الغريزة النوعية ومعايير التحكم والاستثمار النفسي عند الغزالي
الدكتور محمد بنيعيش
شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
مسألة الغرائز ومستحثاتها المادية والاستجابة لها لهي من أعقد الأمور في تكوين الإنسان منذ الولادة حتى الوفاة. وهي لدى غالبية الناس ذات طابع دوري ومحوري يدور ثم يعود إلى المكان الذي دار منه. فيترتب عنه حينذاك إما الغثيان وإما الثوران لحد الصراع العسكري،كما قد نراه قائما ومسيطرا على سياسات غالبية الأمم والأفراد حاليا وفي الماضي سيان.
1) وإذا كان أبو حامد الغزالي كما رأينا من قبل قد أعطى الأسبقية للطعام من حيث دوره في تحديد سلوك الإنسان فإنه مع هذا سيبقى مرحليا مادام قد اتسم بالاعتدال والوقوف عند الضرورة،بحيث سينحصر دوره في حفظ البدنوسيصبح بعد ذلك تحديد السلوك من خصوصيات العقل .
من هنا فما ينطبق على الغذاء قد يجري حكمه على المحور الجنسي النوعي، وإن اختلفت طريقة الإشباع أو الامتناع،لذا فقد أولى الموضوع أهمية عند التحليل لا تقل عن الأول المتعلق بالغذاء من حيث اعتبار دوره السليم في تحقيق التوازن النفسي والأخلاقي.
فلقد حصر دور الغريزة الجنسية في فائدتين رئيسيتين هما:
أولا :أن الشهوة النوعية أوجدها الله تعالى في الإنسان كوسيلة لقياس لذة الدنيا بلذة الآخرة التي يصفها الشرع بأنها أرقى من كل اللذات الحسية المعروفة في الأرض،وهي مما لا يخطر على قلب بشر ،فكانت اللذة الجنسية مذكرا قويا بتلك اللذة المبشر بها في جنة النعيم ،لأن ما لا يدرك بالذوق لا يعظم إليه الشوق .
ثانيا:بقاء النسل ودوام وجود الإنسان.
هكذا إذن نراه يرسم قواعد خاصة بالحياة الجنسية النوعية على نفس المنهاج الذي تم له عند الحديث عن المحور الغذائي،معتمدا في ذلك على النصوص الشرعية وأخبار العارفين كما هو منهجه.
فالقاعدة العامة هي أن”يكون الاحتياط في بدايات الأمور فأما أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد يكاد يؤدي إلى نزع الروح،فإذن،إفراط الشهوة أن يغلب العقل إلى هذا الحد وهو مذموم جدا،وتفريطها بالعنة أو بالضعف عن إمتاع المنكوحة وهو أيضا مذموم ،وإنما المحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل و الشرع في انقباضها وانبساطها ومهما أفرطت فكسرها بالجوع”.
فحينما ينادي بتقليل الاستجابة لنداء الغريزة الجنسية لا ينبغي أن يفهم منه العدول عنها والإضرار بالطرف الثاني –أي الزوجة-بل إنه يقصد في دعواه عدم التمادي في الاستكثار من الجواري والتسري،لأن الإفراط مدعاة للفضول والرغبة في تلوين مظاهر الممارسات الجنسية بإطلاق العنان للخيال،مما قد يؤدي بالشخص إلى ارتكاب المحرمات والفواحش نظرا لطغيان الباعث الشهوي على عقله ووجدانه.
إننا سنجد العكس مما قد يتبادر إلى الذهن في أول وهلة حينما نسمع المصطلح الذي وظفه وعبر عنه ب”كسر الشهوتين”،بل قد يدعو بإلحاح إلى الزواج والاستجابة للغريزة الجنسية في حالة وجود هيجان غير عادي لدى الإنسان،حتى إنه قد يوصي بأنه مهما أفرطت هذه الرغبة “فكسرها بالجوع والنكاح وغض البصر وقلة الاهتمام بها وشغل النفس بالعلوم واكتساب الفضائل فبهذا تندفع”.
عند هذه المفاهيم المعتدلة وقع الكثير في الغلط من حيث تقييم فلسفته النفسية والأخلاقية سلبا،فمنهم من يرى أنه لم يكن” وهو يكتب في مذهبه الأخلاقي يعنيه الصالح العام بقدر ما كان يعنيه الصالح الخاص للمتصوفين وأن مذهبه هذا ليس يقوم عليه الاجتماع وتسعد به الأمة “وكذلك قد يعيب عليه بعض الماديين أن فلسفته الخلقية فلسفة سلبية “لا توافق الحياة العملية لأنه يدعو إلى كبح جماح الجنس والحد من دواعي الشره “.
لكن كل هذا لم يحدث لديه كما سبق وبينا،بل رأيناه يعالج حسب المستويات النفسية وحسب الظروف الملائمة لتطبيق هذه القواعد التي تحدث عنها إذ”طريق المجاهدة والرياضة لكل إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله!”
أوليس هذا هو عينه ما تقرره الدراسات النفسية الحديثة وتحاول تطبيقه كوسيلة فعالة في الطب النفسي بل الجسدية حتى،لأن كل إنسان له طاقاته الخاصة به؟.
وفي أعقاب تلك الاعتراضات التي مرت بنا حول فلسفته الخلقية نطرح سؤالا وهو:هل توجد سعادة للأمة أجمل من سعادة الاعتدال وتحقيق التوازن النفسي والأخلاقي عند أفرادها؟.
2) إن الغلط في تقييم فلسفته الخلقية ناتج عن غض النظر أو التعامي عن الأبعاد التي يمثلها المنهج المقترح لديه،بالإضافة إلى هذا فإن هدفه عند دعوته إلى تقليص حجم المتقبلات النفسية للمؤثرات الخارجية والبدنية الداخلية قد كان هو فسح المجال للقوة العاقلة للإبداع والابتكار وإصدار الآراء الصائبة لتنظيم المجتمع ،وهي نشطة من عقالها وغير خاضعة لدوافع الحاجة البهيمية والانتهازية المادية الصرفة ،التي لا ترمي إلا إلى النفعية الذاتية والأنانية الجامحة !.
إذ بقدر ما حدث التوازن بين قوى النفس بقدر ما كان العضو في المجتمع حركيا ومنتجا،وهذا لن يتحقق كتوازن منشود إلا عن طريقتين كما يقول الغزالي نفسه:
“الأول :بجود إلهي وكمال فطري ،بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفى سلطان الشهوة والغضب ،بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل و الشرع.
الثاني:اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة وذلك بحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب”.
فالنظم التي رسمها على سبيل الإصلاح ووضعها للمجتمعات وطرق اتصالها وتعاملها وعوامل اتحادها ومحبتها كما يقول أحدا الباحثين “لخليقة بإنشاء دولة أو عصبة من الأمم عالية متحابة متعاونة”.
فلقد كان جل اهتماماته نحو تشييد دعائم السلوك الإنساني منصبة على الحد من الميل إلى الشهوات أيا كان نوعها ومصدرها لأن”الذي يشتهى به الحلال هو بعينه الذي يشتهى به الحرام،فالشهوة واحدة وقد وجب على العبد منعها من الحرام،فإن لم يعودها الاقتصار على قدر الضرورة من الشهوات غلبت،فهذه إحدى آفات المباحات ،ووراءها آفات عظيمة أعظم من هذه، هو أن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا وتركن إليه وتطمئن إليها أشرا أو بطرا حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره”.
تلكم كانت وقفة سريعة ورائعة متفرعة مع فكر الغزالي الصوفي الخبير بقضايا النفس ومداخلها ومخادعها ،شأنه شأن غيره من الصوفية والصالحين السابقين واللاحقين، تتطلب منا جدية في البحث فيما يكتنزه تراثنا الذهبي الخالد من علوم وفنون وحلول قد تكون مفاتيح للمشكلات العويصة التي يتخبط فيها عالمنا الحالي ،وبالأخص عالمنا الإسلامي وأخص منه العربي الذي يبدو قد فقد بوصلة نفسه وشروط التحكم والاستثمار فيها، فهل من جاد مخلص يا أهل الفكر والاعتبار؟…