المنهجية التواصلية والتوصيلية في مباحث النفس والأخلاق عند الغزالي
الدكتور محمد بنيعيش
شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
كثير من الباحثين من قد يحسن التفكير والتحليل والتعمق والتدقيق في باب العلم والمعرفة ،ولكنه سرعان ما يحول بينه وبين هذا الجمال والجلال العلمي نوع من التعصب أو التعاطف أو الضبابية والتوجس، فيسقط من حسابه عدة مصادر ومراجع قد تكون ذات فائدة وتقريب للمعنى على أحسن وجه وأسلم استنتاج ،كما قد يصعب على الكثير منا تقريب المعنى المتسامي للأفهام وملامسة الأذواق والمقصد الرفيع ،فلا يجد إلا أمثلة من الواقع المحسوس، ومن القصص والحكايات .وفي هذه اللحظة تمتزج الحقيقة مع الخيال والبرهان مع الخطابة ،والجدل يتداخل مع البيان ،فتضيع حينها الغاية الراقية ويفقد العلم دوره وحكمه الصارم والقطعي…
أ) الاستمداد والتقاطع بين الصوفية والفلاسفة
ولقد كانت الغاية من الدراسة النفسية أو الأخلاقية عند الغزالي،في شتى المراحل والمباحث، هي السعي إلى تقريب أهمية الأخلاق ودورها في إصلاح الفرد والمجتمع ،وذلك بأسلوب قريب من البرهان وبواسطة استدعاء كل الآراء النفسية أو الخلقية السليمة لتقريب أهمية فضيلة ما إلى الأذهان،ولهذا لوحظ عليه عدم توجيه انتقاد إلى الفلاسفة في هذا المجال بل على العكس من ذلك فقد اعتمد كثيرا من أفكارهم.
إن للغزالي في اقتباسه المسائل النفسية والأخلاقية مبرر طريف من نوعه،إذ يرى أن الفلاسفة هم الذين اقتبسوا من الصوفية وليس العكس.
لهذا يجب رد الحق إلى أهله، ومن ثم سيدخل آراء الفلاسفة النفسية والأخلاقية في علم التصوف.
فنراه يقول بهذا الصدد:”أما الخلقية فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها ،وإنما أخذوها من كلام الصوفية،وهم المتألهون المثابرون على ذكر الله تعالى،وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذ الدنيا،وقد انكشف لهم في مجاهدتهم من أخلاق النفس وعيوبها ،وآفاق أعمالها ما صرحوا بها،فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم توسلا بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم ،ولقد كان في عصرهم بل في كل عصر جماعة من المتألهين لما يخلي الله سبحانه العالم عنهم ،فإنهم أوتاد الأرض، ببركتهم تنزل الرحمة إلى أهل الأرض كما ورد في الخبر حيث قال عليه السلام:” بهم تمطرون وبهم ترزقون،ومنهم كان أصحاب الكهف”…”.
هذا الرأي عنده سيتعرض لانتقادات وردودوجدل غالبيته تميل إلى رفضه والتحيز إلى اعتبار الفلاسفة هم رواد الفكر النفسي والأخلاقي،قد لا يسمح لنا المجال تتبعها بالتفصيل…
خلاصة الحديث عن موضوع الاقتباس عند الغزالي هو أنه في مجمله يبدو متوازنا وموضوعيا ومتناسبا، فهو أصولي بالدرجة الأولى وله مرجعية معينة تصوغ أفكاره وآراءه التي ضمنها كتبه النفسية والأخلاقية ،خصوصا كتابه “الإحياء” ،إذ كما يقول زكي مبارك:”فرأيته لا يضع حكما إلا وقد اقتبسه من حكمة أو مثل أو بيت من الشعر و آية أو حديث أو أثر إلى غير ذلك مما قرأه بنفسه أو سمعه من أساتذته ،ولقد حاولت أن أرجع كل حكم لأصله ولكني رأيت في ذلك منافاة للإيجاز ،وهو شرط هذا الكتاب –أي كتابه:الأخلاق عند الغزالي”.
فبتنويعه للمصادر التي بنى عليها أفكاره قد أراد أن يقول بأن هذه الأخيرة برهانية ومؤسسة على علوم ثابتة ومتفق عليها بين أهل العلم والعقلاء،كما أنه أراد أن يدعم أفكاره بتنويع الاستشهادات حتى يكون وقعها على النفوس قويا،بالإضافة إلى هذا فإن كتبه الأخلاقية قد استهدفت العامة والخاصة من العلماء وكل مستويات الوعي في المجتمع ،لأنه في نظره لا يخلو أحد من الناس في الغالب إلا وهو مريض خلقيا،إن لم يكن ظاهرا فسيكون باطنا لا محالة،وإن لم يكن بسيطا فسيكون معقدا …وهكذا استطرادا.
فلا غرابة إذا كان يخاطب القارئ بشتى اللهجات والأساليب،ابتداء من النص القرآني و الحديثي أصل الأصول، ثم مرورا بالحكم والأمثال والآراء الفلسفية وضرب الأمثلة العامية ،كما يصرح بذلك في كتاب عجائب القلب من الإحياء ،فيقول :”فلنذكر الآن من شرح عجائب القلب بطريق ضرب الأمثال ما يقرب من الأفهام فإن التصريح بعجائبه وأسراره الداخلة في جملة عالم الملكوت مما يكل عن دركه أكثر الأفهام”.
ب) منهج التقريب والتبسيط لقضايا النفس والأخلاق
فبخصوص هذه الأمثلة التقريبية التي كان يستعملها لتوضيح آرائه النفسية والأخلاقية نجد تعسفا واضحا في تأويلها من طرف زكي مبارك ،إذ اعتبرها “ميزة خطيرة لمؤلفات الغزالي وهي إقباله على الخيال،فهو يحسن ويقبح بطريقة فنية بديعة تخلب العقول وتمتع القلوب”.
فلا ندري أين يكمن الخطر في هذه الأمثال التي ضربها في كتبه،وهي في الغالب مستقاة من آراء الصوفية والفقهاء والفلاسفة قبله ؟.
ثم إن عرض لها فلم تكن إلا تفسيرا للنصوص القرآنية أو الحديثية،وقد تكون توضيحا لفكرة فلسفية عميقة قد لا يفهمها العامي في غالب الأحيان،وهو ما رأيناه في النص السابق الخاص بالهدف من ضرب الأمثلة،كما أنه حينما يسترسل في تشعيب الفكرة محل الدرس فقد كان يعتمد على أسس معقولة وملاحظات دقيقة وواقعية في أغلبها ،ثم يستعمل القياس في كل تخيلاته،وذلك بالربط بين الإنسان والحيوان تارة وبين أمثلة الروح والجسد على غرار ما سلكه ابن مسكويه،وكذلك حينما كان يريد أن يعطي لنا توضيحا لعمل القلب فإنه قد لجأ إلى قياسه على الملك وجنوده وكل ما تحتمله المملكة من تنظيم وتشريع وتقاليد،فكان قياسه هذا يقوم على أسس معقولة ومقبولة يقرها الواقع والذوق السليم ولا يجد الخيال المتزن فيها منافرة أو تعارضا .
يقول بخصوص موضوع القلب بعدما عرض له بالدرس الموضوعي وتشريح بنيته المجسدة بطريقة علمية دقيقة:
“فهذه أقسام جنود القلب وشرح ذلك بحيث يدركه فهم الضعفاء بضرب الأمثلة يطول،ومقصود مثل هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء والفحول من العلماء،ولكنا نجتهد في تفهيم الضعفاء بضرب الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم”.
من هنا يبدو تناقض زكي مبارك في دعواه بأن طريقة الغزالي الخيالية في تقريب أفكاره للقارئ كانت تمثل خطرا في مؤلفاته وذلك حينما أقر بأنه “كان لا يورد فكرة إلا وهي مقتبسة من حكمة أو مثل أو بيت من الشعر…”
ليس المقصود من هذا الاعتراض تعقب الانتقادات الموجهة ضد منهجه في علم النفس والأخلاق،ولكن مرادنا الإشارة إلى خصوصيات هذا التأليف حتى أنه أشكل الهدف منه على بعض من لم يقم بمسح شامل لكل محتويات كتبه سواء الإحياء أو غيره.
حينما نرجع إلى الكتابات الأخلاقية قبله أو بعده فإننا سنجدها غالبا ما كانت تصاغ إما على شكل جمل خلقية وأمثال وقصص،وإما على صورة دراسة منظمة تسعى إلى إقامة البرهان وتثبيت الأفكار بالحجج العقلية والحسية كما لاحظ أحمد أمين بأنه بما كان :”جامعا بين المذهبين في كتابه الإحياء،فهو يبدأ الكلام في كل فضيلة أو رذيلة بالآيات والأحاديث وما روي عن كبار الصحابة والتابعين ثم يتبع ذلك بالتحليل النفسي للفضائل والرذائل،وقد جمع بين المذهبين كما حاول الجمع بين الفقه والتصوف وبين الفلسفة والدين” .
قبل اختتام الحديث عن خصائص الاقتباس عند الغزالي لابد من الإشارة إلى مصادر أخرى غير الصوفية والفلسفية اعتمدها في كتابه الإحياء (خاصة)ألا وهي: المصادر الفقهية،وهي مصادر متنوعة ؛غير أنه اعتمد آراء ومأثورات الفقهاء الذين كانوا يمثلون اتجاها صوفيا في سلوكهم وآدابهم ،منهم على سبيل المثال: الإمام مالك و أبوحنيفة والشافعي وابن حنبل…وهؤلاء فيما يرى أنهم كانوا يمثلون ويطبقون قواعد السلوك عمليا ،لهذا فإن جل اقتباساته عنهم كانت تتمثل في عرض جوانب من سيرهم وما ورد عنهم من مواقف وأقوال مجملة مثل قوله:”وكان في الفقهاء من يقول لا أدري ،ومنهم سفيان الثوري ومالك بن أنس و أحمد بن حنبل وبشر بن الحرث…”.
من ثم نجده يستشهد بسيرة هؤلاء الفقهاء ويرى أنهم مثال الأتقياء ولم يكن لديهم فصل بين الفقه والتصوف،بل كان هذا الأخير دائم الحضور في أعماقهم ووجدانهم.
في حين؛يرى أن فقهاء عصره لم يعودوا يمثلون سوى سطحيات وقشر ما كان يتضمنه مفهوم الفقه عند الأولين، فيؤرخ لهذا التحول بأنه في “القرن الرابع حدثت مصنفات الكلام وكثر الخوض في الجدال والغوص في إبطال المقالات ثم مال الناس إليه وإلى القصص والوعظ بها فأخذ علم اليقين في الإندراس من ذلك الزمان، فصار بعد ذلك يستغرب علم القلوب والتفتيش عن صفات النفس ومكايد الشيطان،وأعرض عن ذلك إلا الأقلون،فصار يسمى المجادل المتكلم عالما والقاص المزخرف كلامه بالعبارات المسجعة عالما،وهذا لأن العوام هم المستمعون إليهم،فكان لا يتميز لهم حقيقة العلم من غيره ولم تكن سيرة الصحابة رضي الله عنهم وعلومهم ظاهرة عندهم حتى كانوا يعرفون بها مباينة هؤلاء لهم”.
لئن كان لغزالي قد اعتمد المصادر الفقهية في كتابه الإحياء فإن أكثر ما وظف اقتباساته منها في الربع الأول والثاني منه خاصة ،كما أن كتاب الماوردي الأخلاقي “أدب الدنيا والدين” قد يبدو غير حاضر فيه، سواء من حيث مادته المعرفية أو المنهج،رغم أنه يوجد نوع من التقارب بين الرجلين في تفصيل الأسباب التي قد تكون وراء هذا السلوك أو ذاك…
هذه هي إذن بعض المميزات الخاصة بمنهج التأليف و الاقتباس عند الغزالي،التي يبدو فيها أنه كان طالب علم موضوعي وليس بساع لمذهب أو غاية ذاتية وتقليدية،ويتجلى هذا من خلال تنويع مصادر معرفته،لأن العارف العاقل كما يقول :”يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول،فإن كان حقا قبله سواء كان قائله مبطلا أو محقا،بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالما بأن معدن الذهب الرغام ،ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب وانتزع الإبريز الخالص من الزيف و البهرج مهما كان واثقا ببصيرته،فإنما يزجر عن معاملة القلاب القروي دون الصيرفي البصير ،ويمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق،ويصد عن مس الحية الصبي دون المعزم البارع”.
فيا أيها الباحثون: هلا قد حان الوقت لاستعادة زمام المبادرة للرقي بالبحث العلمي والصرامة والفكر الموضوعي حتى نخلص مما نحن فيه من التيه وطغيان الأكاذيب والمخوفات والفزاعات الإعلامية والتعميمية على حياتنا اليومية وقدراتنا الفكرية والتحليلية …؟.