الأسرة المغربية في زمن الوباء: الآثار النفسية(1)
كمال الدين رحموني
تسبب وباء كورونا، وما استتبعه من فرض للطوارئ الصحية الإلزامية، في مشاكل متعددة المظاهر، مختلفة الآثار والأبعاد. وكان مما طالته هذه الآثار خلية الأسرة. لقد ألقى الوباء بظلاله على الحياة العامة، ومنها الاقتصاد، والدخل الفردي، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية، وضمن هذه العلاقات، العلاقات بين الزوجين داخل الأسرة. لقد تمكن الوباء بأن يجد له موضع قدم داخل كل أسرة مغربية، ومن تجليات هذا الحضور إثارة بعض الظواهر التي وُظٍّفت في غير سياقها، ما دام المبرر قائما، ومن ذلك ظاهرة العنف الذي عرف منحى تصاعديا خلال فترة الوباء بفعل الحجر الصحي، باعتباره أداة من أدوات المواجهة التي اعتمدها الدولة تجنبا للعدوى، وحفاظا على سلامة المواطن الصحية. في مداخلة في موضوع: “العلاقات الزوجية وآثار الوباء”. (رابط الحلقة على اليوتوب( youtu.be/QLt8jCfVMUs) تناول الحديث فيها تأثر الأسرة المغربية بالوباء في زمن الحجر الصحي، وهو ما أكدته نتائج الدراسة التي أجرتها المندوبية السامية للتخطيط خلال الفترة الممتدة من 15 إلى 24 من شهر يونيو لدى عينة تمثيلية تضم 2350 أسرة. والدراسة عبارة عن مقاربة ميدانية لتطور السلوك الاجتماعي والاقتصادي والوقائي في ظل وباء “كورونا” ومحاولة لتقييم آثار هذه الأزمة الصحية على مختلف شرائح السكان المغاربة، من حيث الولوج إلى التعليم والعلاجات الصحية والشغل والدخل. وقد شملت الدراسة بالبحث ستة مجالات، تتمثل في مستوى فعلية الحجر الصحي، ووضعية تزوُّد الأسر بالمواد الاستهلاكية ومواد النظافة، ومصادر الدخل في وضعية الحجر الصحي، والعلاقات بنظام التعليم والتكوين، والحصول على الخدمات الصحية، والتداعيات النفسية. وقد أظهرت الدراسة، اعترافا واضحا بتأثير الوباء على الأسرة المغربية، وهذا ما يُهِمُّنا في هذا المقال، وذلك بالتركيز على التداعيات النفسية للوباء، وعلاقة الأسر بمحيطها الداخلي والاجتماعي. لقد أظهرت نتائج الدراسة آنفة الذكر، تأثرا واضحا بالوباء لدى الأسرة المغربية، تترجم هذا التأثيرَ النفسيَّ الأرقامُ المعبرة، في الوسطين الحضري و القروي، مع نسبة ارتفاع في الوسط الحضري، على النحو التالي:
القلق، بنسبة 49.8 %. وقد توزعت دواعي للقلق، عند الأسر، بين خطر الإصابة بالعدوى بنسبة 48%، وفقدان الشغل بنسبة 21%، والوفاة بالوباء10%، وعدم القدرة على تموين الأسرة بنسبة 10 % والخوف على المستقبل الدراسي بنسبة 5%.
الخوف بنسبة 40.3 % ، متمثلا في الشعور برهاب الأماكن المغلقة بنسبة 32.2 %، وتعدد أنواع الرهاب بنسبة 28.8 %، واضطراب النوم، بنسبة 27.9 %، والملل، بنسبة 9.1%، وفرط الحساسية العصبية، بنسبة 9 %.
إن نتائج هذه الدراسة، تؤكد ما أشرنا إليه، بحضور الوباء السلبي على مستوى الأسرة. وإذا كانت هذه الأرقام عينة طبيعية، فإن لها مراجع موضوعية، استطاع الوباء أن يكشفها للعلن، بعدما ظل العقل أو العادات والتقاليد، أو “الأنفة” تصرّ على تجاهلها وتلافيها لاعتبارات مختلفة. ولذلك تعتبر نتائج هذه الدراسة، تأكيدا للحقائق العلمية التي كان مجالُ اكتشافها ” مختبرَ كورونا” الذي كشفت نتائج ” تحاليله” أن هناك وضعا غير صحي بالمعنى البيولوجي، لكن أيضا بالمعنى الاجتماعي إلى جانب النتائج على المستوى الاقتصادي. في بدايات تطبيق الحجر الصحي أشرت إلى بعض الدراسات العلمية التي أجريت في بعض البلاد المتقدمة، التي خلصت إلى أن الوباء أزال الغطاء عن بعض المكنونات في العلاقة الزوجية، بعدما انتهت مرحلة ما يسمى بالـــ “سلم الزوجي”، ويعني ذلك أن بعض خصوصيات كلٍّ من الزوجين ظلّ مسكوتا عنها، ومستبعَدا إثارتهُا تجنُّبا للمواجهة المحتملة، بمعنى أن الخصوصيات التي تربى عليها كلٌّ منهما ظلت كامنة، غير معلنة بقصد أو بغيره. لكن حين نزل الوباء بثقله الزمني، واستطاع أن يحجر الأسرة في البيت لمدة طويلة نسبيا،- والطولُ هنا باعتبار الخروج عن المألوف والعادة-، طفا على السطح نمط جديد في العلاقة بين الزوجين، ترجمه هذا الطارئ من المواجهة بين الطرفين، وهو ما عبرت عنه نتائج الدراسة المذكورة التي ذكرت، أن 34.1 %من المغاربة، صرحوا بأنهم عانوا من نزاعات مع الزوج أو الزوجة، و 59.8 %تحدثوا عن وجود صراعات مع أحد أفراد الأسرة غير الأزواج، و6.1 %صرحوا بأن هناك نزاعات متنوعة بين الزوج وأفراد الأسرة. أما الأسباب التي ترجع إليها المواجهة والنزاع، فلم تخرج عن كونها أسباب مادية صرفة، من قبيل نقص المال والمشاكل المادية بنسبة 21.7%، والمشاركة في الأعمال المنزلية بنسبة 9 %، وتدبير الأنشطة الترفيهية كمشاهدة التلفاز والأنشطة العائلية بنسبة 6.7 % ، في حين صرح ثلثا المغاربة بأن مشاكلهم مع أزواجهم ارتفعت عن المعتاد، بسبب تربية الأطفال خلال هذه الفترة. ومرجع التركيز على الطابع المادي لهذه الأسباب، يرجع -في تقديري- إلى إحجام المستجوَبين عن الاعتراف بالمسكوت عنه في العلاقة مما ذكرنا، بدافع غياب الوعي بالأسباب الحقيقية التي تكتسي طابعا نفسيا مكنونا لدى كل طرف، أو من باب اعتبار ذلك من الخصوصيات “المحصَّنة”، ولذلك تحدثت بعض الدراسات العلمية المهتمة بالأسرة عن بعض الأسباب النفسية الكامنة لدى كل طرف، بحيث لم يكن من العادة أن يبقى المرء في البيت مدة متواصلة من الزمن طيلة أربعة أشهر تقريبا. ويبرز عامل الوباء، عاملا قويا في ارتفاع درجة النزاع والمواجهة بين الزوجين، ومن تمظهراته ما لوحظ من بعض مظاهر العنف المسلط على بعض النساء، والدعوات المطالبة بالتبليغ عنه، مع ملاحظة الأحادية في إثارة الموضوع لدى بعض الهيئات، حين تختصر العنف في طرف واحد دون الطرف الثاني، مع العلم أن العنف – بأشكاله المختلفة، اللفظية أو الجسدية أو الجنسية- قد يكون متبادلا بين الزوجين، وهذا مرده إلى تغيّر وظائف الأسرة، بفعل الوباء وما صاحبه من حجر إلزامي. لقد تغيرت عادة الخروج والدخول لدى الزوج في وقت معين، وبعد أن كان يجد وقتا يقضيه رفقة الأصدقاء، أصبح ملزما بالبقاء داخل حيز مكاني محدد لفترة أطول، ينضاف إلى ذلك وجود الأطفال المستمر بعد تعليق الدراسة. أما الزوجة فقد وجدت نفسها، مطوّقة بوضع جديد على مستوى الأشخاص والحضور الفعلي المستمر، خاصة الزوج. وفي محاولة لتشريح هذا الوضع الطارئ داخل الأسرة، أشارت بعض الدراسات العلمية إلى بعض العوامل النفسية، التي استندت إليها دراسة المندوبية السامية لتحليل الظاهرة، كالقلق والخوف من الإصابة، والعدوى وشبح الموت، لكن ما لم تستخلصه الدراسة الرسمية من العوامل، يمكن إجماله فيما يلي:
1.انكشاف ما يعرف بــ” استراتيجية تشتيت الانتباه”: بمعنى أنه ربما لم يكن كلا الطرفين- الزوجين- يعرف الآخر حقيقة، فاكتشفا في فترة الحجر الصحي طيلة أشهر، أنهما كانا يعيشان تحت سقف واحد، لكنهما في الحقيقة، ظلا يعيشان غريبيْن دون سابق معرفة، ودون وعي، فكان الذي استفز هذا الوعي، هذا الوباء الطارئ، وطول الاستقرار الذي تمخض عنه طول المكوث في البيت، ومن ثم اضطربت وظيفة كل واحد منهما خلال الحجر الصحي. وهذا الوضع الطارئ في العلاقة، مردُّه إلى العجز عن امتلاك القدرة على “تشتيت الانتباه”، ومعنى ذلك أن هذه الحالة عبارة عن نازع نفسي، ظلت تحكم الزوجين من أجل التملص من إظهار الخصوصيات الشخصية لكل منهما، بالرغم من طول مدة الزواج أو قصرها، خوفا من عدم التقبل، بمعنى أن الزوجة – بقصد أو بدونه-، لا ترغب في إظهار شيء لزوجها، تعرف مسبقا أنه لا يتقبله، أو سيتفاعل معه بغضب، أو لامبالاة، فتعمَد إلى تشتيت انتباه الزوج، كنوع من التمويه درءا للأسوء. والزوج، بدوره مع طول الاستمرار في الوجود في البيت، تبدأ بعض خصوصياته التي ظل يخفيها، ويحتفظ بها لنفسه طيلة فترة “السلم الزوجي”، في “الانكشاف”، تفاديا للتفاعل السلبي الذي يُتوقَّع من الزوجة، ومن ثم ظل التعايش الزوجي في العلاقة محكوما بتجنّب المواجهة، ما دام كلاهما يجد “متنفَّسا” يترجمه الانشغال اليومي لكليهما داخلَ البيت عادة بالنسبة للزوجة، وخارجَه بالنسبة للزوج، وظلت استراتيجية “تشتيت الانتباه” كامنة لكونها تجد مرتعا خصبا في الأمر الواقع اليومي، الذي حدّد كلا الطرفين مجاله المكاني والزماني بفعل الحجر، لكن الذي أيقظ هذا الكمون من سبات، وفكه من عقال، هو الحجر الصحي الطارئ الذي فاجأ الزوجين، حين وجدا نفسيْهما في مقابل بعض، لمدة تزيد عن المعتاد المتمثل في الوجود اليومي المستمر، في مساحة مكانية محددة، وحتى العمل الذي كان يأخذ نصيبه من اليوم، لم يعد متاحا، ومن ثم غدا التواصل المستمر المفاجئ، لا يسمح بإخفاء أي من الخصوصيات لدى هذا الطرف أو ذاك، وبدأت تظهر هذه المواجهة التي لها تجلياتها المختلفة، بحسب طبيعة التربية، والنشأة، والوعي لدى كل طرف، وبدأت القدرة في تشتيت الانتباه في التراجع طيلة الحجر الصحي، وكلما طالت هذه الفترة، كلما أرخت بظللها على العلاقة بينهما. وهنا تقترح بعض هذه الدراسات العلمية، بعض وسائل العلاج، للتخلص من هذه الآثار النفسية، وهو ما نتناوله في مقال قادم بإذن الله.