شكرا لك كورونا !
اسماعيل الحلوتي
يجمع العديد من الخبراء والمراقبين الدوليين على أن الفيروس التاجي والمجهري كورونا المستجد أو ما بات يطلق عليه “كوفيد -19″، يعد من بين أشرس الأوبئة وأخطرها فتكا بحياة الإنسان في القرن الواحد والعشرين، وتتجلى خطورته في كونه سريع الانتشار ويخلف في طريقه خسائر بشرية فادحة، من حيث تزايد أعداد الإصابات والوفيات في مختلف بقاع الأرض بدون تمييز، فضلا عن تداعياته الوخيمة على الاقتصاد العالمي، بعد أن شل الحركة في البر والبحر والسماء وسائر القطاعات الحيوية والاستراتيجية، وساهم بقوة في تراجع معدلات النمو الاقتصادي في جميع بلدان المعمور.
وبالرغم من أن مواجهته جعلت كافة الدول تستنفر كامل قدراتها وإمكاناتها المادية والبشرية وإن بدرجات متفاوتة، متخذة مجموعة من القرارات والإجراءات الاحترازية والوقائية، فإنها أخفقت في إيقاف اجتياحه المتواصل وإبطال مفعوله والحد من مخاطره منذ آخر أيام السنة المنصرمة 2019، لعدم توصل الأطباء والباحثين إلى اكتشاف علاج ناجع أو لقاح فعال، ولم تجد من وسائل أخرى عدا دعوة مواطناتها ومواطنيها في كل مكان إلى التقيد بقواعد النظافة والسلامة الصحية، وفرض عدد من القيود والقوانين من بينها: حالة الطوارئ الصحية والحجر المنزلي وضرورة حمل الأقنعة الواقية والتباعد الاجتماعي وغيره…
بيد أن ما لا يمكن تجاهله في خضم هذه المعركة غير المتكافئة التي هزت أركان أقوى البلدان، هو أن الجائحة المرعبة ينطبق عليها القول “كم نقمة في طيها نعمة” لما تحمله في طياتها من إيجابيات، حيث ساهمت في تعزيز الروابط الأسرية وإعادة الثقة بين المجتمع المغربي وفعالياته ومؤسسات الدولة، وإحياء قيم التضامن والتآزر والتكافل عبر إطلاق عدد من المبادرات الشعبية والرسمية سواء منها الفردية أو الجماعية، وفي مقدمتها المبادرة الملكية السامية، المتمثلة في إحداث صندوق مواجهة تداعيات كورونا الصحية والاقتصادية والاجتماعية، مما استرعى انتباه الرأي العام الدولي وخلف صدى طيبا لدى كبار الشخصيات ووسائل الإعلام العالمية، التي اعتبرت ما قام به الشعب المغربي في هذه الظروف العصيبة درسا نموذجيا في أرقى معاني التضامن والتكافل، لاسيما بعد تقليص أعداد المستخدمين ببعض المؤسسات الخاصة وإغلاق المقاهي والمطاعم والأماكن الرياضية والترفيهية وغيرها…
وليس هذا فقط بل إنها وإلى جانب ما أحدثته من تغييرات كبيرة في نمط عيش الناس حول العالم، فتحت جائحة كورونا عيوننا على الكثير من عيوبنا واختلالاتنا، دون أن تغفل الكشف عن مكامن قوتنا الكامنة في التلاحم ووحدة الصف وما يملكه شبابنا من قدرات عالية في الخلق والابتكار، تجسدت في صناعة كميات هائلة من الكمامات الواقية وأجهزة التنفس الاصطناعي وسواها. كما أنها منحت كوكب الأرض هامشا من الوقت لالتقاط أنفاسة والتخلص مؤقتا من تلوث الهواء، الذي ظل يعرض صحة الإنسان في كل جهات الأرض لمشاكل شتى، منها أمراض جهاز القلب والأوعية الدموية وتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وداء الربو وغيره…
فما استخلصناه من دروس وعبر يلزمنا ولو على مضض أن نشكر بأعلى أصواتنا “كوفيد -19″، لأنه بالإضافة إلى ما فعل بالإنسانية وكبدها من خسائر فظيعة، أظهر هشاشة القطاع الصحي في عديد بلدان العالم، أعطانا فرصة مراجعة أنفسنا والغوص في أعماقها وجعلنا ندرك حقيقة حجمنا في الكون ومدى ضعفنا أمام بعض الأمراض والأوبئة، إذ لولا ظهور هذا الفيروس العابر للقارات ما كنا لنلتفت إلى منظومتنا الصحية ونهرع إلى دعم بنياتها التحتية وتعزيز تجهيزاتها، ولما اكتشفنا كفاءة أطبائنا وممرضينا، ولا أولينا اهتماما بالبحث العلمي باعتباره حاجة إنسانية ملحة وليس ترفا، أو نجدد النقاش حول هجرة الأدمغة في شخص الخبير المغربي منصف السلاوي، الذي عينه الرئيس الأمريكي “ترامب” قائدا لفريق مكلف بتطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا…
كيف لا نشكر جائحة كورونا وقد فضحت انفراط العقد بين دول الاتحاد الأوروبي وغيرها وكشفت عن أنانيتها، إذ أنه ضدا عن دعوات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والباحثين والمختصين إلى ضرورة التعاضد والتعاون فيما بينها لمواجهة مخاطر الوباء، أبت الكثير منها إلا أن تنفرد بجهودها داخل حدودها دون الالتفات إلى أكثرها تضررا، لاسيما منها تلك البلدان النامية وذات الإمكانات المحدودة التي ظلت تواجه مصيرها لوحدها من غير أي دعم أو مساعدات ؟
ثم كيف لا نشكرها وقد أرغمتنا على التوقف مليا عن اللهاث خلف توافه الأمور، وصالحت الكثيرين منا مع عاداتهم وأنشطتهم القديمة من قراءة ورسم ورياضة في ظل الحجر الصحي، فضلا عن أنها قادت أعدادا غفيرة إلى التخلي عن بعض الممارسات السيئة، وساهمت في مضاعفة اهتماماتنا اليومية بالنظافة والتطهير، وفي انخفاض معدلات الجريمة والعنف والسرقة والحد من حوادث السير؟
إن هذه الجائحة مع كل ما تسببت لنا فيه من آلام وأحزان وهلع وأضرار بليغة، فإنها قدمت لنا خدمات لا تقدر بثمن. إذ علاوة على ما تمت الإشارة إليه أعلاه، غيرت الكثير من تصرفاتنا وحتى طرق اشتغالنا في التعليم وعدة مؤسسات بالقطاعين العام والخاص، ثم إنها علمتنا أسمى معاني الصبر والتضامن والتعاون والتكافل، وكشفت في ذات الوقت عن زيف وانتهازية بعض الأشخاص والمؤسسات، وعرت واقع الفقر والأمية والتفاوتات المجالية والاجتماعية وتدني مستوى الخدمات الاجتماعية وضعف السياسات العامة. فهل يستخلص أصحاب القرار ومدبرو الشأن العام العبرة، ويعجلون بتدارك النقائص القائمة ومباشرة الإصلاحات المؤجلة؟