ذاكرة مدينة وجدة المعرفية: من نوازل علماء وجدة منذ 97 عاما – الحلقة 42
بدر المقري
من الذكريات المرتبطة بميثاق سيرتي الذاتية والموضوعية مع الأستاذ محمد علال سيناصر شفاه الله، أنه دلني سنتي 1993 و 2014 على وثيقتين نادرتين. فأما الوثيقة الأولى فهي تخص ذرية جده الأكبر، العلامة سيدي الحبيب بن المصطفى سيناصر الذي توفي بوجدة سنة 1904، من جهة زوجته الثانية، السيدة الزهراء بنت سيدي المكي المقري، التلمسانية أصلا والفاسية ثم الوجدية دارا و وفاة. وأما الوثيقة الثانية فهي تقترن بنازلة عرضت على علماء وجدة في أواخر 1923، وموضوعها جرح وتعديل أحدشيوخ الزوايا في الغرب الجزائري، مع العلم أن السائل من تونس.
ومن علماء وجدة الذين خصوا النازلة بالجواب، العلامة الحاج العربي بن الحبيب سيناصر (توفي سنة 1932) وأخاه العلامة الحاج أحمد سيناصر (توفي سنة 1942). ولما كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإنني أنبه المتلقي على شاكلة خاصة إلى اختلاف النظر العلمي في جوابي العلامتين رحمهما الله تعالى.
فمما قاله السائل :
(أجاب فضيلة الشريف المعظم، القاضي المحترم، الشيخ السيد الحاج العربي بن الحبيب (سيناصر)، عن السؤال الوارد على علماء مدينة وجدة عموما، في 10 ربيع عام 1342 (19 نونبر 1923)، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الأحد الصمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرشد المسدد، وعلى آله وخدام شريعته إلى الأبد، وبعد،
فقد وصلني سؤال سائل، ذكر فيه ما حمله عليه من الوسائل، صدر من خادم العلم والعلماء، السيد (…)، أبدى فيه التحية وشرح النازلة والقضية، فعليكم السلام ورحمة الله وهنيئا لكم بخدمة العلم، إذ لا أعلى من ذلك شرفا عند الله:
العلم أفضل ما به نال الفتى *** شرفا و لا كالعلم للأشراف
الجواب: إن الشيخ (…)، قد اجتمعت به نحو المرتين أو الثلاثة لا أقطع بالزيادة، وفي وقت الاجتماع لم يصدر ولا رأيت منه ولا من أصحابه شيئا يكدر صفو الشريعة المطهرة، ولا ادعى لنا مقاما ولا تربية، ولا سمعت منه أن له طريقة لها قواعد وأصول بنيت عليها. إنما كان معه في صحبته أناس يظهر منهم أنهم متتلمذون له وأنه شيخهم، وكان واجبا علينا وقتئذ توقيره واحترامه مراعاة لحق الضيافة. فما سألناه عن معتقده، ولا اطَّلعنا على مبلغه في فروع الشريعة، ولا باحثناه عن أهل طريقته، إنما كنا معه نتجاذب أطراف الحديث، ويروج بيننا ما يدخل السرور من قديم أو حديث، مع الأدب في البساط، والتوسط في الانبساط.
هذا ما نعلمه من حال الرجل، ولا أدري إلى الآن ما وقع به التشنيع عليه. هل شيء انفرد به من دون سائر الطرق الوقتية؟ أم شيء ماثل فيه، كلها أو جلها أصلا وفرعا؟
وعليه، فإن كان من أجل شيء انفرد به كاختلال العقيدة السنية أو اختلال عزائم الشريعة أو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة وثبت ذلك بنص من قوله أو ظاهر من لفظه، تعين إرشاده للطريقة المثلى.
فإن تمادى على غيه توجب الإنكار عليه والتحذير لعامة المؤمنين من الوقوع في شرك حبائله. وإن كان ما وقع به التشنيع عليه ماثل فيه غيره من المدعين للتربية في وقتنا، فيتوجب الإنكار فيما خالف الشريعة الغراء على كلهم، ويدخل هو في الخطاب بطريق العموم لا بطريق الخصوص. إذ لو توجب الإنكار عليه خاصة في هذه الحالة، للزم أن يكون لتخصيصه مرجح، ولا مرجح فيما يظهر إلا الإغراض في تمزيق الأعراض، وكل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).
2- فيما أجاب به فضيلة الشريف الأصيل، العالم الجليل، المدرس بمدينة وجدة، البركة الشيخ السيد الحاج أحمد بن الحبيب بن مصطفى (سيناصر):
( الحمد لله رب العالمين، الذي شرح صدر من أراد به خيرا يفقهه في الدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد قدوة العارفين، وآله وأصحابه الهادين المهتدين.
هذا وقد طلب منا الفقيه الفاضل(…) برسالة مؤرخة بعاشر ربيع الثاني 1342 (19 نونبر 1923)، بحث ما هو بصدده عن الشيخ السيد (…) مما ادعى به، لأنا كنا اجتمعنا معه وقت سفره وجلوسه بمدينة وجدة، وهل اجتمعنا بأتباعه أوتصفحنا شيئا من مؤلفاته أو بلغنا شيء من إرشاداته، فأجبنا بحسب الوسع والزمان، وإن كنا لسنا ممن وصل إلى هذا الميدان. فأقول، والله الموفق لحصول المأمول:
لا ريب عند ذي اللب الكامل، والرأي الشامل، أن الشيخ المذكور والأستاذ الذي عليه مسؤول، له قدم راسخة في علم القوم وميز كامل لا ينكره إلا مزكوم، ونسب صالح حسبما ذلك مقرر عند ذوي العقول، وعلم غير مشوب في المعقول والمنقول، وناهيك بالفتح الذي فتح الله به عليه، حيث جعل الإقبال في طريقته له سادات وقادات أتباع يعظمونه ويحترمونه، فحصل لهم بوجوده انتفاع. و لا عبرة بالمنتقد عليه، إن قدر فليدع بما ادعى هو به، والمعاصرة تذهب المناصرة، والشاعر يقول:
فَكُلُّ قَرينٍ بِالمقارنِ يَقتَدي *** عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينه
وفي الحكم العطائية: (لاتصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله)…وكان الحسن بن حمزة يشتم الإمام مالك وينقصه. قال: فرأيت في النوم الجنة فتحت. قلت: ما هذا؟ قالوا: الجنة. قلت: ما هذه الغرف؟ قالوا: لمالك. قال: فلم أنقصه بعد، وصرت أكتب عنه.
انتهى الجواب بالمراد، وعليه الاتكال والاعتماد، وفيه كفاية لمن أنصف، وبالحق رجع واعترف، والائتلاف من مهمات الأمور، والاختلاف شنيعة أزمة الدهور. وبتاريخ تاسع جمادى الثانية عام 1342 (16 يناير 1924). عبيد ربه وأقل العبيد، أحمد بن الحبيب بن المصطفى (سيناصر)، أحد المدرسين بمدينة وجدة، لطف الله به بمنه وكرمه.