لبنان الجريح
محمد شحلال
يمر بلد الأرز بوضعية اقتصادية مأساوية، جعلت شعب هذا البلد الوديع ،يخرج للشارع ليمزق كبرياء بيروت ، ويحولها كما باقي المدن ،إلى ساحة غليان لم يسبق له مثيل، بعدما بلغت الأوضاع الاقتصادية ترديا يصعب إصلاحه في المدى القريب على الأقل.
كان من المنتظر أن ينال موطن ،،فيروز ،،نصيبه مما حدث في المشرق العربي من انكسارات ،تم التخطيط لها بعناية على يد التحالف الإمبريالي.
لقد كتب لهذا البلد الصغير أن يستوعب فسيفساء من الطوائف العرقية والدينية ،التي ظلت تتعايش في تناغم تاريخي ،قبل أن يتمكن شياطين العصر من إشعال حرب أهلية/طائفية تحقق خلالها خراب لافت ،للحجر والشجر ،استمرت سنوات عديدة ظهرت، معها قوى وحسابات جديدة.
ما كاد لبنان يلملم جروحه، حتى وجد نفسه يدخل حروبا مع العدو الصهيوني الذي يحقق أهدافه التوسعية وفق مخطط محكم،وهو ما ساهم في تدهور اقتصاد البلد الذي بلغت ديونه ما يزيد عن 90 مليار دولارا حسب ما يتداول في الإعلام.
ولعل هذا الرقم كاف ليجد المواطنون أنفسهم يواجهون أزمة لا تطاق ،لم يجد معها تغيير الحكومات،ليصبح الغد مفتوحا على كل الاحتمالات.
هذه صورة مجملة عما يتداوله الإعلام عن لبنان الراهن،فما الذي كنا نعرفه عن بلد الأرز؟
إن الجيل الذي ننتمي له، لازال مدينا لهذا البلد في جل المكتسبات المعرفية والثقافية،حيث كان لبنان قلعة لنشر الكتب وتوزيعها عبر العالم العربي،بل إنه استطاع أن يحقق ،،اكتفاء ذاتيا،،في المبدعين من كتاب وشعراء ومؤرخين ومطربين.
وهكذا،تمكنا من الغوص في التاريخ الإسلامي في قالبه الروائي عبر مؤلفات ،،جورجي زيدان،،وتعلمنا أبجدية الرومانسية والأحلام الكبرى ،بفضل جبران خليل جبران وأبي ماضي،ودخلنا محراب العشق عبر الرسائل المتبادلة بين،،مي زيادة،، وجبران دون أن يكتمل مشروعهما العاطفي ،ليصيبنا كثير من إحباطهما !
أما جميل الألحان، الممتزجة بعبق الطبيعة،فقد صاغته حنجرة فيروز وهي تردد مقطوعة،،سكن الليل،،لجبران أو ،،يا جارة الوادي،،لشوقي،،بينما ينسينا وديع الصافي في فتى دمشق وصباح فخري !
لا أبالغ إذا قلت بأن كل المثقفين من الجيل السابق،قد التهموا مؤلفات جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني ،وأشعار المهجريين عموما(أعضاء الرابطة القلمية)،حيث كان أدباء لبنان ينافسون أدباء مصر وغيرها من البلاد العربية.
كان الواحد منا لا يمل من تلقف الطبعات الجديدة لأدباء سبقت قراءتهم ،وفاء لهؤلاء الذين علمونا ،،عن بعد،، كثيرا مما نفخر به اليوم.
لقد مر لبنان بفترة استطاع خلالها أن يكون حالة متميزة في الوطن العربي: طبيعته خلابة، ونساؤه جمعن بين سحر الشرق والغرب، ونظامه السياسي كان مثالا في التعايش والانسجام،مما جعل ابناءه يتخلصون من الجهل والأمية مبكرا ليبنوا ديموقرطية فتية لم يكتب لها أن تصل مداها،
اكتشف عرب البترودولار وداعة لبنان،وبدل الاستثمار في البنى الاقتصادية،فإنهم فضلوا تشتيت دولارات الريع في زرع الانحلال الخلقي عبر التأسيس لثقافة الدعارة الراقية التي دشنوها في مصر،ثم راحوا ينشرونها غربا،لتتحول المرأة في لبنان وغيرها إلى سلعة مبتذلة تحت تأثير وإغراء المال القذر!
أين نحن من لبنان الثقافة والإبداع الذي تبلور عبر الحضارات المتعاقبة على المنطقة والذي تصونه ،،بعلبك،،و،،صور،، و،،صيدا،،؟
لقد حكم على،،سويسرا،،الشرق الأوسط ،أن تتجرد من رومانسيتها ،لتتحول إلى ساحة معارك مفتوحة، أيقظت كل عوامل الفرقة الكامنة في العرقية والطائفية التي توفر لها جهات عديدة وقود الاستمرار ،لتطفو صور البؤس على سحنات نساء ورجال ظلوا ينفردون بالحسن والوداعة !
لم يعد،،وديع الصافي،،يناجي ،،ليلى،،بصوته الشجي،وشاخت ،،فيروز،،وتحولت المدن إلى ساحة لاستعراض الرايات الصفر وصكوك الجنة المعلقة على الجباه، قبل أن تصدر أوامر أصحاب العمائم لينطلق الشباب نحو الموت والمجهول !
رحم الله جبران الذي تحدث عن ،،المجنون،،السابح في بحور الكون،ليخلف من بعده خلف لا يتقنون إلا جنون الاقتتال ! وتحية لدار العلم للملايين التي زرعت في نفوسنا فضول البحث عما في الحياة من جمال، وحفظ الله لبنان من الأيادي الآثمة.