك زمن أنسب للاقتباس من ذلك النور، وتلقي هداياته، لتحقيق الإقلاع الروحي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، من زمن رمضان، زمن نزول القرآن؟ زمن الصيام والقيام؟ ثم يمضي الركب والمركب بعد ذلك في سيره الحثيث، يمخران بحار الحياة، تكلأهم العناية الربانية، وتحفهم ملائكة الرحمن، يمضي الركب بنية الثبات والاستمرار، والإصرار على الوصول بإذن الله إلى شواطئ الأمن وبر الأمان، هازئا مما يصدر من هنا وهناك من الأصوات النشاز، أصوات البوم والغربان، ومعرضا عن الكلاب النابحة، ملقما إياها الأحجار، مزيحا من طريقه الأنذال والإمعات والأشرار.
لقد مر على الأمة رمضان، تلو رمضان، تلو رمضان، عهودا متطاولة، ولم تحرك ساكنا، في سبيل الاستجابة لنداء رمضان، ونفض التراب عن الأجسام الخاملة، والتخلص من عقارب ساعتها الصدئة، وتعويضها بعقارب جديدة لامعة، تواكب إيقاع الزمن الصحيح، زمن الحق والإصلاح. زمن النهوض لإنجاز معالي الأمور، واستلام زمام الشهادة على الناس من جديد. إنها لخسارة وأي خسارة، أن تبيع الأمة ميراثها في المزاد العلني، وتتخلى عن مناط مجدها وسؤددها ورفعتها، فيشمت فيها الشامتون، ويسخر منها الشانئون.
إن عدم تجاوز الحد الأدنى في الاستفادة من شهر الصيام، يعرض الأمة لخسائر فادحة، ويفوت عليها فرصا ثمينة للتقدم والارتقاء، عبر خطة محكمة لإعادة هيكلة الإنسان والمجتمع، تأخذ بعين الاعتبار الجمع بين القوة والأمانة، باعتبارهما مفتاح النهضة الحقة، وقوام أي نموذج للتنمية يراد له النجاح، في ظلال الأمن والسلام.
إن فرصة رمضان، تفوت في أغلب بقاع العالم الإسلامي، وضمنها بقعتنا، للأسف الشديد، بسبب العوائق والموانع المتعددة، التي تشكو منها البيئة العامة، على مختلف الأصعدة والمستويات. فلا البيئة الثقافية السائدة تكون في الموعد لاستقبال شهر الصيام، لما تختزنه من ملوثات وألغام، ولا البيئة التعليمية تقدم الأرضية التربوية الصالحة المتمثلة في تثبيت مفردات الإيمان، وترسيخ مبادئ الإسلام، ولا جموح الآلة الإعلامية بضخها للسموم الناقعة في جسم المجتمع المثخن بالعلل والأدواء، بتاركة متنفسا لاستقبال رمضان ، بما يليق به من توقير واحترام.
فهل تستقيم الأحوال، وتسلم للناس الأجواء، في ظل تجاسر بؤر للسوء، لا تكتفي عناصرها الموبوءة بالمجاهرة بالإفطار، بكامل الصفاقة والوقاحة، وبكل استهتار وانعدام حياء، ولكنها تتجاوز ذلك- على شناعته – بالمطالبة بتقنين وشرعنة انتهاك حرمة الصيام؟
وهل تسلم للناس أجواء رمضان الروحانية، والنية العامة معقودة على العودة بعد انصرام أيام الصيام، إلى مستنقع المعاصي والموبقات، ببؤره الموبوءة المنتنة، التي يؤطرها شياطين الإنس والجن، بحراستها والمداومة عل ارتيادها، تحت غطاء التنمية والاقتصاد، ومناوشة من يدعو إلى كسحها، وتطهير المجتمع من بقعها النجسة، وصورها القبيحة الكالحة تحت شعارات قبيحة خرقاء؟
وهل يسلم للناس مشهد شهر الطاعة والقربات، وترميم الذوات، والحال أن الحارات والشوارع والطرقات، تكتنفها مظاهر السوء، وتحتفظ ببقية مسيئة من انتهاك مبادئ الستر والحياء والاحتشام؟
إن كل هذه المظاهر السيئة، وغيرها مما يكون قد فاتني ذكره، لمما ينال من الصورة الوضاءة المشرقة لشهر رمضان الأبرك، ويحرم المجتمع من استدرار رحماته، واغتنام بركاته وأفضاله. والمسؤولية في ذلك يقتسمها الجميع، ولكن الكفل الأعظم من ذلك يتحمله أولو الأمر من الحكام والعلماء، وخاصة الهيئات العلمية المخولة بتدبير الشأن الديني، المفروض أن يكون تدبيرا لعملية إصلاح الأفراد، وإصلاح نظم المجتمع ومؤسساته، وفق أحكام الإسلام، ومنظومته القيمية، من أجل توفير الشروط الضرورية، والأجواء المناسبة، لإحداث النقلة نحو الإسلام، قلبا وقالبا، شكلا ومضمونا.
إن فرض شعيرة وركن الصيام في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، لم يكن عبثا، وحاشا أن يكون كذلك، وإنما كان لحكمة أرادها الله سبحانه، ولأسرار يعلمها الله جل جلاله، ويستشف بعضها أهل الله، ومن ذلك – وهو واضح غاية الوضوح – أن تجري عملية تجديد المسلمين عهدهم مع ربهم ومالك أمرهم في كل عام، في مثل الزمن المقدس الذي شهد نزول خاتمة كلمات الله جل جلاله، وخاتم كتبه ورسالاته لخلقه، بواسطة خير خلقه، حبيبه ومصطفاه، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ليكون ذلك فرصة سانحة للتطهير والتحرير والتنوير، لنيل القبول من العلي القدير، واستمداد المدد الغزير، الذي تستصحب روحه وزاده، وتستعمل خطته ومنهاجه، في مواجهة التحديات، وحل المشكلات، وتحقيق العزة والمنعة، والسمو إلى موقع الشهود على الناس.
وقد لا أجانب الصواب إذا قلت، بأن حلول الصيام، في فترة انطلاء سحابة كورونا على الأنام، هو من رحمة الله، بغض النظر عن الخسائر والأضرار الجانبية، التي نسأل الله عز وجل تعويضها وجبر كسورها، فلا شك أن كثيرا من أهل ملة الإسلام، قد ذاقوا طعم الصيام والقيام، وطعم تلاوة القرآن، مذاقا متميزا، بفضل الاعتكاف، الذي عرفه بعض المسلمين سابقا، ويعرفه اليوم جمع غفير من المسلمين، بسبب نازلة كورونا.
إن النموذج الممتاز الذي يصنعه رمضان في ديار المسلمين، لو يعلم المسلمون ويفقهون، ويعدون له العدة، بتوفير الشروط والأسباب، وإزاحة الموانع والعوائق، لهو النموذج الذي تفك به المغاليق وتفتح به دون الخيرات المنافذ والأبواب، وإنه لخليق أن يشارك في هذه الملحمة، و يعمل لنيل هذه المكرمة، أولو النهى والألباب.
وجدة في 25 – رمضان – 1441 موافق 19- ماي – 2020