بحثا عن التركيبة السحرية لربح مبلغ مالي وهمي لتحقيق أحلام، مواطنون فقراء مهووسون ب”التيرسي” أفلسوا بالمقامرة بأجورهم وبأثاث بيوتهم
عبدالقادر كتــــرة
اعتادوا، في الأيام العادية، التوجه باكرا إلى مقر الرهان على الخيول والارتكان إلى طاولة من طاولات المقاهي المجاورة المعروفة في وجدة، فرادى أو جماعات، حسب مزاج كلّ مراهن وعاداته في الرهان، مدمنون لا زالوا مواصلين الركض خلف الخيول، بنفس الوكالات والمقاهي المرخصة لذلك رغم تفشي وباء فيروس كورونا المستجد “كوفيد 19” غير مبالين بالأخطار واحتمال انتشار العدوى، حيث إن هوس الخيول أقوى من الوهم وأشدُّ من الطمع…
يستخرجون أوراقا أو جرائد مختصة في الرهان على الخيول، يغوصون في فكّ رموز عشرات التركيبات من الأرقام، المقترحة من طرف المتخصصين في الرهانات الخاصة بالمسابقات اليومية منها البسيطة حيث الرهان على حصان واحد رابح أو محتل للرتبة الثانية، أو الرهان المركب حيث يتم تركيب مجموعة من الخيول المفترض دخولها في الرتب الأولى من “الثنائي”( الكوبلي Couplet) و”الثلاثي” (التيرسي Tiercé) والرباعي” (الكوارطي quarté) ثم “الخماسي” الكانتي(quinté) ، ثم يناقشون ويتدارسون أوصاف ومؤهلات الخيول واختصاصاتهم في الجري والقفز والركض بالعربات وبدونها فوق الحلبة الرطبة أرضيتها أو الصلبة من حلبات المدن الفرنسية المعروفة والمشهورة وفي مقدمتهم حلبة “فانسين” وحلبة “لونشان” وغيرهما، ثم الأسطبلات “المتخرجة” منها تلك الخيول ومروضيها وفرسانها والجوائز المحصل عليها…
تراهم منهمكون أمام فنجان قهوة أو براد شاي يقدمه لهم نادل المقهى دون أن يطلبونه بحكم معرفته المسبقه لهم وبأسمائهم وبطلباتهم، يُبحرون في “علم الرهان على الخيول” بحثا عن التركيبة السحرية التي قد تخرجهم من فقرهم ولو لحين أو على الأقل تمنحهم متعة الربح والفوز بمبلغ مالي، ثم يضعون علبة السجائر أمامهم ويشرعون في التخطيط بتركيز ووضع تركيبات من الأرقام لا يفهم منطقها ولا عقلانيتها إلا صاحبها ويتم من فينة إلى أخرى، تبادل بعض أرقام الخيول.
” دائما يفلت لي واحد العود، ما عندي زهر، ولو كان نكبضو غير مرة في لوردر(l’ordre التركيبة الصحيحة) في شي ربحة نتاع ملايين، والله ما نعاود نلعبو هاذ التيرسي…”، يقسم بأسف وحسرة نادل بأحد المقاهي بوجدة مدمن على هذا النوع من القمار كان سببا في تشتيت أسرته وطلاق زوجته، ثم يخسر ويعاود الكرة، ثم يحاول مرات أخرى عدد المسابقات وركوض الخيول، حيث يعيش هؤلاء على أمل العثور على التركيبة الرابحة من بين عشرات الآلاف من التركيبات التي يتم تسطيرها من طرف هؤلاء المدمنين عبر جميع المدن المغربية، بل من القرويين من أصبح يتجشم عناء الانتقال من بلداتهم للمقامرة فرادى أو جماعات بالاشتراك في الرهان مع زملاء له في “البلية”.
لم يمنعهم إغلاق المقاهي لأبوابها خلال شهر رمضان ولا فترة تفشي الوباء حيث كانوا يصطفون مع الساعات الأولى من كلّ صباح أمام مقر الرهان مثل باحثين عن عمل في “الموقف” مسلحين بأوراق “التيرسي” حصلوا عليها يوما قبل ذلك، وقلم جامد لتدوين التركيبات التي خلصوا إليها بعد تفكير طويل وتأمل عميق.
“يجد المقامر المغامر متعة ونشوة في اللعب خاصة في الفترة التي تسبق إعلان النتائج حيث بعد تسطيره للتركيبات الرابحة واقتنائه للأوراق يهيم خياله في بناء ما يتمناه لو كان غنيا…” يوضح الدكتور عبد المجيد كمي، اختصاصي في الأمراض النفسية والعصبية ومجاز في علاج الإدمان على الخمر والمخدرات، في تحليل نفسية المقامر، قائلا …”هناك حالة نفسية مشتركة بين المقامرين تتعلق بمتعة انتظار الربح لكن لا يمكن أن نربط ذلك بشخصية معينة، بل هناك من المقامرين من يقامر مع يقينه أنه خاسر في مغامرته ولكن يبحث عن تلك المتعة ولو كانت واهية ووهمية ويبقى هدفه هو اللعب وليس الربح”.
حفظ هؤلاء المقامرون الفقراء التائهون في حلبات فرنسية دون أن يرونها ، رغم أميّة أغلبهم وجهلهم، والمختصين في الخيول دون أن تكون لهم يد في تربيتها، أسماء الخيول وأعمارها وأوزانها، دون أن يدرسونها، “جولي صالصا” و”باما” و”سيلكي ويند” و”فيري بيست” وغيرها، وحفظوا أسماء فرسانها “هاملين” و”ميسينا” و”كييوشون” وغيرهم من الحائزين على السوط الذهبي أو على مبالغ مالية، وحفظوا مسافات اختصاصها ، طولها وقصرها، ونوعية حلباتها الصلبة والرطبة بالحواجز وبدونها بالعربات وبدونها إضافة إلى “لاكورد” وهي مكان الفرس على خط الانطلاق والجوائز التي فازوا بها كما حفظوا جرائد الرهانات وتابعوا قنواتها…
“نعطيك واحد التوييو (السّر) ، عندك السات (7) والدوز (12) فافوري (جيّد والمفضلFavoris ) يدخلو سور (مؤكدSûr ) وعندك الكانز (15) طوكار (Tocard سيء) واخا بيان كوطي (bien quoté ) وبيان بلاصي فلاكورض (bien placé à la corde) بحال والو يدير لا سوربريز (la surprise المفاجاة )، والديس (10) في الشك ولكن ديرو في الوسط، ما ديرش الديزويت راه أنتيردي (interdit) يدخل”، يحلل كهل بالغ من العمر 70 سنة، أحد “فقهاء” الرهانات، وهو أمّي لا يعرف القراءة ولا الكتابة مدمن على القمار، ويؤيده في ذلك متقاعد أحد “العلماء” وقيدومي “التيرسي” الجالسين بتحريك رأسه قبل أن يسرع لتدوين تلك الأرقام بل تركيبة الخيول الأربعة التي من المفروض أن تصعد إلى منصة التتويج…
“الإدمان على القمار درجات، والشائع عندنا أن لاعبي القمار وخاصة “التيرسي” من شريحة فقيرة جدا كغاسلي السيارات وماسحي الأحذية والمياومين والعاطلين والموظفين المتوسطين وغيرهم ممن يتشبثون بوهم ويركضون وراء سراب، يبنون من ورائه قصورا في خيالهم، يحاولون من خلال أحلام طرد شبح يطاردهم آملين الخروج من وضعية الفقر والعوز والحاجة…”، يوضح الدكتور عبد المجيد كمي ، اختصاصي في الأمراض النفسية والعصبية ومجاز في علاج الإدمان على الخمر والمخدرات.
كم من مجهود تتطلبه قراءة سبورة الرهانات والأوراق والجرائد، وكم من وقت يتطلبه اختيار الأرقام السحرية، وكم من وقت يتطلبه تصنيفها وتصفيفها وتركيبها في أنواع المسابقات من البسيطة والمزدوجة والثلاثي والرباعي والخماسي. مواطنون فقراء وعاطلون ومتوسطو الحال وموظفون أفلسوا وأثقلتهم قروض الأبناك يجرون وراء خيول تتسابق كالأشباح في حلم يقظة يتمنى المهووسون بالمقامرة عليها العثور على التركيبة السحرية ب”لو” و”ليت” و”لعل” و”عسى”…
أغلب هؤلاء الغارقين في الرهانات أكانت تخص الخيول أو اللوطو أو الحك أو أنواع القمار الأخرى، يراهنون على الخروج من فقرهم وأوضاعهم المزرية بالمراهنة على هذه الأرقام وتلك التركيبة، ثم لا يجب إغفال الرقم الآخر ولا التركيبة السحرية الأخرى، ثم يجب دمج هذه التركيبة في الأخرى، وكل تركيبة بعشرات الدراهم وكل رقم بمثلها والمجموع بمئات الدراهم. تراهم قبل بداية المسابقات يتسابقون أمام شاشة التلفزة بتلك المقاهي لمتابعها، ثم تنتهي المسابقة ويدخل “الديزويت” و”الطريز” و”السانك” و”الكاط”، ويتعثر “السات” ويتخلف “الدوز” ويُقصى “الكانز”، وتعود الخيول إلى إسطبلاتها، واللاعبون إلى تعاستهم وفقرهم وهمومهم وأحلامهم أو كوابيسهم…
كنت أنظر تارة إلى شاشة التلفزة في المقهى وأخرى إلى المراهنين المخذولين المُحولقين حولها، أتأمل الوجوه وقسماتها والعيون وذبولها والشفاه وتقلص عضلاتها والأسنان واحتكاكها والأصابع وانكماشها…كانت الأرقام متصافة لكن غير منتظمة كأنها هي كذلك في سباق محموم تُحيل على خيول في بلد جدُّ بعيد فجرت آلاما من اليأس والحزن بدواخل هؤلاء المساكين الغارقين في الأوهام…
“كُتُب الطب النفسي تصنف هذا النوع من السلوك في الإدمان على القمار ومن كبار الشخصيات سواء في عالم الفن والسينما والمال من هم مدمنين على لعب القمار حتى غرقوا في الديون وفقدوا ثرواتهم وماتوا فقراء…” يوضح الدكتور عبد المجيد كمي ، اختصاصي في الأمراض النفسية والعصبية ومجاز في علاج الإدمان على الخمر والمخدرات.
أغلب هؤلاء المواطنين المدمنين على الرهان من الفقراء الذين يبحثون عن دخل سهل معلق على وَهْمِ ربح سريع من وحي خيال لا أُسس واقعية له إلا في الأحلام . يطاردون السراب أو يطاردهم ثم يندثر ويتحول إلى كابوس وهم يغرقون كل يوم في أوحال تبتلعهم ولا يستفيقون منها ولو أدى بهم إلى تشتيت أسرهم وبيع أثاث بيوتهم وإهمال أطفالهم وتجويعهم لتغذية أوهامهم…