يا عدنان: إنا على فَقّدك لمحزونون
كمال الدين رحموني
يا عدنان: ألم يكن للناس أن يعجبوا، بل ويندهشوا، حين غادرتَ دنيانا على حين غرة، وحين قُتلتَ ببشاعة، وقبلها حين اختفيتَ واختُطفتَ بوقاحة وجراءة؟
يا عدنان: أكان عقلك الصغير يتخيل نهاية بُرعم ما كادت سيقانه الغضة تستوي، حتى داسها وحشٌ كاسرٌ ظنه الناس بشرا، فانزاح القناع الكالح لتنكشف سريرة نفس فاقت لؤم الأشرار، وتجاوزت بكثير شراسة الحيوان المفترس الأعجم.
يا عدنان: هل كان يظن أبواك أن ساديا سيسرق منهم براءة طفل يافع، ويَسلُبهم أملا ظل ينمو بنمو سنواتك الإحدى عشرة.
يا عدنان: أحيانا يقسو الآباء على الأبناء، وهم يحبونهم، وينسون أن الفَقْد قد يكون أقربَ من شراك نعالهم، وحينها تتعدد الحسرات، وتنهمر العبرات، فلا تُغني عنها الآهات، ويقول الإنسان ساعتها: يا ليتني لم أعاتبْ طفلي في ربيعه اليانع، وتتوارى كل المسافات الصغيرة، ويبقى ماضي الذكريات الجميلة.
يا عدنان: يوم وُلدتٓ، تسلّلت فرحة عارمة -ظلت مؤجلة- إلى أبويك، ثم انتقلت عدواها إلى محيطك، واحتفى الناس بولادتك، وتداعى الأقربون مهنئين بقدومك، واجتمعوا لتهنئة والديك، ويوم فقْدك، عادت ذكريات ماضيك القريب تستعرض صفحاتك البيضاء الجميلة: هنا، نام عدنان، هنا سقط عدنان ذات يوم وهو يحاول الوقوف، هنا تدرّج عدنان بين جنبات بيت صغير، وهناك في لحظات المرح والفرح، عاد عدنان يجري ملوحا بيديه:
أنا هنا، لقد تعلّمت…لقد نجحت…لقد كبرت..
هكذا كان عدنان يسشترف مستقبلا ورديا، ظنّه ممكنا، لكن غاب عنه -وهو الطفل الغرّ- أن الحياة غابة تضج بكائنات تتربص ببراءة الآخرين، ولا تعبأ بآمال الآخرين، وإن كانوا من القاصرين.
يا عدنان: لقد دمعت العين واعترى النفسَ حزنٌ لا يُقاسُ بقرابة الدم، لكن بإحساس أب لو قدّر أن يُبتلى بمثل ابتلاء والدين مفجوعيْن مغصوبيْن في فلذة كبد قرّت بها العين ، وفي لحظة عابرة غدا الولد أثرا بعد عين، فكيف يكون الموقف؟
لكما الله يا والدي عدنان: الخَطْب جلل، والمصيبة أعظم، والفاجعة أشق، لكنك يا عدنان قد قدمتَ على من لا يسهو ولا ينام، ولا يغفل ولا يظلم، ونزلت برب رحيم فطَر قلوب الآباء على حب الولد، فهل يُضيّع الواهبُ ما وهب؟ كلا.
يا عدنان لو عددنا دقات قلبك الصغير، وأنت في قبضة الوحش الكاسر، كيف لم تنَلْ براءتك وفزعك من نفس تجردت من عاطفة الإنسان السوي، لأدركنا أن القدر أراد أن تقوم شاهدا، -وشهادُتك في الآخرة لن تُرَدَّ بإذن من بَرَأَكَ- وكيف يردُّ ربك شهادتك، وأنت لم تبلغ الحُلٌم، وأنت الذي شاء الله لك -ولأمثالك من الولدان المخلدين- أن تكون ريحانة من رياحين الجنة، تأتي شافعا محاججا عن والديك الصابريْن المحتسبيْن، هي بشارة النبي الأب الرحيم لكل من مات له ولد فصبر واحتسب، فهو الذي أخبر أن الله يقول لملائكته مبشرا كل أب وأم صابريْن على فقد الولد:” ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسَمُّوه بيت الحمد”.
يا عدنان، شاء ربك أن يهبك لوالديك، وقدّر أن تغادر إلى جواره مغدورا مقتولا.
يا عدنان ما ذنبك وأنت الذي لم تبلغ سن الرشد بعد؟ ما وزرك وأنت الطفل الغِرّ، الذي غرّتك ثقةٌ رٌبيتَ عليها، وخانتك قيمٌ طيبة عُلِّمْتَها، فإذا بها تصادِر حقك الطبيعي في النمو والحلم، وتقتلع مَقامك ومُقامك من رحلة الطفولة البريئة.
يا عدنان: لكم يذهل العقل، ويُصدَم الفؤاد، لكم يخيم الحزن على النفس، ويحار المرء: ألهذه الدرجة يقسو البشر، أبهذه الفضاعة يُهدَر الدم؟ أبهذه القسوة تُغتٓصب براءة الطفولة، في زمن تنعق بعض الأصوات منادية بإلغاء عقوبة الإعدام، فهل تُسامح ياعدنان من صادر حياتك ونكّل بجسمك الطري، وهل تغفر لكل من لازال يصرّ على الخوض في هذه العقوبة التي شرعها كتاب رب العالمين؟
يا عدنان: هل من حقك لو استعدتَ روحك البريئة أن تتنازل عن حق القصاص والمعاملة بالمثل، أليس في “القَصاصِ حياةٌ يا أُولي الأَلْباب”؟بلى.
يا عدنان: ليس الفَقْدُ لوالدين مكلومين فحسب، إنه فقْدٌ لكل أبوين، ربّيا وتعاهدا وجاهدا وصبرا. ليس الفقْدُ لوالدين مكلومين فحسب، بل الفقْدُ لكل أبوبين عاشا على أمل، وراهنا وتحَدَّيا عوائق شتى، ليغدو عدنانُ وأقرانهُ شابا يافعا، ثم رجلا يحلم بمستقبل يعمّه الأمن والأمان، وتلفّه الطمأنينة والحنان.
لذلك ياعدنان: نم مطمئنا في قبر يضمّك، كما ضمّك صدر أم حنون، يوم كنت ترتوي من لبنها الدافئ.
يا عدنان لا تظنّ أن حقك سيضيع هدرا، كن على يقين أن دمك المُراق سيجري في عروق كل أب وأم، كن على يقين أن اليد الآثمة التي امتدت إلى جسدك الطري بالإيذاء، لن تنجو من قصاص عادل.
يا عدنان: لو سألت كل أب وأم عنك لكان الجواب واحدا: نحن كلُّنا لك آباء وأمهات، نحن كلنا على فقدك لمحزونون.
يا عدنان، نم في قبرك مرتاحا، على موعد مع والديْك المكلوميْن في جنات النعيم بإذن رب رحيم، وعلى جزاء عادل لقاتل آثم أثيم.
كمال الدين رحموني