الدرس التاريخي بالجامعة المغربية: نظرات بيداغوجية على ضوء تاريخ الأوبئة ونازلة كورونا
مصطفى نشاط، كلية الآداب، وجدة
تتغيا هذه الورقة بسط بعض الانطباعات التي عنّت لي من خلال تتبع لأهم الأوبئة والكوارث التي ضربت المغرب عبر تاريخه ، واستحضارا لنازلة “كورونا” ، في علاقة مع الحيّز الذي يحظى به تدريس هذا الموضوع بشعب التاريخ بالجامعة المغربية.
ومن أجل بسط هذه الانطباعات ، بدا لي توطينها من خلال العناصر التالية:
– في الحاجة إلى إعادة النظر في درس التاريخ الاجتماعي بالجامعة المغربية.
– استثمار بعض الدروس من تاريخ الأوبئة والكوارث في أفق بناء طالب مواطن إيجابي.
– تعليم الدرس التاريخي عن بعد بالجامعة المغربية زمن كورونا.
وقبل كل ذلك، قد يكون من المستحسن الوقوف عند مصطلح كثُر رواجه في تلازم مع وباء كورونا الذي اجتاح العالم على حين غرّة ، وهو مصطلح” الجائحة”. فالجائحة لغة هي ما يصيب المال فينقصه أو يستأصله ، وبذلك ينصرف معنى الجائحة إلى ما له علاقة بهلاك المال ، وليس إلى الوباء المنتشر ، كما يفيده معنى الكلمة في الفرنسية
” Pandémie ” . و نقرأ في الموسوعة الفقهية أن الجائحة هي ” كل شيء لا يستطاع دفعه لو علم به، كسماوي، كالبرد والحر ، ومثل ذلك ريح السموم والثلج والمطر والجراد والفئران والغبار والنار ونحو ذلك…” ويتبين أن الجائحة تشمل كل إتلاف للممتلكات لا دخل لفعل الإنسان فيه، وقد استثنى بعض الفقهاء معنى الجائحة ممّا يصدر عن فعل آدمي كالسرقة . و قد انتقل استعمال مفهوم الجائحة لدى العامة للدّلالة على السلوك السلبي ، إذ تحضر لدى الشخص “الجايح” أومن “ضربته الجايحة” صفات اللامسوؤلية واللامبالاة والخمول.
في الحاجة إلى إعادة النظر في درس التاريخ الاجتماعي بالجامعة المغربية:
تتوافر الخزانة التاريخية على عدد محدود من المنشورات ذات الصلة المباشرة بموضوع تاريخ الأوبئة والكوارث والمجاعات والقحوط ، ويمكن عدّها على رؤوس الأصابع ، وعرضها كالتالي اعتمادا على ترتيب تاريخ صدورها : – محمد أمين البزاز، الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19 م (1992)-الحسين بولقطيب، جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين(2002)- مجموعة مؤلفين، ضمن ندوة المجاعات والأوبئة في تاريخ المغرب ، منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي(2004)-تريا المرابط أزروال، الزلازل الكبرى بالمنطقة المغاربية ومخلفاتها على الإنسان ومحيطه(2005)- عبد الهادي بياض، الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوكيات وذهنيات الإنسان بالمغرب والأندلس(2008)- برنار روزنبرجي وحميد التريكي ، المجاعات والأوبئة في مغرب القرنين 16 و 17 م ، ترجمة الأستاذ عبد الرحيم حزل(2010) – بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي بالمغرب 1912-1945(2013).
تنحصر هذه الحصيلة فيما هو منشور عن الموضوع، وإلا فثمة بعض الأعمال غير المنشورة عنه ، ما تزال مرقونة، وهذا ما يطرح تساؤلا عن جدوى مناقشة بعض الأعمال الأكاديمية ،لتبقى حبيسة رفوف المكتبات الجامعية ، وهلاّ تمّ التفكير في نشرها الكترونيا لتعمّ الاستفادة منها.
إن ما كتب في موضوع تاريخ الأوبئة والمجاعات والكوارث يشي بأن الحصيلة هزيلة جدا ً عن ظواهر بنيوية أرّقت المغاربة عبر تاريخهم ، وحكمت – ضمن عوامل أخرى-على اقتصادهم بأن يبقى اقتصاد ندرة أو قلّة.
وانعكست هذه الهزالة على ضعف ما يحصل عليه الطالب المغربي من تكوين في التاريخ الاجتماعي ، ولعل نظرة إلى المجزوءات المُدرّسة بشعب التاريخ بالجامعات المغربية ، تسمح بالقول بأن التكوين منصبّ أساسا على ما له صلة بالتاريخ السياسي للدول المتعاقبة على تاريخ المغرب ، دون ربطه بما كان يعتمل به من أفعال وعوامل اجتماعية أو اقتصادية . بل إن حتى ما يكتسبه الطالب من تكوين في التاريخ السياسي ، يتّسم بوجود بياضات عن بعض الحلقات والفترات ، بله بعض العهود ، وذلك في ظل تقلّص عدد الحصص مع الدخول في نظام الفصول الذي يسمح في أحسن الحالات بعدد يتراوح ما بين 10 و14 حصة . وإذا استحضرنا ما يفرضه هذا النظام الجامعي من اقتطاع لمدة غير قصيرة من الزمن الجامعي من أجل تحضير الامتحانات وإعدادها والإعلان عن نتائجها ، تبيّن بالملموس أن الطالب الذي يقتصر على البرنامج المقروء ، قد يحصل على الإجازة ويغادر مدرجات الجامعة ،وهو يحمل تكوينا مبتورا عن تاريخ بلاده . ولنا أن نسأل طلبتنا عن معلوماتهم عن بعض الإمارات التي حكمت المغرب قبل المرابطين ، مثل إمارة بني مدرار بسجلماسة أو إمارة نكور ،أو إمارة الوطاسيين الذين حكموا المغرب بعد ضعف دولة بني مرين .
ويبدو أن نازلة كورونا قد أجبرت المغاربة قهرا على معرفة ماضيهم ومدى حضور الأوبئة به. مصداق ذلك أن من أكثر الكتب التي تمّ تحميلها منذ الزيارة غير المرغوب فيها لهذا الوباء لبلادهم ، الكتاب/ الأطروحة للمرحوم البزاز. ولعل من أهم ما قد يفسر هذه العودة القهرية للمغاربة إلى تاريخ الأوبئة لديهم ، يبرز عاملان اثنان هما:
*إن المغاربة –لربما- لم يعيشوا باستثناء ما عاشوه خلال زلزال اكادير وزلزال الحسيمة اللذين كانا محليين ، أزمة هلع ، مثل التي يمرون بها حاليا مع اجتياح وباء كورونا ، وذلك منذ سنة 1944-1945 المعروفة لديهم بعام “البون” التي تزامنت مع قحط كبير ، وزاد من حدته استنزاف فرنسا لموارد المغرب لتغطية حاجياتها في الحرب العالمية الثانية.
* قد يكون كورونا أكثر وباء عبر التاريخ حظي بهذا الزخم من الكتابة ، إذ إننا إزاء كتابات عن هذا الوباء مسّت كل جوانبه ، وعقدت حوله ندوات ولقاءات افتراضية عديدة، وقد لا نبالغ إذا اعتبرنا هذا الزخم المتوافر عنه وصل إلى حد ّالتخمة. ولعل أهم ما ساعد على ذلك ، أننا أمام عولمة للوباء وتطور لا مثيل له في باب الاتصال والتواصل والحصول على المعلومة. يحصل كل هذا ، علما بأنه أقل فتكا مقارنة مع أوبئة سابقة ، ولم يصل بالمغرب مثلا إلى مستوى عدد الضحايا التي تخلفها به حوادث السير التي تبلغ في المتوسط 10 ضحايا يوميا ، أي ما يعادل 300 ضحية شهريا.
لقد أصبحت الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في الدرس التاريخي بالجامعة المغربية ، وذلك بإيلاء مزيد من الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي ، ومن ضمنه تاريخ الأوبئة والكوارث الطبيعية التي بدونها قد لا نستوعب بعض الأسباب الحائلة دون حصول الإقلاع . وبمراعاة كيفية استقبال بعض المغاربة للوباء الحالي ، تبدو الحاجة ماسة أيضا لتدريس تلاميذتنا وطلابنا مجموعة من الصفحات المشرقة من تاريخنا من أجل التحسيس والمعرفة التاريخية وتغيير بعض المسلمات . ويمكن بلورة هذه الحاجة من خلال بسط الاستفهامات التالية:
لماذا لا تبرمج في المقررات الدراسية رسالة لسان الدين بن الخطيب “مقنعة السائل عن المرض الهائل” التي كتبها للردّ على منكري العدوى لمّا اجتاح وباء الطاعون الجارف بلاد المغرب والأندلس في عصره ؟ لم يكن ابن الخطيب شاعرا ومؤرخا وأديبا وموسيقيا فحسب، بل كان أيضا طبيبا مجرّبا ، وقد ألف عشرة كتب في الطب، لعل أهمها كتاب عمل من طبّ لمن حب ّ الذي عرف فيه بمختلف الأمراض السائدة في عصره وطرق الاستشفاء منها. وأما رسالته في الطاعون فلعلها أوفى رسالة علمية تدافع عن الحجر الصحي ومشروعيته الطبية والدينية.
لماذا لا يتم تدريس التفسير العلمي لابن رشد الحفيد(ت 595ه) لحدوث الزلازل كما بسطه في كتابه” تلخيص الآثار العلوية” ؟
لماذا لا تُخصّص حصة للوقوف عند مارستان لعلاج الجذمى بناه المنصور الموحدي بمراكش ، وقد كان بمواصفات علمية وعالمية ، في فترة كانت فرنسا تحرق أو تقتل المجذومين بصفة جماعية؟ أو تخصص حصة لدراسة مارستان سيدي فرج الذي أسسه السلطان المريني بفاس لعلاج المرضى المجانين، ومن طرق العلاج المتبناة به زيارة فرقة موسيقية مرتين للمارستان ، تكريسا لعلاج الأمراض النفسية والعقلية بالموسيقى.؟
لماذا لا يتم تدريس رسالة السلطان المنصور السعدي لابنه أبي فارس لمّا حلّ الطاعون بمراكش ، فأمره بترك قصر المدينة والعيش بالخيام وعدم لمس أي رسالة تصله قبل أن يغمسها في الخل ، وهذه كلها إجراءات تدخل في باب التعقيم والاحتراز من العدوى.؟
لعل من أهم تداعيات كورونا تأثيرها في نفسية المغاربة بشكل لم يألفوه – خاصة أن الهلع قد يؤثر سلبا في المناعة – وقد لاحظنا درجة الهلع الذي ألمّ بهم لمّا فاجئهم ، وازداد منسوب الهلع مع دخولهم في الحجر الصحي ، حتى إن المرء أصبح يتوجّس من أيّ كان خوفا من حمله للفيروس. و قد يكون من أهم مطالب الدرس التاريخي الاهتمام بالتأريخ النفسي الاجتماعي والانكباب على تاريخ الأحاسيس والمشاعر باعتباره جزءاً من تاريخ الذهنيات ، على غرار ما أنجزه “جون دوليمو ” عن الخوف بالغرب
Jean Delumeau, La peur en Occident du 14 au 18 siècles.
ولا يبدو أن الخزانة التاريخية المغربية تتوافر على دراسة أكاديمية مماثلة تبحث في تاريخ الخوف بالمغرب ضمن المدة الطويلة ، علما بأن التونسي محمد العادل لطيف حاول أن ينبش عن تاريخ الظاهرة ببلاد المغرب في العصر الوسيط ، غير أن دراسته ركزت أكثر على افريقية(تونس). والواقع أن المغربي عبر تاريخه الطويل ظل يبدي مشاعر الخوف تجاه عدة مظاهر ، مثل الخوف من البحر أو المخزن أو الأسود أو الأرواح الشريرة ، وبطبيعة الحال من تأثيرات الأوبئة والمجاعات والقحوط والكوارث.
وتبقى الحاجة ماسة إلى تطعيم الدرس التاريخي الجامعي عن الأوبئة والمجاعات وباقي الكوارث بما هو وارد ببعض الدراسات الأكاديمية العالمية الجادة من تفسيرات للظاهرة. ويمكن أن نتمثل في هذا السياق بالتفسير الذي أورده الأميركي “شلدون واتس” في كتابه “الأوبئة والتاريخ : المرض والقوة الامبريالية” حيث تحدث عمّا أسماه ” محرقة وباء الجذري” . ذلك بأن هذا المرض أدخله الأوربيون عقب الاكتشافات الجغرافية الكبرى إلى الأميركيتين ، مما أفضى إلى مقتل 80 بالمائة من السكان الأصليين من الهنود الحمر، لأن مناعتهم ضد المرض كانت منعدمة باعتباره مرضا جديدا وغريبا على أجسامهم وأرضهم ، وبالتالي كان الجذري “أداة قوة امبريالية”.
كما أن عولمة وباء كورونا تقتضي إعادة النظر في التحقيب التاريخي . ولا ريب في أن التحقيب الذي هو ليس بالعملية التقنية ، إنما وعي بالزمن، يحتاج إلى المراجعة مع تغيير المعطيات والأحداث التاريخية .لقد دأبنا في دراسة التاريخ من المدرسة إلى الجامعة على الأخذ بالتحقيب السائد الذي يقسم الماضي إلى حقب القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وهو تحقيب أوربي بالكامل ، إذ كل الأحداث المفصلية التي استند عليها في تقسيم الماضي إلى حقب ، ترتبط بالتاريخ الأوربي، انطلاقا من سقوط روما، فعصر النهضة ، فالثورة الصناعية ، ووصولا إلى سقوط جذار برلين ….وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن غياب حضارات مهمة في التاريخ البشري من هذا التحقيب ، مثل الحضارة الإسلامية و الحضارة الصينية على عهد أسرة “تانغ” اللتين شهدتا تطورا ملحوظا في العصر الوسيط ، مقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع بأوربا.
استثمار بعض الدروس من تاريخ الأوبئة والكوارث في أفق بناء طالب مواطن إيجابي: رغم أن الأوبئة والمجاعات وباقي الكوارث حضرت بشكل بنيوي في تاريخ المغرب ، فإن دراستها قد تفيد في تكوين طالب يتفاعل إيجابيا مع محيطه ووطنه. ويمكن أن نوطن مجالات هذه الاستفادة من خلال مظهرين مستوحين من تاريخ الأوبئة ومن نازلة كورونا .
*كيف تأتى للمغاربة الصمود إزاء الأوبئة؟ من المعلوم أن البشرية ظلت تعاني من فتك الكثير من الأوبئة قبل أن يهتدي العلماء إلى تلقيحات ضدها في القرن 19 م ، كما هو مع التلقيح ضد الكوليرا سنة 1884 و ضد الطاعون سنة 1894 . وقد تمكن المغاربة من التكيف مع الأوبئة بطرق وبآليات مختلفة ، وبما أن هذا الموضوع طُرق مؤخرا كثيرا ، نشير بعجالة إلى أهم تلك الآليات ، وتتمثل في ما يلي:
-آلية العودة إلى الطبيعة(حسب تعبير روزنبرجي)، إذ كلما حلّت مجاعة بالمغاربة، كانوا يجدون في الحشائش والنباتات الطبيعية الملاذ للتخفيف من آثار المجاعة عليهم. و من بين أهم أغذية الجوع، يبرز نبات “ايرني”(البگوگا-تابگوگت)، وهي عبارة عن بصيلة كان أجدادنا يحفرون عنها ويجففونها ، ثم يطحنونها ليصنعوا منها خبزا ، وما هو بالخبز. ولعل من المفيد التفكير في جمع تراث الخصاصة والمسغبة في تاريخ المغرب ، مثل الأدوات المستعملة في الحفر عن الحشائش …وكذلك مجموعة الأهازيج والأمثال التي كانت متداولة لدى المغاربة للتعبير عن تلك السنوات العسيرة.
-آلية الاستفادة من المخازن الجماعية(أكادير-أجدير …) التي يمكن اعتبارها شكلا من أشكال النظام البنكي المتقدم في عصرها تحسّبا للسنوات العجاف. وأكتفي بالإشارة إلى أن جبال بني يزناسن احتضنت العديد من المطامير التي أقامها أجدادنا تحقيقا لهذا المقصد ودرأً للهجمات الاستعمارية الفرنسية ، وكانت منطقة “غونان” من أهم المناطق المتوافرة على تلك المطامير ، وهذا مجال قد يوظف في إطار زيارات ميدانية تدعم الدرس التاريخي الجامعي…
-آلية التآزر الاجتماعي الذي أبان عنه المغاربة كل ما حلّ بهم مكروه ، وهذا التلاحم كان يتحقق أفقيا بين مختلف الشرائح الاجتماعية أو عموديا بين المخزن والسكان . وهذا أمر برز مع وباء كورونا الحالي ، مما أسهم إيجابيا في ارتفاع منسوب الثقة بين المغاربة.
*تعامل المغاربة مع مسألة الحجر الصحي: يبدو من خلال تاريخ الأوبئة ومن خلال تداعيات كورونا أن الحاجة تقتضي استحضار اللقطات العلمية الإيجابية في موقف المغاربة من الأوبئة. إن العودة إلى معظم آداب الطواعين والنوازل المغربية التي استُفتي فيها عن حلول الوباء ببلد ما ، تدفع إلى القول بأن الاتجاه الطاغي بها، هو ذاك الذي دعا إلى الاستسلام للوباء وعدم الفرار منه. والظاهر أن أهم كتاب تأثرت به تلك الآداب وتلك النوازل هو كتاب”بذل الماعون في فضل الطاعون” لابن حجر العسقلاني (ت 852 ه )، علما بأنه تمّ اجتزاء ما يسمح بتدعيم ذلك الاتجاه، ولم يُلتفت إلى تأكيده في مقاطع أخرى على ضرورة الابتعاد لتفادي العدوى ، ومن ذلك ملاحظته عن خروج الناس عند نزول الوباء الجارف(الطاعون الأسود) وهم يصرخون صراخا عاليا” فعظم الطاعون بعد ذلك وكثر”. إن الاتجاه الذي ينكر العدوى لا ينسجم بتاتا مع دعوة الدين الإسلامي لحفظ النفس. مصداق ذلك الآية 195 من سورة البقرة ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” وأحاديث نبوية تدعو إلى الاحتراز من الوباء. ومن الجدير بالإشارة إلى وجود سابقة لتعطيل أداء الصلوات بالمسجد في تاريخ المغرب ، وقد تزامنت- حسب القادري في نشر المثاني- مع غياب الأمن زمن ضعف السلطة السعدية سنة 1631 م “ولم تُصلّ الجمعة ثالث رمضان وعطلت التراويح وصلى ليلة القدر رجل واحد “.
يعزّز ما نعيشه حاليا مع وباء كورونا ومقارنته بما عاشه المغاربة في مواجهتهم التاريخية الطويلة مع الأوبئة مقولة أن التاريخ يكتب من الحاضر. ولم يعد المؤرخ مجرد نابش عن الموتى وأخبارهم ، بل هو مطالب بالانخراط في عصره ومعني بهمومه . وإذا كانت كتابة التاريخ تستوجب وجود مسافة زمنية بين المؤرخ والأحداث التي يؤرخ لها، فإن ما يعتمل حاليا بفعل تداعيات كورونا ، يقتضي منه طرح الأسئلة عمّا يجري ومحاولة أن يفهمه في ظل الدرس التاريخي، ويترك التنبؤات والتفعيل لأهل الفكر الاستراتيجي ولأهل السياسة. إن المؤرخ فعلا – كما شبّهه لوروا لادوري- هو بمثابة المنجمي الذي يغوص في أعماق الأرض ليستخرج منها المادة الخام ويقدمها لغيره لاستغلالها، لكنه في مثل الرّجّات التي تحدث في العالم ، أو في سباق ما يسميه ابن خلدون بالتغير “بالمباينة” ، لا يجب على المؤرخ أن يقف موقف المتفرج حيال ما يجري حوله، بل يدلو بدلوه من خلفية الدرس التاريخي.
وقد علّمنا التاريخ أن أوربا تمكنت من إيجاد سبل الإقلاع كلّما حلّت بها أزمة من الأزمات، وهو ما عبّر عنه “بيير شوني ” بضرورة رفع التحدي. هكذا نلاحظ –مثلا- أن خروجها من حقبة العصر الوسيط جاء بعد أن شهدت أزمتين حادتين ، وهما الطاعون الأسود والأزمة النقدية الناتجة عن ضعف مخزونها من الذهب.
3- تعليم الدرس التاريخي عن بعد بالجامعة المغربية زمن كورونا: فرض هذا الوباء على البشرية سلوكات تقتضي أن كل شيء أصبح يتم عن بعد، بما في ذلك منظومة التعليم. والواقع أن لا أحد كان يتوقع أن تنتهي السنة الجامعية بما انتهت عليه بعد انطلاق الدورة الربيعية منها. ولحلّ معضلة توقف الدراسة ، تبنى الدرس الجامعي تقنية التعلم عن بعد. وجرى تصريف الدروس المتبقية عبر وسائط متنوعة ، منها وضع مقررات بالموقع الاكتروني للمؤسسة الجامعية وتسجيل دروس باليوتوب والقيام بتسجيلات صوتية للمجزوءات المبرمجة بالإذاعات الجهوية والمركزية …..
لا يمكن أن ننكر بعض المزايا التي يتيحها التعلّم عن بعد ، إذ سمح بمرونة في تدبير الدرس الجامعي في الزمان والمكان ، و فسح المجال للطالب بتدبير مسألة الوقت وفرض نهج التواصل عليه ، واستخدام الوسائل التكنولوجية بالاعتماد على نفسه وهو منزوي بمنزله.
غير أن مجموعة من الإكراهات قد تقف دون الاستفادة الكلية من الوسائل التكنولوجية المتطورة في التعلم عن بعد ، وأركز –هنا- على ما يتعلق بالدرس التاريخي الجامعي. لعلّ من أكبر المعضلات التي تعاني منها المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح غياب الكثير من طلبتها عن المحاضرات بغياب آليات ملزمة لحضورهم . وقد لا يكون من المبالغة القول بأن نسبة الحاضرين منهم للدروس والمحاضرات قد لا تتجاوز في أحسن الأحوال العشر من نسبة المسجلين، وقد تعادل نسبة الحاضرين للامتحانات نسبة الغائبين عنها. والحالة هذه أن الكثير من الطلبة الذين لم يتمكنوا من حضور المحاضرات قد يجدون في التعليم عن بعد ضالتهم لاستدراك ما فاتهم من دروس متى شاءوا بالرجوع إلى ما سُجل منها. ويبقى المشكل مطروحا عن ضمان رجوع كل الطلبة للدروس والمحاضرات إذا لم تُفعّل -على غرار بعض الدول الغربية مثل كندا- آليات لإلزام الطلبة على الحضور وتسجيلهم بمنصات التعليم عن بعد.
ثم إن التعليم عن بعد لا يمكن أن يكون بديلا للتعليم الحضوري .وإذا كان التعليم عن بعد قد فرض نفسه في هذا الظرف الاستثنائي ، وإذا كانت ضرورة مواكبة التطورات التكنولوجية تُحتّم الانخراط فيما تتيحه على مستوى العملية التعليمية ، فإن “كاريزما” الأستاذ والتواصل معه ومع باقي الطلبة ، تحتفظ بأولوية التعليم الحضوري، وتجعل من التعليم عن بعد مكمّلا له.
لقد فاجئ وباء كورونا الجميع، ويتحتّم على الجميع التحسّب لما بعده بمختلف الميادين، ولا مناص من تسريع وثيرة عملية التحول الرقمي بالمنظومة الجامعية . ويقتضي تجويد التعليم عن بعد، التوافر على مجموعة من المقتضيات اللوجيستيكية ، كالرفع من صبيب الانترنيت تفاديا لأي خلل تقني، وانخراط شركات الاتصال في العملية . وأما مسألة توافر الطالب على الحاسوب ، فقد لا تشكل معضلة قائمة –كما هي بالتعليم الابتدائي أو الثانوي- مادام أن عدم حيازة الطالب أو الطالبة للهاتف المحمول، قد تبدو واردة بالتعليم الجامعي. بينما يبقى التفكير في تكوين مستمر للأستاذ وللطالب على استخدام الوسائل التكنولوجية المعاصرة في العملية التعليمية أهم رهان يجب العمل على تطويره .
تلكم بعض الانطباعات التي عنّت لي عن الدرس التاريخي بالجامعة المغربية من خلال تاريخ الأوبئة ونازلة كورونا . وما أحوجنا إلى تقديم تجارب أخرى من الدرس ذاته، أو من حقول وتخصصات جامعية أخرى استشرافا لتجويد الدرس بالجامعة المغربية ما بعد كورونا الذي لا مراء في أنه خلخل العالم برمته على مختلف المستويات .