مأساة عدنان المغدور، والطريق المسدود
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
مأساة عدنان المغدور، والطريق المسدود
بقلم : عبد المجيد بنمسعود
مثلت واقعة العدوان على الطفل عدنان باغتصابه وقتله ودفنه في مشهد رهيب ضارب في الشراسة والهمجية والقسوة، لحظة حالكة السواد في حياة الشعب المغربي، بالغة أقصى حدود البشاعة التي تند عن الوصف والتصوير والتعبير، فلن يفي قاموس الألفاظ الخاصة بتوصيف معاني الشر وسلوك الأشرار، إطلاقا، بغرض رسم صورة كاملة لطبيعة الجرم الشنيع والعدوان الفظيع الذي مورس على الطفل عدنان بانتهاك حرمته، وهتك عرضه، وإزهاق روحه. فالغصة المتولدة عن الجريمة البشعة النكراء، غصة لا حدود لها، والشعور بالغبن الذي نجم عنها شعور عارم وساحق، مس بنيرانه اللافحة كل نفس تملك ذرة من الآدمية في طول الوطن وعرضه، وتقيم وزنا للطفولة البريئة، ولقيمة الحياة، ولحق الإنسان عامة في الحياة الآمنة الكريمة، أما أسرة عدنان المكلومة – التي يشكل طفلها المغدور غصنا نضيرا هصر من شجرتها المتطلعة للنماء والإثمار، في لحظة جنونية خرقاء، تعكس غيبوبة مجتمعية مأساوية عن مجمل معاني الرشد، التي يصبح المجتمع بدونها جسدا بلا روح، وسفينة بدون ربان- فالله وحده عليم بما يعتلج في أعماقها من مبرح الآلام، وبما اكتوت به من نيران الفقد التي تلتهم الأكباد، وبما يعتمل في كيانها من مشاعر الغيظ والغضب، وهواجس لا يدرك حقيقتها إلا من كابدها وعاناها، ممن كانوا ضحايا لهذه الفوضى العارمة، ولهذا التسيب اللامحدود، الذي يتمثل في فقدان البوصلة الهادية، بل في ما يشبه عملية إصرار على استدامة وضع منحرف، يتمثل في غياب أو تغييب القانون الصارم الكفيل بحماية الحياة، والحيلولة دون اغتصابها وإعدامها، والوقوف سدا منيعا في وجه أي مظهر من مظاهر العبث والفساد، والاستهتار بأي مقوم من مقومات الوجود الإنساني الكريم. فعدنان رحمه الله لم يكن أول ضحية لذلك الوضع المجتمعي اللاسوي، ولا هو آخر ضحية، في خضم التيار الجنوني الجارف، الذي يقتلع الأشجار، ويسكت أغاريد العصافير والأطيار، فلائحة الأطفال الأبرياء – الذين سلبت حياتهم، واختطفوا من أحضان آبائهم وأمهاتهم، واخترمت حباتهم من عقد الطفولة النظيم، ومن أحضان المجتمع- لائحة طويلة، تشكل صك إدانة لقانون جنائي عقيم، يستمرئ الدوران في دائرة مفرغة، ويعبر عن عجز ذريع، وعن فقدان للقدرة على تصحيح الذات، وتصحيح المسار، ومسح العار، بالسعي الصادق إلى تحقيق الإنقاذ، بالرجوع تحكيم شرع الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
بل إن الأدهى والأمر في الوضع الراهن، هو عدم الاكتفاء بهذا التخبط والتأرجح في أسلوب التعامل مع هذا الانفلات الأمني الشنيع، ومع من يتولون كبر هذا الانغماس والولغ في دماء وأعراض الأطفال، وغير الأطفال،بل تجاوز ذلك إلى النزوع أو الاستعداد للتراجع خطوات إلى الوراء، وذلك بالتراجع عن القانون المتعلق بعقوبة الإعدام في حق المنصوص على من يستحقونه من المجرمين. فمجرد جعل عقوبة الإعدام محل مراجعة وتساؤل، ومحل مساومة وارتياب، يعد علامة على خطر ماحق يحدق بالوضع القانوني الذي يمثل – في حالة استوائه ومصداقيته – درعا واقية وصمام أمان، وحصن حراسة وضمان، لاستمرار نعمة الحياة، في توهجها وانطلاقها، وفي تفتقها وعطائها، فما بالك إذا كشر المتربصون عن أنيابهم، في اتجاه تكريس الإطاحة بعقوبة الإعدام جملة وتفصيلا، تحت ذرائع فجة، ووفق تبريرات واضحة التهافت والبطلان.
إن من يتابع حركة السجال الكثيف الذي أطلقه اغتيال الطفل عدنان، وتغييبه من مسرح الحياة – بدم بارد، وانفلات من أي اعتبار، وانسلاخ من أي إحساس، يمت إلى الآدمية بصلة- يلحظ بوضوح، مدى التخبط الفكري الذي آل إليه الوضع الثقافي في المجتمع، إلى الدرجة التي تثير الغثيان في نفس كل من يملك ميزان الفطرة الذي يزن الأشياء في ضوء قيم الحق والخير والجمال، التي تضمن سيادتها توازن الحياة، وسعادة الفرد والمجتمع.
ففي مقابل الفئة التي تملك ذلك الميزان الذهبي – الممثل للرشد والدال عليه، والذائد عن حياض المجتمع هجمات الذئاب، وتربصات الحمقى والمعتوهين- انطلقت أصوات ناعقة، تعبر عن مواقف غاية في السماجة والاستهتار، وذلك برفضها ومعاكستها للمطالبين بتنفيذ حكم الإعدام في حق المجرم السفاح الذي فجع شعبا بأكمله في أحد أبنائه وأعضائه، وهو في نفس الوقت إعدام للمجتمع، بالمفهوم القرآني، مصداقا لقوله تعالى:” مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( المائدة:32).
لقد حشر بعض مدعي الثقافة والاستنارة أنوفهم في هذه القضية، معلقين على هذا المصاب الجلل، بدم بارد، وعقلية متكلسة، غير عابئين بفداحة الجرم، ولا واضعين في حسبانهم مقدار الخسارة التي يتكبدها المجتمع في ظل هذا الواقع الأليم، الذي أريد له أن يظل مشهدا مألوفا يدعى الناس – بلسان الحال، ومنطق الواقع المفروض – إلى تطبيع أنفسهم معه، وكأنهم سكان غابة يسودها قانون الغلبة والافتراس، والبقاء للأقوى، لا سكان مجتمع مدني، يحكمه النظام، وتنسج قيم الخير والفضيلة والجمال بين أفراده أواصر المحبة والوئام، والتعاون والاحترام، حتى كأنهم بمثابة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما جاء في حديث خير الأنام، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
قال أحد هؤلاء القوم: ( أوسي موح لحسن: هسبرس)” وكانت المطالبة بإنزال أقصى العقوبات على منفذها بعيدا عن النقاش الحقيقي، ودون استحضار المنحى الذي يسير فيه التوجه الحقوقي للمملكة”. إن صاحب هذا الكلام لا يصح عنه حتى القول بأنه يغرد خارج السرب، لأنه تجاوز هذا المستوى، بإخراج نفسه من دائرة المجتمع الذي يكتنفه، ودائرة الإنسانية التي تقتضي من الإنسان أن يبكي لبكاء إخوته في الإنسانية إذا ما ألمت بهم المصائب، ونابتهم الخطوب بأنيابها، فمزقتهم شر ممزق. إن هذا الشخص لم يكن عند اللحظة الرهيبة لا في العير ولا في النفير، فقد طمست بصيرته، وحجبت عنه الحقيقة، وظل في حالة تجاهل لما يحيط بالناس من هم ونكد، ومن آلام ولأواء. فالذي يهمه ويؤرق فكره، هو أن يبلغ النقاش الدائر حول موضوع إلغاء عقوبة الإعدام غايته التي يتوخااها هو وأمثاله منه، بغض النظر عما يترتب عن ذلك من زيادة في منسوب التسيب والفوضى، باستفحال الجرائم التي تودي بأرواح الأبرياء، صغارا وكبارا، رجالا ونساء، في مجتمع أعيته الحيل، ودخل في دوامة من العنف المدمر الذي يأتي على الأخضر واليابس، وتحول إلى جحيم لا يطاق، مجتمع شريد، تحز فيه الأعناق، وتقطع الأرزاق.
فأي توجه حقوقي هذا الذي يتمثل في هدم ركن من أركان النظام الجنائي، هدم لا مبرر ولا أساس له من الواقع والمنطق، فقد دلت تجارب الإنسانية أن “القتل أنفى للقتل”. وفوق كل اعتبار، أو تذبذب في الاختيار، فإن شريعة الإسلام، شريعة الفطرة التي فطرالله الناس عليها، حسمت الأمر، واعتبرت القتل قصاصا، صمام أمان، بل اعتبرته حياة، أي حماية للحياة، يقول الله عز وجل:” وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” ( البقرة:179).فهل بقي هناك مجال أو مصداقية للنقاش في هذه المسألة في مجتمع يدين بالإسلام، خارج دائرة الإسلام؟ كلا وألف كلا، إلا أن يكون الهدف هو المشاغبة واللغو، الذي يسعى بأساليب شيطانية ماكرة إلى عزل المجتمع عن أي توجه نحو مداواة جروحه ببلسم الإسلام، وإلى الحيلولة دون استبقاء بعض الشروط أو الخمائر التي تحافظ للشعب على صلته بقبسات من روح الإسلام، وسط خضم هائل من أمواج العلمنة والتغريب، التي تسعى إلى جرف المجتمع إلى هاوية ليس لها قرار.
وفي سياق السعي إلى معالجة واقع الجريمة خارج نطاق الدين، يجهد أحد كتاب هسبرس( رمضان مصباح الإدريسي) نفسه في فصل عقوبة القتل عن إطار الدين( الإسلام)، وإعطاء الأسبقية للعرف في تأطيرها، وإرجاعها إلى قانون حمورابي، يقول:
إنه حق ثابت وقوي، ومصدر قوته العرف، وهو يعتبر مصدرا من مصادر التشريع، بل أقواها، لما يدلي به من ممارسات موغلة في التاريخ، قد يكون حمورابي أول من قننها.
ثم يردف قائلا:( إن الغضب الشعبي، في طنجة وفي كل ربوع الوطن، يفسر باستعادة قوية ومباغتة لعرف قصاصي موغل في القدم، دون أن يكون المصدر هو الدين دائما، وهو شديد الوضوح في هذا الأمر).ه
فهل يعقل أو يليق، أن نعطي الأسبقية للعرف على الدين، في ظل مجتمع المفروض فيه أن يعيش تحت مظلة الدين، بما يقوم عليه من أحكام ثابتة، فلماذا هذا التفلت وهذا الروغان؟ إن لنا غنى بديننا وفي ديننا عن كل الأعراف والتقاليد، بغض النظر عن كون بعضها ملتقيا في مقاصده مع ما جاء به الإسلام، وما سنه من تشريعات وأحكام. يقول الله عز وجل:” أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( المائدة50).
ونقلت هسبرس عن عصيد قوله في ندوة تفاعلية نظمتها حول موضوع ” البيدوفيليا وتفعيل عقوبة الإعدام”،(أن عقوبة الإعدام ليست حلا لمشكل البيدوفيليا ولن تنهيه”، داعيا إلى البحث عن بديل لعقوبة القتل والإعدام، قائلا بأن ( هناك فئة داخل المجتمع تطالب بتطبيق “شرع اليد” ، وتريد امتلاك السلطة للانتقام، وهذا أمر خطير). واسترسل قائلا( هؤلاء لا يقلون وحشية عن الوحش نفسه الذي اعتدى على الطفل)، ونقلت هسبرس عن عصيد قوله بأن( عقوبة الإعدام تمثل بداية مشكل وليس نهايته، لأن المطالبة بقتل الجاني وسلب حياته لن ينهي المشكل الأصلي)ه
إنه من الواضح للعيان، أن عصيدا هذا، يعطي الحق لنفسه- شأنه في ذلك شأن فصيلته من المتمردين على الدين – في التعقيب على شرع الله عز وجل الذي نص على تنفيذ القتل وما يرتبط به من صور، في حق فئة من أهل الإجرام والعدوان، لأنه وحده، دون غيره، الذي يحمل في الآن نفسه، صفة العقاب للمجرم، والزجر لمن تسول لهم أنفسهم من المرضى والمنحرفين، التعدي على حدود الله، والتطاول على حرماته، دينا كانت، أو نفسا، أو عرضا، أو مالا. فالله عز وجل وضع للناس، بعلمه ورحمته، ولطفه ورأفته، وجبروته وقوته، في كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما هو كفيل بتطهير الإنسان والمجتمع، من العقد والإحن والأمراض، ومن أشكال الفسوق والعصيان، والتمرد والعدوان، وتحرير البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من كل الملوثات والمنغصات، التي تكبل حركة الإنسان، وتهدر طاقاته الهائلة التي وهبها سبحانه وتعالى الإنسان، لتسخر في البناء والإصلاح، ثم يأتي الجهال عديمو الحياء، الغارقون في شتى العقد والعلل، لنقض أحكامه، والانتقاص من شرعه، والزعم بكل دناءة وجراءة، وخسة وصفاقة، بأن ما ارتضاه الله عز وجل حلا لمعضلات الإنسان والمجتمع، ليس بحل، ولا هو كفيل بإنهاء الأمراض والاختلالات.
وإن من يتطاول على الله عز وجل، وعلى شرعه الحكيم، ولا يملك حياء يرده عن ذلك، لا يتورع طبعا عن الكذب والافتئات على خلقه، فعصيد يتهم المطالبين بإيقاع حكم الإعدام على “البيدوفيل”، بأنهم يطالبون بتطبيق ” شرع اليد”، وبأنهم لا يقلون وحشية من الوحش الذي أودى بحياة الطفل عدنان رحمه الله، وفجر بركانا من الغضب والآلام، وحفر في نفوس الرحماء أخاديد من الكآبة والأسى، يستحيل التئامها على مر الأيام.
فهل طبق أهل الشهيد المغدور عدنان ” شرع أيديهم” في المجرم اللعين، أم إنهم طالبوا بإيقاع شرع الله عليه؟ إنهم طالبوا بشرع الله لا بشرع اليد.
أما الذين يريدون تطبيق، ليس شرع اليد، ولكن شرع الغاب، ويبغون حكم الجاهلية، فإنما هم عصيد ومن لف لفه، ممن لا ديدن لهم في هذه الحياة، إلا التصدي لشرع الله ومعاكسته، واختلاق جوقة اللغو والشغب حول كل ما له صلة أو علاقة بدين الإسلام، وثقافة الإسلام.
إن من تجف مشاعره إلى حد التحجر، ولا يحركها مثل ما تعرض له الطفل عدنان، والعشرات، أو المئات من أمثاله، من الغصب والعدوان، لا يمكن أن يظل منتميا إلى الآدمية إطلاقا، بل لا بد أن يصنف ضمن فصيلة خاصة من الكائنات، ساقتها ملابسات معقدة، لتصاغ وفق شاكلة تطبعها الغرابة، والشذوذ عن منطق العقل الصحيح، والفطرة السوية السليمة.
أمن المعقول أن يصف عصيد من طالبوا بإيقاع العقاب العادل على المجرم بوحشية لا تقل عن وحشيته، إن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يقوله إلا إنسان فقد البوصلة، واختل في عقله الميزان، فراح يلقي الكلام على عواهنه، ويهرف بما لا يعرف كما يقال.
لقد شكلت واقعة عدنان ومأساته الرهيبة، مسرحا للسجال، وتناقض المواقف والأقوال، ودخل على الخط فيها أناس من فصائل شتى، ممن ينسبون إلى مدارس وتخصصات، يزعم أصحابها لأنفسهم باعا في الفهم والتقدير، وفي تفسير الظواهر والأحداث، تفسيرا يزعمون له العلمية والموضوعية والحياد. من هؤلاء جواد مبروكي، خبير هسبرس ومرجعها في تحليل الظواهر النفسية والاجتماعية، الذي لم يفته أن يدلي بدلوه بين الدلاء، في هذا المصاب الجلل، والفاجعة النكراء.
لقد نسبت إليه هسبرس قوله: ” أنّه “يصعبُ إطلاق حكم مسبق على ما يسمّى البيدوفيل، فالخبرة الطّبية النّفسية هي التي تحدّد ما إذا كان الأمر يتعلّق بمرضى نفسانيين يعانون أمراضا وعقدا متراكمة، وبالتّالي فالقضاء هو الجهة الوحيدة المخوّل لها تحديد توصيفات الجاني أو المغتصِب”.ه
إنه لطالما تخفى كثيرون ممن ينسبون لعلم النفس والاجتماع، وراء هذه العلوم وهي منهم براء، لتبرير كثير من الجرائم التي تهز المجتمع، وتذيقه الويلات، وتسعى إلى ترجيح كفة المجرمين رغم كل ما يجرونه على المجتمع من مظاهر الشؤم، وصنوف الشقاء، وعوامل الانفراط والدمار.
إنها ذريعة سهلة في متناول كل مجرم معتوه، وكل من يدافع عنه بصفاقة و بدون أدنى حياء. إنها عملية تدليل، أو ” تفشيش” بالمعنى الدارج، للمجرمين المهددين لأمن المجتمع وسعادته واستقراره، تخول لهم أن يمرقوا من العقاب، فنكون أمام عملية تشجيع مبطنة تحت لافتة العلم والتخصص العلمي.
وإنه لمن الظلم المركب حقا أن تساهم فصيلة ممن يمارسون إفسادهم للإنسان والمجتمع، تحت غطاء التخصص العلمي، بأفكارهم في تمزيق شبكة العلاقات الاجتماعية، وإضعاف أو إتلاف جهاز المناعة لدى الشعب، حتى إذا نتج عن ذلك سقوط للناس في شباك الرذيلة، وتعرضهم لاختلال الفكر والسلوك، وفقدان الميزان، طفق مدعو علم النفس والاجتماع يدافعون عنهم ويبررون فسادهم وانحرافهم وعدوانهم. وهذا – لعمر الحق – يشكل عملية زور خطيرة ومدوية، وجريمة مزدوجة، يشارك “المتفلسفون” في صنع أسبابها، وتكريس نتائجها.
لقد قال بعض من كتبوا في الموضوع، بحق، ( رمضان مصباح الإدريسي)، (كيف ندير الظهر لأم عدنان وأبيه، وللمواطنين الذين هيجتهم بشاعة الجريمة، ونخلع على المجرم بردة الحق في الحياة؟
كيف نقنع روح عدنان بأن كل الألم الذي عاناه، وصولا إلى الذبح، لا يجب أن ينتقص من حق المجرم في الحياة وحقه في التقويم والتهذيب واستهلاك غذائه من مال دافعي الضرائب؛ وقد يتزوج وينجب على هواه؟) ه
وردا على المتحذلقين ممن تجردوا من أي ذرة من حياء، في حلقة إذاعية حول الموضوع، قالت نجية أديب، رئيسة جمعية ” ماتقيش ولدي” في لهجة ساخرة معبرة: ما معناه: إذن نحن مطالبون أن نرفع المجرم في العمارية، حتى يطمئن ويرتاح هؤلاء المزورون.( بفتح الواو الأولى وكسرها).
ودعت الحكومة والسلطات، في مداخلة بهسبرس- محقة وبلهجة قوية -:” إلى تجنيد كل قدراتها لحماية الأطفال، كما تجند ضد الإرهاب وكورونا، رافضةً وصف “البيدوفيل” بالمريض النّفسي، لأنّ هناك تخطيطا لتنفيذ عملية الاغتصاب عن سبق إصرار وترصد، إذ إنّ “بيدوفيل طنجة مثلاً استدرجَ الطّفل وذهب به إلى المنزل واغتصبه وقتله ثمّ دفنه”.
إنه من الغريب حقا، أن يدافع المتحذلقون من محترفي الدفاع عن حقوق الإنسان، عن المجرمين، ويجهدون أنفسهم في ربح معركة ذلك الدفاع، بدرء عقوبة الإعدام عن أجسامهم المنخورة، وأرواحهم الخبيثة القذرة، وذلك تحت غطاء حفظ حق هؤلاء القتلة الغاصبين في الحياة. مما يثبت تحيزهم والحال هذه، إلى جانب القتلة المجرمين، ضد من أطاحوا بهم ممن وقع عليهم القتل والعدوان.
فهل القاتل أولى بحق الحياة من المقتول؟ إن هذه لإحدى الكبر.
إن المجتمع لو ساير هؤلاء المختلين منطقيا،لأصبح ساحة تزخر بالدماء، وتنتشر وتسبح فيها الأشلاء. يقول الله سبحانه وتعالى:” وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (المؤمنون: 71).
وعودا على بدء، أقول لعصيد، إذا كان قتل المجرم لا يحل المشكل ولا ينهيه، فما الذي يحله إذن؟ إن الله سبحانه وتعالى يقول، وهو خير القائلين، جل جلاله:” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (المائدة: 33).
إن الذي يعيد الأمر إلى نصابه، ويحفظ الحياة ويذود عن حياظها، إنما هو تطبيق شرع الله عز وجل، وإن منطق الإسلام يقول ما مفاده، أن بقاء الإنسان والمجتمع بعيدا عن مظلة شرع الله الحكيم، ودائرته الآمنة العصماء، لهو وقوف في العراء، بما يعنيه ذلك من التعرض لأصناف الأخطار والأهوال، وأنواع الحراب والنبال، وأشكال العذاب والنكال.
إنه لا يجوز لمجتمع عاقل راشد، بحكامه ومحكوميه، بمثقفيه وعالميه، أن يظل في حالة تخدير وذهول، وهو يشهد مآتم القتل والذبح والافتراس، ومظاهر الفسوق والفجور، ويظل صامتا صمت القبور.
إني لألمح روح عدنان، وأرواح المئات من إخوانه وأخواته، وهي ترفرف بأجنحة البراءة والطهر، فوق عالمنا المضرج بدماء الأبرياء، الملفع برداء المآسي، والكآبة السوداء، وتصرخ بصوت مدو جهير، وتجأر للعلي القدير، الذي يحاسب على النقير والقطمير، أن يهيء للمجتمع أسباب الرجوع إلى رحاب الشرع الحكيم، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. وإن أي نكوص عن هذا السبيل، ليفضي لا محالة إلى طريق مسدود، ويعرض الأمة لسوء النكال، ولخطر الاستبدال.
ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
وجدة في 23 – 09 – 2020