التعليم الأصيل الجديد صمام أمن وسلام
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
التعليم الأصيل الجديد صمام أمن وسلام
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
أولا: مقدمات بين يدي الموضوع:
المقدمة الأولى: قضية التربية والتعليم أم القضايا، ومشكلاتها أم المشكلات:
هي أم القضايا لأنها ترتبط بالتشكيل والبناء اللذين يرتهن بهما مصير أمة من الأمم، وترسم معالم حركتها وسيرها، وقبل ذلك منهج تلك الحركة وقواعد ذلك السير ومحطاته وأهدافه ومراميه، ومن ثم مدخلاته ومخرجاته.
وهي (أي قضية التربية والتعليم) أم المشكلات لأن ما يلحق المستهدفين ببرامج ذلك التعليم ومضامينه وقيمه، من تشوهات يحملها في باطنه، بسبب تلوث المعين الذي يستقي منه، ينعكس حتما على مجمل حركة المجتمع ومناشطه ونتاجاته وشبكة علاقاته. ومن ثم يمكن القول – بكل يقين – بأن نظام التربية والتعليم، يشكل مرآة صادقة ومؤشرا أمينا على وضع أمة من الأمم والموقع الذي تشغله فيها، ففيه الداء وفيه الدواء على حد سواء.
المقدمة الثانية: إن مسألة التربية والتعليم مسألة حضارية بامتياز، المفروض فيها أن تعبر بعمق عن كيان الأمة وتعكس جوهره وفحواه، فذلك الجوهر هو عينه ما يصطلح على تسميته بالهوية، ومن خصائص الهوية أنها كل غير قابل للتبعيض، أو نسق لا يحتمل التفتيت.
المقدمة الثالثة: يقوم بناء الهوية على منطق داخلي يؤول إلى وضع الاختلال، بفعل تعرضه لغزو خارجي من قبل هوية تختلف عنه من حيث المنطق، أي من حيث أسسها الفلسفية وما يرتبط بها على مستوى المشروع الحضاري، أو بفعل لجوء أصحاب تلك الهوية طوعا ضمن ملابسات معينة إلى احتضان عناصر تنتمي إلى هويات أجنبية، فيما يشبه احتضان أنثى طائر لبيض طائر غريب.
المقدمة الرابعة: إن نجاح أي مشروع تربوي داخل هوية من الهويات رهين بحماية منطقها الداخلي من أي عامل من عوامل التهجين، وهذا بغض النظر عن صدق الأساس النظري الذي تقوم عليه تلك الهوية، ومدى ملاءمته للحق، وتعبيره عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ومن ثم يمكن التمييز بين نجاح نسبي محدود في مداه، مهدد بعوامل التآكل والضمور، بسبب مخالفة سنن الله عز وجل في الاجتماع البشري المتضمنة في منهجه الحكيم، وبين نجاح للمشروع، موسوم بالديمومة والرسوخ، بفعل استيفائه لمقومات ذلك، وهي ملاءمة الفطرة واحترام سنن الله سبحانه وتعالى في الكون. وبديهي بعد كل ذلك، أن يكون في مقدورنا إصدار حكم جازم – بالنجاح أو الإخفاق – على أية منظومة تربوية قائمة، أو حالة خضوعها للمراجعة أو إعادة الهيكلة، بمجرد النظر في أسسها النظرية من جهة، وفحص المواصفات المرصودة لمستهدفيها، والتي يرجى تحققها عند التخرج، بعد الخضوع لعمليات التشكيل واستنبات القيم والمفاهيم في شخصيات المتعلمين، من جهة أخرى.
المقدمة الخامسة: إن ارتكاز أي منظومة تعليمية على مجموعة من الثوابت والمرتكزات المجسدة للهوية الوطنية لا يعني بحال من الأحوال تنزيهها عن القابلية للفحص والمراجعة الدورية، أو كلما وجدت دواعي لذلك، ترتبط إما بضرورة تجديد الفهم، أو ضرورة ترتيب الأولويات، أو إعادة بناء المعرفة أو آلياتها المنهاجية.
ويجدر بنا ، ارتباطا بهذه المقدمة، طرح السؤال عن طبيعة وحجم الحاجة إلى ما سمي بمراجعة المادة الدينية في التعليم المغربي، وهي ما يمكن إدراجه تحت عنوان فلسفي مصيري كبير هو: التعليم بالمغرب وسؤال المراجعة.
في ضوء هذه المقدمات سأحاول – بإذن الله – أن أتناول بالتشخيص والتحليل طبيعة المادة الإسلامية في التعليم الأصيل الجديد في مرحلته الابتدائية، من خلال قيمتين مركزيتين ضمن القيم المراد تشريبها للمتعلمين، وتثبيتها في نفسياتهم أو بناء شخصياتهم، وأعني بهما قيمة الأمن وقيمة السلام.
من الواضح في منطلق معالجة الموضوع، أنها تتخذ صيغة الدفاع عن أطروحة هي في ذهن المعالج بمثابة المسلمة التي تكتسي طابع اليقين، انطلاقا من خصوصيتها النابعة من معيار القداسة والتعالي اللذين يمثلان سمة الإسلام، باعتبار ربانيته، أي تنزهه عن التحريف والتبديل، مصداقا لقول الله تعالى: ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر:9).
ويأتي الموضوع، من جهة أخرى، كما يتضح من العنوان، في شكل جواب أو رد- ضمن ردود شتى- على ما أثير من كلام كثير، وأسيل من مداد غزير، على إثر مبادرة العيون الملكية السامية الداعية إلى مراجعة المادة الدينية في برامج التعليم المغربي، في أفق الإرساء العلمي والموضوعي والمسئول، لمادة المفروض فيها أن تمثل ، ليس كتلة معزولة باردة، أو ملقاة كيفما اتفق في زاوية من زوايا المنظومة التعليمية وأرجائها المترامية، وإنما أن تكون فيها بمثابة الروح الساري في خلاياها، أو عصب الحياة الذي يغذي عروقها وشرايينها، ويمنحها التوهج والقوة والمنعة، ويمكنها من تخريج سلالات متميزة من الأقوياء الأمناء، يعتز بها الوطن، وترفع هامته في السماء.
ويتمثل الرد المشار إليه أعلاه، في أن المادة الإسلامية تمثل صمام أمن وسلام داخل المنظومة التعليمية، شريطة أن يكون إرساؤها مؤسسا على دعائم راسخة من سلامة البناء، وحسن الفهم، وحكمة التنزيل، بما تستلزمه تلك الدعائم من شروط ومعايير ذات علاقة بآليات التنفيذ، ومقومات المحيط، الممثلة بالفضاء المدرسي وما وراءه.
فما هي تجليات الأمن والسلام في المادة الإسلامية في التعليم الأصيل؟ وبتعبير آخر، كيف يتبلور مطلب الأمن والسلام من خلال مضامين ومحتويات مقررات التعليم الأصيل الجديد (المرحلة الابتدائية نموذجا)؟.
وأقف في البداية عند تحديد مفاهيم الموضوع:
1 ـ المادة الإسلامية:
المقصود بالمادة الإسلامية في التعليم الابتدائي الأصيل الجديد: المضامين الكامنة في مقررات وبرامج المواد الإسلامية المصطلح عليها بالمواد الشرعية، وما تستبطنه من قيم، باعتبارها عنصرا يدخل في نسيج التنشئة والتكوين ضمن باقي المواد التي تؤلف قوام تلك المرحلة. وتتمثل هذه المواد في: مادة القرآن الكريم، ومادة الحديث النبوي الشريف، ومادة الفقه الإسلامي، ومادة السيرة النبوية.
2 ـ التعليم الأصيل الجديد:
هو التعليم الذي اعتبر في الميثاق الوطني للتربية والتكوين قسيما للتعليم العام، وتم تجديده:
تنظيميا: بإدراجه ضمن النظام التربوي، وإخضاعه من حيث الهيكلة ونظام الدراسة لنفس القواعد المعتمدة بباقي المسالك العامة، باعتباره مكونا من مكونات المنظومة التربوية، وجعله تعليما يواكب التعليم العام من حيث الأدوار والوظائف والأهداف.
وبيداغوجيا: ببناء المناهج الدراسية استنادا إلى المبادئ التي تأسست عليها عملية مراجعة البرامج والمناهج.
وهو التعليم الذي اعتبر وفق المذكرة رقم 83 ( 24 يونيو 2008) ” خيارا استراتيجيا لكونه يندرج في إطار تنفيذ مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وخاصة المادة 88 التي تنص على إحداث مدارس نظامية للتعليم الأصيل، من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي.”
وأضيف هنا أن التعليم الأصيل سمي في وضعه الحالي أو طوره الراهن بالجديد، تمييزا له عن التعليم الأصيل الذي انتقص من أطرافه بامتصاص روافده و اختزال مراحله في الثانوي التأهيلي،وحصر شعبه في شعبتين: الأدبية والشرعية، واللتين يوشك أن لا يوجه إليهما إلا بقايا من الضعفاء الذين قعدت بهم نتائجهم الهزيلة عن التوجه إلى شعب التعليم العام ومسالكه المتنوعة. وهذه الصورة القاتمة هي التي كانت من أهم عوامل نفور شرائح عديدة من التعليم الأصيل في نسخته الجديدة، في ظل غياب معرفة حقيقية بطبيعته وخصائصه، وقيمته المضافة ضمن النظام التربوي المغربي الذي يتطلع إلى التخلص من وضعه المأزوم.
3 ـ مفهوم الأمن:
إنْ تتبعنا لمفهوم الأمن يوصلنا إلى حقيقة مفادها أنه مستقر في القلب، ومدار مادة “أمن” في اللسان العربي على سكينة يطمئن إليها القلب بعد اضطراب، وأنقل هاهنا قول الراغب الأصفهاني فإنه يكاد يكون جامعا لما في غيره مع تدقيق، يقول رحمه الله: “أصل الأمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف… و”آمن” إنما يقال على وجهين: أحدهما متعدّيا بنفسه، يقال: آمنته أي جعلت له الأمن، ومنه قيل لله مؤمن؛ والثاني: غير متعدّ، ومعناه صار ذا أمن… والإيمان هو التصديق الذي معه أمن”. كأن الإمام الراغب رحمه الله لا يتصور أن يكون هناك مؤمن وليس عنده أمن، أي سكينة واطمئنان، أي استقرار لا اهتزاز ولا اضطراب ولا قلق ولا حيرة، لأنه مطمئن إلى ربه ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد:28). ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾(الفتح:4). فالمدار إذن على وجود سكينة في القلب في جميع ما دارت فيه المادة سواء في صورة “أمن” أو “آمن” المتعدي واللازم، المدارُ على هذه السكينة وعلى هذه الطمأنينة التي تأتي في حقيقتها بعد نوع من القلق والاضطراب، وتأتي بعد قدر من الخوف، وهذا الخوف عبر عنه بالخوف نفسه، وعبر عنه بالبأس، وعبر عنه بالفزع ﴿وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾(النمل:89)، وعبر عنه بألفاظ أخرى غير هذه الألفاظ، ولكن مؤداها جميعا هي أنها تُحدث لدى الإنسان ضربا من الخوف، فإذا جاء الأمن أزال ذلك الخوف، هذا الأصل وهذا المدار الذي تدور عليه المادة يجعلنا نتجه إلى أن المعنى الذي للأمن هو أنه حال قلبية تجعل المتصف بها في الدنيا يرتاح ويطمئن، والموصوف بها في الآخرة يسعد وتحصل له السعادة الأبدية.
3 ـ مفهوم السلام:
جاء في معجم مقاييس اللغة مادة سلم ) السين واللام والميم) معظم بابه من الصحة والعافية (…)، وإذا كان السلام من أسماء الله الحسنى، فقد ” قرر العلماء أن الإنسان يستفيد من التفكر في اسم” السلام” (…) أن يتحلى بفضيلة المسالمة التي تؤدي إلى الأمن والأمان.”
وإذا نحن قمنا بنظرة تركيبية مركزة وشاملة لموارد لفظ السلام في القرآن الكريم، الذي ورد بصيغ مختلفة في أربعين ومائة مورد، منها اثنا عشر ومائة مورد بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} (النساء:94)، وثمانية وعشرون موردا بصيغة الفعل، منها قوله سبحانه: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (النور:27)، وجدنا أن تلك الموارد تلتقي جميعا لتصب في معاني السلم والسلامة والمسالمة ، والأمن والاطمئنان، ، التي تعم الزمان والمكان، والإنسان وغير الإنسان، وفي رهافة الإحساس وجمال السلوك وسلامة الموقف وقوة البنيان، وصفاء الجنان.
ثانيا: تجليات قيمتي الأمن والسلام في منهاج المواد الإسلامية:
1 ـ تجليات قيمة الأمن:
أ ـ الأمن اللغوي: ويقصد به ذلك الوضع الذي تكون فيه لغة الأمة محمية من كل ما يمكن أن يتهدد وجودها من الغوائل والأخطار، إما من خلال تشويه صورتها، أو إضعاف أدائها، بإقصائها من معترك الحياة، وتجفيف منابع قوتها وإيقاف أسباب انطلاقها وتطورها واغتنائها.
ويمكن التمييز في هذا النوع بين مستويين:
المستوى الفردي الذي تضطلع فيه المدرسة بالقسط الأهم من المسؤولية، بما تمتلكه من أسباب وآليات ومداخل تربوية يفترض فيها الفعالية والنجاعة، ويكون فيه الخريجون هم المؤمنين وهم الأمناء في ذات الوقت على تلك اللغة وميراثها، بما استودعوا من أسرارها ومبادئها وقواعدها، وبفعل امتزاج كيانهم العقلي والوجداني بصورها وتراكيبها، وامتصاص عناصرها الثقافية.
والمستوى المجتمعي: الذي يتحمل مسؤولية الأمن اللغوي فيه المجتمع العام ممثلا بمختلف مؤسساته، الرسمية والمدنية، من خلال قرار سياسي واضح، واستراتيجية عمل محكمة البناء، محددة المقاصد والغايات.
ويهمنا في هذا المقام تناول المستوى الأول ببعض المعالجة، من خلال رسم صورة مركزة لما يؤديه منهاج المواد الإسلامية في مرحلة التعليم الابتدائي الأصيل ضمن ما هو منوط به من تحقيق الأمن اللغوي لدى مستهدفيه وخريجيه، ومن خلالهم للمجتمع الذين هم أعضاء فيه.
من البديهي أن نقول هنا بأن القاعدة الصلبة والأساس المكين الذي يقوم عليه منهاج المواد الإسلامية في هذه المرحلة هوالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والسيرة النبوية المطهرة، وهذا يعني بوضوح، أن تلاميذ هذه المرحلة سوف يحظون بفرصة ثمينة لأن يربطوا صلتهم بخزان عظيم ومعين ثر لا ينضب من الألفاظ والمصطلحات، التي تختزن شحنات تعبيرية هائلة، وصيغا وتراكيب وأساليب غاية في الخصوبة والتنوع، تحمل في ثناياها حقائق عن الكون والإنسان، وعن الطبيعة وما وراء الطبيعة، أي عالمي الدنيا والآخرة، ويفتح الأطفال في هذه المرحلة بفضل اتصالهم الوثيق بالقرآن والسنة والسيرة أبصارهم وبصائرهم على عالم فسيح لقصة الإنسان وكفاحه المرير من أجل بناء الذات وتحقيق التحرر الحق من خلال استثمار ما سخره له خالق الكون والإنسان من ذخائر وطاقات، وإمكانات وخامات، استجابة منه لأمر الاستخلاف المتمثل في قوله تعالى:” إني جاعل في الأرض خليفة”، وتجسيدا لمعنى التكريم المتمثل في قوله تعالى:” ولقد كرمنا بني آدم”.
وإذا نحن عرفنا أن القرآن الذي هو كلام الله جل جلاله، هو الأساس الذي قامت عليه النهضة العلمية، وارتفع عليه صرح الحضارة الإسلامية السامق، لكون جميع العلوم انبثقت من ثنايا آياته البينات، ولكون الألفاظ التي تنزلت بها تلك الآيات هي مفاتيح العلوم، كما أفاد بذلك ونص عليه علماء القرآن ومصطلحاته، عرفنا مقدار القوة اللغوية التي يمكن لتلامذة الطور الابتدائي اكتسابها، والحال أن حوالي خمسين حزبا هي قوام مادة القرآن المقررة لهذه المرحلة البالغة الأهمية والحيوية في حياة الطفل، على مستوى البناء اللغوي، وما يستصحبه من مستويات أخرى لا تنفك عنه، بحكم علاقة اللغة ببناء الفكر والوجدان، هذا من حيث الحكم العام، فما بالك بالقرآن، كلام الرحيم الرحمن.
وإذا نحن عرفنا أن ألفاظ الحديث النبوي الشريف، هي ألفاظ من أوتي جوامع الكلم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أمكننا أن ندرك الوضع المتميز لمتعلمي هذه المرحلة الحساسة على صعيد امتلاك ناصية اللغة، وما يرتبط بها من وظيفة البيان، وأن نتصور ما يؤهلهم له هذا الوضع المتقدم في مراحلهم التعليمية التالية.
إنه لقمين بهذا الوضع المتقدم والمتميز أن يمكن خريج التعليم الأصيل الجديد، من إمكانيات واعدة للإبداع، وأن يكون له لقاحا ضد أي فصام نكد، يخيم بشبحه القاتم، ويحط بكلكله الثقيل، حينما تنزلق المنظومة التعليمية إلى اقتراف إساءة في حق لغة القرآن، بالانتقاص من موقعها وقدرها، بأي شكل من الأشكال.
ب ـ الأمن الروحي والعقلي المنهجي:
يتحقق الأمن الروحي لدى تلاميذ المرحلة الابتدائية من خلال اتصالهم المستمر والوثيق بما تقدمه السور والآيات القرآنية من حقائق وبصائر وبلاغات تحرك مكامن النفس، وتعزف على أوتار الفطرة، وتلامس شغاف القلوب، إنها بصائر تتعلق بيقينيات الاعتقاد والتشريع والقيم، وهي تحرك الوجدان عبر أسلوب الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، بذكر أحوال أهل الجنة وما أعده الله لهم من نعيم، وأحوال أهل النار وما أعد لهم من أهوال الجحيم، كما يتحقق ذلك الأمن من خلال بيان طبيعة العلاقة بين العبد وربه، والتعبير عن تلك العبودية بواسطة عبادات محددة مضبوطة، تشكل بلسما وزادا للروح يشعرها بأصلها العريق ومنبتها الأصيل، وموقعها المتميز من رب العالمين، وبشلال الرحمة الذي ينساب نديا عبر النداء الرباني للمؤمنين :” يا أيها الذين آمنوا”. وتؤطر تلك الحقائق من خلال ما يرسمه القرآن الكريم من صور رائعة لبلاء الصفوة المختارة من خلقه التي يمثلها الأنبياء والمرسلون، الذين يمثلون موقع التأسي والاقتداء، ذلك الاقتداء الذي وجد خلاصته الرفيعة وذروته السامقة في شخص سيدهم وخاتمهم سيدنا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. إنه أمن روحي من شأنه أن ينعكس على نفوس التلاميذ سعادة وتوازنا، وسكينة واطمئنانا، ويفيض مع ذلك على من حولهم.
ويتحقق الأمن العقلي والمنهجي لدى التلاميذ من خلال تعاملهم مع ما يعرضه الكتاب العزيز من حقائق الكون الذي يمثل كتاب الله المنظور، مع الدعوة إلى التأمل وتعميق النظر، للتثبت من الحقيقة الكونية الكبرى، حقيقة وحدانية الله الخالق الرازق المتصف بجميع صفات الكمال التي تتردد عبر آي الذكر الحكيم، في سياقات موحية بعظمته وقيوميته سبحانه وتعالى. من ذلك قوله جل وعلا:” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار” (آل عمران:190 – 192).
وتترسخ أسباب الأمن العقلي والمنهجي في أذهان تلاميذ الابتدائي الأصيل الجديد، بفضل تمثلهم لأساليب الحوار القائمة على الحجاج العقلي، الذي يوظفه القرآن الكريم في دحض دعاوى الجاحدين، وتسفيه تخرصات المبطلين المعاندين، وبفضل تشربهم لمنهج التفكير السليم، وما يتأسس عليه من قواعد يتجاوب معها كل عاقل ذي فطرة سليمة وحس قويم، قواعد الاستدلال التي تقضي بربط النتائج بمقدماتها،والمسببات بأسبابها، وبلفظ كل تفكير سقيم عار عن مبادئ المنطق السليم، تلك التي تعارفت عليها الإنسانية خلال تاريخها المديد.
ويتعزز هذا المطلب العزيز بما تقدمه مادة الحديث النبوي الشريف من أساليب تمثل نقاء التفكير وجودة التحليل والربط والاستنباط، وما يقدم للتلاميذ على مستوى الفقه وما يمثله من نموذج بديع يشكل نتاجا غنيا وثمرة يانعة لتعامل الفقهاء الراسخين في العلم مع القرآن والسنة، ومن خلالهما مع نوازل الواقع ومشكلات الحياة المتجددة عبر العصور.
ج ـ الأمن القيمي الخلقي: يتحقق الأمن القيمي والخلقي في أبهى صوره وأقواها أخذا بالنفوس وتجذرا في الوجدان، باعتبار ما يتميز به الخطاب القرآني من جاذبية وروحانية تأخذ بالنفوس والألباب، وتنقلها برفق إلى التخلق بما يأمر به الباري جل وعلا من محاسن الأخلاق ومكارمها، خلافا للقيم التي تعطى مجردة باردة في سياق مواد أخرى، على غرار ما يقدم مثلا ضمن مادة التربية على المواطنة أو على حقوق الإنسان.
وكذلك الأمر بالنسبة للحديث النبوي الشريف الذي يسوق القيم السامية والأخلاق النبيلة في سياقات روحانية مضمخة بعبق النبوة الزكي، وما يحمله جلال أسوته عليه الصلاة والسلام من روحانية لا يملك معها المخاطب المكلف إلا التسليم والإذعان، إذا سلمت الفطرة وتهيأت الأجواء. فالقيم الصالحة تجد مرتعها الخصيب على مستوى التحقق والتخلق في القرآن والسنة، وفي االسيرة التي تمثل النموذج العملي التطبيقي الذي يعزز النزوع نحو التأسي والاتباع لدى المخاطبين، خاصة إذا كانوا في سن اليفاعة كما هو الأمر بالنسبة لتلامذة المرحلة التي نحن بصدد معالجتها.
إن قيما مثل الصدق والإخلاص والعفة والوفاء، والبر بالوالدين وعرفان الجميل، والرحمة وإغاثة الملهوف، واحترام حق الحياة، والحق في التعبير، واحترام كرامة الإنسان، وتقدير التعاون على البر والتقوى ونبذ التعاون على الإثم والعدوان، وتقدير العمل ونبذ الكسل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحب النصيحة ونبذ الخذلان، وغيرها، لتشكل في منظور الإسلام امتدادا وثمرة ولازما للتصور العقدي، ويعد التفريط فيها خدشا لذلك التصور وإخلالا بمقتضياته.
ويظل التحقيق الأمثل للمقاصد المذكورة أعلاه، رهينا بتوفر الشروط التربوية السليمة التي يمثل المدرس محورها وقطب الرحى فيها.
وحري بنا هنا أن نشير إلى ما تتميز به القيم المعروضة في سياق القرآن والحديث من خاصية التنوع والتكامل والشمول، فليس هناك حاجة من حاجات النفس العميقة إلا وجدت في خزان القيم الإسلامية ما يلبي أشواقها ويشبع جوعتها، دون نقص أو تقتير، ولا إسراف أو تنفير، وتلك صبغة الله الحكيم الخبير.
2 ـ تجليات قيمة السلام :
إن النظر التحليلي الفاحص لمفردات المادة الإسلامية في التعليم الابتدائي الأصيل الجديد، ومجموعها العام، يفضي إلى نتيجة مفادها أنها تنبض بكل معاني السلام، بحيث تغطي هذه في إطار من التكامل والشمول، مختلف المستويات،بدءا مما يتعلق بالضمير الداخلي للإنسان المسلم، مرورا بما يرتبط ببناء العلاقات داخل الأسرة، ثم شبكة العلاقات داخل المجتمع المسلم، وصولا إلى ما يهم قضية السلام العالمي.
وإذا نحن انطلقنا من المفهوم اللغوي للسلام الذي يفيد أن “معظم بابه من الصحة والعافية “، ومن بعض ما ورد من المعاني الاصطلاحية، كالخلو من “العيوب والآفات”، نجد أن هذه المعاني تنطبق على كل المستويات المذكورة، فسلامة الاعتقاد في الله عز وجل بجميع أركانه وتصوراته ومفرداته، وما يرتبط به من نظام تعبدي، ومن نظم تتعلق ببناء الأسرة وعلاقاتها، ومن نظم على مستوى الاجتماع والاقتصاد وغيرها ، ومن نسق للقيم، وكذا بعض الآداب والرقائق من أي عيب أو مظهر من مظاهر الاختلال – كالنقص أو التناقض أو التعقيد، أو ما إلى ذلك مما تشكو منه العقائد الفاسدة والمذهبيات المنحرفة- من شأنه أن يولد شعورا بالسلام في النفوس المتشبعة بذلك الاعتقاد، وبين أفراد الأسر داخل الأسر، وبين أعضاء المجتمع الذين تشدهم أواصر متينة، حتى إنهم كالجسد الواحد كما شبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن ذلك السلام ليمتد ليشمل بأجنحته الأمم والشعوب جميعا.
وإذا نحن استندنا إلى أحد معاني السلام الذي هو في مقابل الحرب والنزاع، فإننا نستطيع أن ندرك كل ما يدرسه التلاميذ أو يتلقونه من مضامين وقيم وتصورات في المواد الشرعية، باعتباره مصدرا للسلام والوئام، وحصنا منيعا ضد الشقاق والنزاع والانقسام، ومن ثمة حق لنا أن نقول: إننا، في ظل مادة من هذا القبيل، إزاء رافد هام وكبير، ضمن مشروع تربوي وحضاري خطير، يمثل لبه وجوهره إعداد جيل الأمن والسلام الذي تختفي من ساحته كل الأوهام والألغام، وتنتشر فيها كل عوامل البناء والإصلاح.
قد يقول قائل،أو يعترض معترض من الموتورين ضد كل ما يتعلق بموقع التربية الإسلامية في المناهج التربوية على علاته، أوعلى ما هو عليه من هزال: وما بال آيات الجهاد والقتال؟ وخاصة تلك التي جاء ذكر الإرهاب فيها صريحا وفي غاية الوضوح؟ وهي قوله سبحانه وتعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ” (الأنفال:60)؟
وجوابنا على هؤلاء، أنهم يهرفون بما لا يعرفون، ويقترفون في حق التربية الإسلامية وحق القرآن ما هو شبيه بتحريف الكلم عن مواضعه، إما بإلصاق مفاهيم مغلوطة للألفاظ والمصطلحات، وإما بفصل الموضوعات عن سياقاتها. ذلك أن لفظ الإرهاب الوارد في آية الأنفال لا يعني الاقتحام والعدوان وإسالة الدماء بتاتا، وإنما يعني الإخافة التي من شأنها أن تثني العدو عن أي تفكير في العدوان، ويمثل ذلك عاملا من عوامل استتباب السلام.
أما القتال، أوالجهاد، عندما يرد بمعنى القتال في القرآن، فله ضوابطه التي تجعله في منأى عن أي عدوان، وذلك ما لا يماري فيه إلا الجاهلون. وهذه المعطيات الموضوعية العلمية تستدعي إعادة النظر في استعمال مصطلح الإرهاب، لتحريره من الحمولة التي ألصقت به ظلما وعدوانا، واستعماله في المعنى الذي وضع له في سياق النظم القرآني الكريم، ذلك بأن أي إصرار على الإعراض عن هذا المطلب العلمي، من شأنه أن يكون مدعاة للاستمرار في تعويم المواقف وخلط الأوراق، ويكون مثار شك وارتياب في سلامة نية من هم وراء ذلك الإصرار.
أما ما يقع هنا وهناك من عمليات طائشة، فليست قتالا ولا جهادا، لأن للقتال والجهاد سياقاته المعلومة كما أشرت، وليست إرهابا، لأن الإرهاب يعنى الإخافة كما ذكرت، فوجب أن تتضافر جهود أهل اللغة وعلم الاجتماع وعلم النفس، وغيرها من العلوم، لنحت لفظ أو مصطلح مناسب لهذا النوع من العمليات.
وبعيدا عن هذا النقاش نقول في علاقة بالموضوع الذي نحن بصدد الخوض فيه: إن تلميذا يتلقى كل ذلك الكم من المعارف والقيم التي هي قوام منهاج المواد الإسلامية، لا يمكن إلا أن يكون مشروع أمن وسلام في محيطه الخاص والعام، ويستحيل علميا وموضوعيا أن يكون مشروع حرب وعدوان.
ومن ثم يمكننا أن نقول بكل يقين واطمئنان: إن الذين هم وراء العمليات الطائشة المذكورة، لا يمكن بحال من الأحوال أن يقوموا بتصرفاتهم تلك بناء على مفاهيم إسلامية. و لو حصل ذلك الانطباع عرضا في نفوس أصحابه وأذهانهم، فليس يمثل إلا وجها من وجوه الوهم أو الانخداع أو الخداع، هذا على سبيل الحكم العام، الذي لا يتعارض مع مقتضيات وضع كل حالة من حالات التفلت في سياقها الخاص الذي يستدعي حكما مناسبا لذلك الخصوص.
وبناء عليه نخلص إلى قناعة مفادها أن الأزمات التي تضرب المجتمع في الصميم، وتقض مضاجعه بسبب انعدام الأمن والسلام ليست آتية من القيم الدينية بتاتا، ولكن من انعدام تلك القيم أو من ضحالتها والتقتير في صبيبها تحت ذرائع شتى، تلتقي كلها حول قاسم مشترك، هو الجهل بضرورة الدين ومنظومة قيمه باعتبارها عامل ضبط ونظام للمجتمع، في كل مستوياته ومفاصله. والدليل على ما نقول، هو أن استقراء لوائح أسماء الذين ضلعوا في عمليات التفجير أو الاعتداءات المسلحة في الآونة الأخيرة، يكشف بما لا يدع مجالا للشك، أن هؤلاء ليسوا علماء في الشريعة الإسلامية، بل ولا حتى ممن يملكون حدا أدنى من المعرفة بحقائق الدين.
وهناك أمر آخر ذو بال، ينبغي عدم إغفاله ونحن بصدد قضية التربية الدينية وما تتضمنه من قيم، وهو أن حكمنا السالف، أي المتعلق بكون ضحالة حضور القيم الدينية وراء ما يقع من تفلتات دامية مؤسفة، لا ينبغي أن يكون مقصورا على هذه الأخيرة، بل ينبغي أن ينسحب على كل أشكال التسيب والانحراف التي أصبحت وصمة عار على جبين المؤسسات التعليمية التي عبرت عن عجز مريع في القيام بوظيفة التربية والتهذيب والتقويم، فلم تعد تنتج في الغالب الأعم إلا قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت وحين، بسبب افتقادها لأي وازع أخلاقي، فتكون على الدوام تحت طائلة معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:” إذا لم تستحي فاصنع ما شئت”، وهو بمثابة إنذار من الرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، لمن حملوا مسؤولية التربية فلم يحملوها، بأن النظام التربوي الذي لا يقوم على شعب الإيمان التي منها الحياء، هو بالتأكيد نظام فارغ من الأساس، أو قائم على جرف هار.
إن ما تشهده المؤسسات التعليمية ومحيطها، بل ما يشهده المجتمع في جميع مرافقه ومحافله من مظاهر العنف، والتمرد والعقوق والاغتصاب، والسرقة الموصوفة، والتعاطي للتدخين والمخدرات والمسكرات، والتحرش والعربدة والانحلال وهتك الأعراض، لا يمكن أبدا أن ينسب لمن كان منسوبهم من التدين عاليا، بل إنه لينسب على وجه التأكيد واليقين، لمن مسحت شخصياتهم من القيم السامية، وقبل ذلك من أي تصور سليم لإشراف الدين على السلوك والحياة.
والنتيجة الدامغة التي نستخلصها من هذا التحليل المسلح بمعطيات الواقع المرير، أن إنقاذ المنظومة التعليمية من أزمتها المزمنة المتمثلة ليس فقط على مستوى السمو الأخلاقي، بل وعلى مستوى التحصيل العلمي، وكلاهما شرط لازم للتنمية والنهوض الحضاري الرشيد، لا مناص من أن يكون بتأسيسها على رؤية الإسلام وفلسفته التربوية الضاربة في عمق الفطرة، مصداقا لقول
الله تعالى” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” ( الروم : 30)، فذلك على وجه اليقين هو مناط صفة السلام التي هي شرط استتباب الأمن بجميع أبعاده التي سبق أن وقفنا عندها في غضون هذا الورقة.
إنه لا مناص من أن يقوم الشعور بالأمن على الشعور بالسلام في عمقه العقدي، وتجليه الخلقي وةالسلوكي، وتكامله التنظيمي، والدليل على ذلك أن العقائد الموسومة بالضحالة والسطحية أو المفتقدة لأي أساس فلسفي متين، والنظم الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والجنائية المليئة بالثغرات والتناقضات، لا مناص من أن تؤول إلى مآل محتوم عنوانه اللاأمن، لأنها تفتقد بكل بساطة إلى شرط السلامة والسلام.
والحمد لله رب العالمين.